في وطني في وطني الذي لن أعود اليه، ثمّة بحيرة غابية عظيمة، غيوم وسيعة، ممزقة ثمة عجيبة، أتذكرُها، حينما ألقي نظرة ورائي. وثمة همسُ مياهٍ ضحلة في غسق معتم، وقاع ذو أعشاب شوكية، وصراخُ نوارسَ سوداء، واحمرارُ المغارب الباردة. وصفيرُ الأوزّ المتقد في الأعالي. بحيرةُ الأشواك ذي تغفو في سمائي ميل فأرى هناك على القاع لمع حياتي. وهذا ما يرهبني. هناك قبل أن يَخطّ الموتُ حياتي الى الأبد. الأمل الأمل يكون حينما يؤمن المرء بأن الأرض ليست حلماً لكنما جسد حي وأن البصر واللمس والسمع لا يكذب وأن الأشياء التي عرفتها هنا كحديقة حينما تقف عند البوابة. لا يمكنك الدخول اليها. لكنها موجودة حقاً لو أننا نظرنا بوضوح أكثر بحكمة أكبر، لرأيْنا في حديقة العالم زهرةً جديدة أخرى وأكثر من نجمة. البعضُ يقول: العينُ تخدعنا لأنه لا شيء هناك سوى ما يتراءى لنا. لكن هؤلاء بالتأكيد بلا أمل. هم يظنون أن المرء حالما يستدير يتوقف كلُّ العالم بعده فوراً عن الوجود كما لو أن أيدي لصوص قد اختطفته. الحب الحبّ يعني أن تنظر لنفسك مثلما تنظر الى أشياء غريبة عنك لأنك واحد من أشياء عديدة. ومن ينظر هكذا، على رغم أنه نفسه لا يعرف ذلك، يَشفِ غليله من هموم كثيرة. الطائر والشجرة سيقولان له: يا صديق. وحينئذ سيسعى لتوظيف نفسه والأشياء. كي يقفوا في توهج الاكتمال. وليس مهماً ألاّ يعرف أحياناً ماذا يخدم: ليس الذي يخدم أفضلَ، يفهم دائماً. كينونة تمعّنتُ بهذا الوجه شاخصاً. توالت الأضواءُ في المترو، لم أحسّ بها. ما العمل؟ والنظر لا يملك قوة مطلقة، الى الحد الذي يسحب الأشياء بشرقةِ السرعة، مخلفاً وراءه فراغَ شكلٍ مثالي. علامةً. كهيروغليفية مبسطة من تخطيط حيوان أو طائر؟ الأنفُ أفطس قليلاً، الجبهة مرتفعة والشعر منسرح بتؤدة، خطُّ الذقن - لكن لماذا لا يملك النظر قوة مطلقة؟ - وفتحتان منحوتتان في بياض مشوب بالوردي وفيهما حُمَّةٌ داكنة لامعة. أن تستغرقَ في هذا الوجه، وفي الوقت نفسه تستحوذ عليه بخلفية كلّ الغصون الربيعية، الجدرانِ، الأمواجِ، في البكاءِ والضحك، في إعادته خمسة عشر عاماً للوراء، في دفعه ثلاثين عاماً للأمام. أن تملك. هذا ليس حتى شهوة. مثله مثل الفراشة، السمكةِ، سُويقٍ النبتة، لكنه شيء أكثر غموضاً. وما حدث لي أنني بعد كل محاولات تسمية العالم، صرتُ أعرفُ ترديد اعتراف وحيد لا غير، ما بوسع قوة أن تتجاوزه: أنا موجود، هي موجودة. اصرخوا، انفخوا في الأبواق، اعملوا آلاف المسيرات، تَقافزوا، شُقّوا ثيابكم، ستلهجون فقط: موجودة! ما الفائدة إذاً من الأوراق المكتوبة، الأطنانِ، كاتدرائيات الصفحاتِ، طالما أنا أتمتمُ كما لو كنتُ أول خارجٍ من الطفّال على سواحل المحيط؟ ما فائدة حضاراتِ الشمس، غبارِ المدن المتداعية الأحمرِ، الدروعِ والمحركات في غبار الصحارى، طالما انها لم تضف شيئاً لهذا الصوت: موجودة؟ هي نزلت في محطة راسبال. بقيتُ مع ضخامة الأشياء الموجودة: اسفنجةً تُعاني لعجزها عن الامتلاء بالماءِ، نهراً يعاني لأنّ انعكاساتِ الغيوم والشجر ليست بغيم ولا شجر. عندما القمر عندما يَبزغ القمرُ والنسوةُ يتنزهن في فساتينهن المزهرة تُتَيّمني عيونهن، أهدابُهن وكل ترتيبات العالم. يتراءى لي أنّ من هذا الميل المتبادل الساحر يُمكن في النهاية أن تَنبثقَ الحقيقةُ المطلقة. النافذة تطلّعت فجراً عبرَ النافذة فرأيتُ شجرة تفاح زاهية في بهائها. وعندما تطلعتُ فجراً مرة أخرى عبرَ النافذة ألفيتُ شجرة التفاح هائلةَ تنوء بثمارها. ربّما مضت سنوات عدة غيرَ أنني لم أعدْ أتذكر ما الذي جرى في حلمي. فصول السنة شجرة شفيفة مليئة بالطيور المهاجرة، في صباح كان أزرقَ بارداً لأن الثلوج لا تزال في الجبال. هِبَة يوم سعيد جداً حلّ الضبابُ مبكراً، كنتُ أعمل في الحديقة. الطيورُ الطنّانةُ استقرّت فوق زهرةِ صريمة الجدي ذاتِ الرحيق لم يكن هناك شيء على الأرض كنت أريد امتلاكه لم أعرف أحداً كان يستحق حَسَدي. كلّ ما مرّ بي من سوءٍ قد نسيته. لم أخجلْ من التفكير بأنني كنتُ نفسي أنا. لم أحسّ بألم في جسدي. وبينما أنا أسْتوي رأيتُ بحراً لازوردياً وأشرعة. الطاولة فقط هذه الطاولة أكيدة. ثقيلة. من الخشب المتين. نأكل فوقها أسوةً بمن سبقونا نَتحسّس تحت الورنيش ملمسَ أصابعهم. كلّ شيء آخر مشكوك فيه. نحن كذلك نبدو للحظة بهيئة الرجال أو النساء لماذا أو - أو؟ بملابس مُقدرةٍ لنا. أحدّق فيها كما لو أنني أرى وجهها للوهلة الأولى. أتفرّس فيه. وفيها. لكي أتذكرهما في نطاق لا أرضي أو منطقة؟ أعدّ نفسي لأية لحظة؟ لأيّ رحيل بين الأرمدة؟ طالما أنا هنا. بكاملي. أقطعُ اللحم في هذه الحانة عند إشراقة البحر المترنحة. بعد الثمانين بعد قليل سينتهي الاستعراضُ بكامله، ولا فرق هل هذا لائق به أو غير لائق. بعد أن يُلبسوني ويُعرّوني، ماذا سيعرفون من تفاصيل البدن. ماذا يهم دباً ميتاً، فيما لو صوروه محنطاً. ترجمة: هاتف الجنابي عن البولندية