كنّا نلعبُ في ملعبِ المدرسة أثناء فرصة الظهيرة، عندما قذفَ هاني الكُرة بقدمِه، فحلَّقتْ عالياً في الفضاء، ثم سقطت في حديقةِ البيت المجاور لمدرستنا. توقّف اللعِبُ للحظات، ورحنا ننظر إلى بعضنا بصمتٍ وحيرة. فلم تكن المدرسة لتتسامح مع التلاميذ الذين يسيئون الى سُكان البيوت المجاورة. وقطع حسّان الصمت فقال: - سأذهب وأجيء بالكُرة. قفزَ حسّان سُور الحديقة، وغابَ وراء أشجار التفّاح والرمّان التي كانت تطلّ من وراء السياج بأغصانها المُثْقلَة بالثّمار. ولم تكد تمضي دقائق حتى عاد حسّان إلى الملعب، وجيوبه محشوّة بثمار التفاح. سألناه عن الكرة، فأخبرنا بأنه لم يجدْها في الحديقة! راح حسّان بعد ذلك، يستخرج حبّات التفاح من جيوبه، ويوزّعها على التلاميذ الذين أخذوا يتخاطفونها ويَنْهشونَها بمرح. وقرّر أمين أن يجيء بالكرة، فقفز السّور، ليعود بعد قليل بما عاد به حسّان ... كانت جيوبه مملوءة بالتفاح والكرة ليست معه. كان ناجي يراقب ما يحدثُ بغضب، وعندما اتّجه نحو السّور، وقفزَ إلى الحديقة، لم أشكّ أنه سيعود بالكرة، ويُنْهي الفوضى التي تسودُ الملعب. لكنني دُهِشْتُ عندما رأيتُ حبّات التفّاح تتطايرُ من وسط الحديقة وتسقطُ في أماكن متفرّقة من الملعب. فيتلقفُها التلاميذ بأيديهم كما يتلقّفون الطابات. مكثَ التفاح يتساقطُ بغزارة على الملعب لفترةٍ خلْتُ معها أنه لم يبقَ في الحديقة تفّاحة واحدة على أمّها. ثم صحا الجوُّ فجأة. ولم تعُدْ السماءُ تمطرُ تُفّاحاً .. وظهر ناجي وهو يقفزُ من السّور من دون أن يذكر شيئاً عن الكرة. وزعمَ هو الثالث أنه لم يجدْها في الحديقة. لا يمكنُ أن يكون هذا صحيحاً. فالكرة موجودة بالتأكيد في الحديقة. لقد شاهدتُها أنا كما شاهدها الجميع تسقطُ هناك. وأحسستُ برغبة قوية في أن أذهب، وأكتشف حقيقة الأمر بنفسي. فاتجهتُ نحو السّور، ثم تسلّقته، وقفزتُ الى الحديقة. كان منظرُ الحديقة ساحراً من الداخل. وكان البيتُ الذي يقيمُ فيه أصحاب الحديقة مُقْفَل الأبواب والنوافذ، وكانت تقفُ على شرفة البيت قطّةٌ سوداء وتراقبني بحَذَر. أسرعتُ في البحث عن الكرة، فوجدتُها عالقة بين أغصان إحدى شجرات الرمّان، فاستخرجتُها من هناك، وقذفتُ بها في الهواء باتجاه الملعب .. ثم ألقيتُ نظرة سريعة على الحديقة الجميلة، وركضتُ نحو السّور. وأثناء مروري تحت إحدى شجيرات التفّاح، اعترضَ وجهي غصنٌ مُتَدَلٍّ نحو الأرض، وقد برزت في طرفه تفاحة كبيرة، لم أشاهد أجمل وأبهى منها في كل ما رأيتُهُ من تفاح في الجنائن والأسواق. كان لونها أصفر ساطعاً، توشِّحُهُ حُمْرةٌ شاحبة، وقد ظهرت فيها ثلاث نقاط قرمزية اللون. وبَدَتْ لي هذه التفاحة وكأنها تدعوني لقطافها. هَمَمْتُ بقطفها، فشعرتُ وكأنّ قوة أمْسَكَتْ يدي ومنَعَتْني من ذلك. فالتفاحة ليست لي. ولا يحقُّ لي أن أقطفها. ووجدتُ نفسي أبتعدُ عن غصن التفاح، بل وأحاذرُ أن ألمسه، أو أحتكُّ به، وأنا أتّجه من جديد نحو سور الحديقة. ولم أكَدْ أبلغ السّور، وأهمُّ باعتلائه، حتى سمعتُ صوتاً من خلفي يأمرني بالتوقّف. كان الصوتُ صوتَ رجلٍ كبير، ولم أشكُّ أنه صاحبُ الحديقة. توقفتُ ... وعندما وصل صاحبُ الحديقة إليَّ، وضع يداً ثقيلة على كتفي وقال: ماذا تفعل هنا؟ - أتيتُ لآخذ الكرة. أينَ الكرة؟ - قذفتُ بها الى الملعب. ألم تقذف بالتفاح أيضاً إلى الملعب؟ - لا. بلى .. لقد شاهد أكثر من شخص التفاح يطير من الحديقة إلى الملعب. فهل يعقلُ أن تكون التفاحات فعلتْ ذلك من تلقاء نفسها؟! - لستُ أنا الفاعل. ومَنْ فعلَ ذلك إذاً؟ لم أشأ أن أشيَ بصديقي ناجي فقلت: - لا أدري. فجرَّني الرجلُ من يدي وقال: تعال معي .. سوف تدري عندما تواجه مدير المدرسة. حدَثَ في غرفة الإدارة استجوابٌ طويلٌ لي، ولحسّان وأمين وناجي، وأكثر من عشرة تلاميذ آخرين .. فاعترف الجميع بحقيقة ما حدث. وقد فهمَ المدير كما فهمَ صاحب الحديقة، بأنني لو لم أقمْ بما قمتُ به، لاستمرَّ غَزْوُ الحديقة من قبل التلاميذ ولَخَسِرَ صاحبها المزيد من التفّاح. إستبقى المديرُ حسّاناً وأميناً وناجي في غرفة الإدارة، وطلب مني الإنصراف. عند مغادرة التلاميذ للمدرسة في المساء، شاهدتُ صاحب الحديقة واقفاً قرب البوابة الخارجية، وهو يحملُ كيساً بيده، ويحدِّقُ في وجوهِ التلاميذ الذين يغادرون المدرسة. فظننتُ أنه يحمل لي تُهمة جديدة، وشعرتُ بخوفٍ كبير. عندما وصلتُ إلى قُرْبه، فوجئتُ به يقدّمُ لي الكيس الذي في يده. وكانَ مملوءاً بالتفاح. رفضتُ أخْذَهُ منه، فألحَّ عليَّ فأخَذتُه .. وبدأت بتوزيع التفاح على رفاقي الذين رفضوا مثلي أن يأكلوا من التفاح المسروق الذي جاء به حسّان وأمين وناجي. وفي أقلّ من دقيقة، كان الكيسُ فارغاً إلاّ من تفاحة واحدة، مكَثَتْ في أسفله، واحتفظتُ بها لنفسي. وكم كانت دهشتي كبيرة، عندما استخرجتُ التفاحة من الكيس، فإذا هي نفسُها التفاحة التي استوقفني مشهدها الجذّاب في الحديقة. كانت صفراء متألّقة، وموشّحة بحُمرةٍ شاحبة، ومنقّطة بثلاث نقاط قرمزية!! سرور أنظرْ إلى الزهورِ ترُفُّ في حبورِ أنظرْ إلى الفراشه تطيرُ في بشاشه أنظرْ إلى الفضاءِ يموجُ بالضياءِ الكلُّ في سرورِ لأنَّ فَرْخُ الدُّوري قد فازَ بالسِّباقِ مع طائرِ الوقواقِ!