العالم الثالث ليس واحداً. اميركا اللاتينية غير مصر والعراق. بلادنا غير جزيرة سيلان. وهذه سريلانكا ليست اميركا اللاتينية. العالم الثالث ليس واحداً. ابن الإسبانية ليس ابن العربية. كاتب مثل غارسيا ماركيز يختلف عن كاتب مثل نجيب محفوظ. ولو عثر الاثنان على نقطة جامعة. لا نتكلم عن نوبل الآداب، بل عن الطغيان. مثل ماركيز يعرف محفوظ جيداً كيف تكون الحياة في العالم الثالث. * ابناء اميركا اللاتينية عندهم هامش اسمه اسبانيا الأم البعيدة وهامش آخر اسمه باريس مدينة كورتاثار. الرواية التي يكتبها كولومبي او ارجنتيني أو مكسيكي لا تقرأها بلاده فقط. تقرأها اميركا الجنوبية كلها، وتقرأها إسبانيا ايضاً. من يقرأ الرواية المصرية او السورية او العراقية غير أهل هذا القطر العربي او ذاك؟ يصعب ان تعبر الروايات الحدود القاسية بين بلادنا. وحتى لو عبرت الحدود يصعب ان تُقرأ. الأمية ضاربة. والفقر ايضاً. وابن العربية يُترك بلا هامش. لا إسبانيا عنده. كل هذه الملايين ولا احد يقرأ. اين طموحه اذاً، هذا الكاتب المسكين؟ ان يُترجم الى لغات اوروبا مثلاً؟ وإذا كانت الكتابة لا تُطعم خبزاً فكيف يحيا؟ يكتب في وقت الفراغ. هذا اذا عثر على وقتٍ فارغ، وعلى فراغ البال اللازم للكتابة. * هذا حق من حقوق الإنسان. ان يُعطى وقت راحة. لكن من اين يأتي ابن العالم الثالث بهذا الوقت وبهذه الراحة؟ في الصفحات الأولى من "اولاد حارتنا" 1959 يخبرنا الراوي انه كان أول من امتهن الكتابة في حارته، وان هذه المهنة جرّت عليه الهزء والسخرية. باكراً تولع محفوظ بالأدب والفلسفة. وباكراً شغله الزمن وسؤال العدالة. العدل - أو غياب العدل - محور أدب محفوظ. هكذا تُكرر "ملحمة الحرافيش" 1977 رواية "أولاد حارتنا". وراء "بحر الظلمات" يكتب ماركيز عن مذبحة تنفذ بحق عمال مضربين في "مئة عام من العزلة" 1967 ثم يسرد أحوال طاغية في "خريف البطريرك" 1975. يبحث محفوظ عن عدلٍ في حارته، فلا يقع إلا على دمار. سطوره حافلة بالقتل والضرب والدم. يستعيد عنف "العهد القديم" التوراتي كأنه يشير الى لعنة أصابت هذه الأرض. العنف في أعمال ماركيز يبدو مختلفاً على نحو ما: يبدو أطرى، وشعرياً ربما. أهو اختلاف في الطبيعة والجغرافيا والمناخ؟ ان الضابط الذي يقدم مشوياً في وليمة، مع عرق بقدونس في فمه، يُفزع ولا يُفزع معاً. هل يكتب محفوظ مشاهد مرعبة عن الطغيان؟ العنف في "الحرافيش" هل يثير رعباً في القارئ؟ هل يثير خوفاً؟ في حال محفوظ يصدر الخوف لا عن الأدب، بل عن الحياة: عن سكين أصابت صاحب نوبل العربي في رقبته.