خليل السكاكيني تحرير أكرم مسلّم. يوميات خليل السكاكيني- الكتاب الأول. مركز خليل السكاكيني الثقافي ومؤسسة الدراسات المقدسية، رام الله. 2003. 358 صفحة. واصف جوهرية تحرير وتقديم سليم تماري وعصام نصار. القدس العثمانية في المذكرات الجوهرية - الكتاب الأول. مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت. 2003. 273 صفحة. لا تظفر المدونات الشخصية، من يوميات ومذكرات وسيَر ذاتية، بالاهتمام إلا إذا ما كان صاحبها شخصية ذات شأن وأثر يتجاوز حدود حياته الخاصة، أو حالفه الحظ فشهد وخبر من الحوادث العامة ما يهمّ الكافة معرفة أخبارها. هذا الشرط المفترض مسبقاً هو، على الأرجح، ما يدفع محرري ومقدمي هذين الكتابين إلى التشديد على خاصة الشهادة التاريخية أو الوثيقة العامة لما يرد فيهم من إفادات وأخبار تحيلنا على نيويورك، خاصة محيط المهاجرين العرب، والقدس في غضون العقدين الأولين من القرن العشرين. وهذا التشديد يقع في محله، ليس فقط لأنه يبرر نشر يوميات ومذكرات شخصية - فلا حاجة إلى تبرير كهذا طالما أن صاحبيهما، الناشط السياسي والمربي خليل السكاكيني والموسيقي واصف جوهرية، كانا شخصيتين عامتين - وإنما لأنهما لا يخيّبان رجاء من يطلب الشهادة أو الوثيقة اللتين تنطويان عليهما. وحتى يوميات السكاكيني، وعلى رغم استغراقها في الشأن الشخصي الى حد أن تصير في بعض الصفحات محض تسجيل متصل لما يجيش في نفس الكاتب من عواطف وانفعالات، فإن القارئ لا يعدم الإشارات المباشرة وغير المباشرة إلى ما يتجاوز حدود الحالة العاطفية، حتى وإن بدت هذه الحالة المبرر الأساسي للتعبير وللكتابة أصلاً. ففي يوميات نيويورك، وهي تحتل ثلثي حيّز النصّ، يمعن الكاتب في وصف ما يكابده من إحساس بالشوق إلى حبيبته سلطانة وألم فقدان صديقه داود، فضلاً عن ندب سوء حظه المتواصل لإخفاقه في تحقيق مأربه من الهجرة، إلا أنه في الوقت نفسه يزودنا بسجل لحياة مهاجر عربي إلى نيويورك عام 1908. وعلى رغم أن هجرة السكاكيني لم تُتم سنة واحدة إلا أن شدة إحساسه بحياة الفقر والضيق والعزلة جعلت تدوينه لخبرته كمهاجر، وليس كسائح أو رحالة، تتسم بتمام غير متوقع. فمثل أي مهاجر عربي يُحمل على الإقامة ما بين المهاجرين العرب، أو السوريين على ما كانوا يسمون نظراً إلى أن النسبة الأعلى منهم آتية من بلاد الشام، سورية وفلسطينولبنان، وما يحول دونه ومعايشة أو حتى الاحتكاك بالمجتمع الأميركي إلا في المرات النادرة. بل حينما يحصل مثل هذا الأمر فإنه يكون من خلال اضطرار الكاتب إلى العمل في مصنع للورق أو التعاطي مع أصحاب البيوت ممن ينزل عندهم مستأجراً. ولئن ساق المؤلف ملاحظات عامة حول الحياة الأميركية انطلاقاً من المصنع الذي اشتغل فيه، كقوله أن "من دخل المعامل حيث يقتل الشرف وتمتهن الفضيلة وتُباع النفوس بيع السماح لم يسعه إلا أن يقول: لتسقط هذه المدنية ولا يبقى فيها حجر على حجر"، أدرك بأن هذا الرأي من قبيل الاحتجاج إزاء اضطراره للتنازل للعمل في مصنع ومخالطة من يعتبرهم أدنى مرتبة. بل أن في مفردات "الشرف" و"الفضيلة" و"بيع النفوس" وغيرها ما يدل على أن هذا الرأي ما هو إلا صدى مزاعم وتصورات شرقيّة عن الغرب، غالباً ما بدرت عن أولئك الذين لم يقضوا يوماً واحداً في مدينة غربية. لذا فإن عنصر الوثيقة، أو الشهادة، الأهم هو ذاك الذي يشمل يومياته في القدس بعد عودته من نيويورك. ففيه يتراجع الاهتمام بالشخصي والعاطفي ليحل محله الاهتمام بالسياسة والشؤون العامة. فما أن يعود المؤلف إلى مدينته حتى يستعيد الدور العام الذي كان يلعبه من قبل إقبالاً على التعليم وإنشاء جمعية لإحقاق حقوق الطائفة الأرثوذكسية والعمل في الصحافة وغير ذلك. أما كتاب واصف جوهرية فالإحالة إلى ما هو سياسي واجتماعي فيه تظهر على صورة منتظمة ومباشرة وبما تزيد على شطر محدود. وخلافاً لكتاب السكاكيني فليس "القدس العثمانية" حصيلة تدوين يومي لوقائع جارية في عام واحد، وإنما استعادة لموجودات وحوادث وقعت خلال عقد ونيف من السنين قبل تدوينها. والأهم من ذلك فإنها تزوّد الكاتب فرصة اختيار ما يشاء تدوينه تبعاً لقيمته اللاحقة وفي ضوء ما استجد من حقائق ومعطيات خلال الفترة الفاصلة ما بين وقوع الحوادث وتسجيل أخبارها. فهذه الاستعادة غرضها تقديم شهادة عن الحياة الاجتماعية والسياسية في القدس خلال الحقبة الأخيرة من الحكم العثماني، ومن خلال وعي المؤلف، كصبي أولاً ومن ثم شاب في مقتبل العمر. ووفقاً لهذا نجد أن الكاتب يتعمد الإحاطة ببعض حوادث ذلك العهد، شأن الانقلاب التركي عام 1908 أو بداية الحرب العالمية الثانية أو وقوع القدس في يد القوات البريطانية، على رغم أن أخبار هذه الحوادث من الشيوع ما يغنيه عن فعل. بل يمضي إلى حد إيراد لوائح وإحصائيات وسجلات لأسماء وجهاء وشخصيات لعبت أدواراً هامة وشغلت مناصب في القدس، بل وثمة لوائح بأسعار الحاجيات الغذائية وحملة البيارق في احتفالات الطائفة الأرثوذكسية وما يجعل السرد ينحو نحو الإنسكوبيديا والأدلة السياحية. وإذ يكتب المؤلف مذكراته في النهاية فإنه لا يقاوم الرغبة في الاسترسال في سرد نوادر وطرائف عائلته ومعارفه، غير أنه سرعان ما يستدرك غاية الشهادة التاريخية فيورد بياناً أو صورة لتقليد من تقاليد الحياة المقدسية وعلى صورة تؤدي إلى تراجع الذاتي، وإن تراجعاً مؤقتاً فحسب. هكذا فبعد بضعة صفحات يسرد فيها إقباله على الموسيقى والغناء، تجده يعود ويفرد صفحات عديدة للاحتفالات الدينية المتنوعة والمختلفة التي كانت القدس تشهدها، أو للنزهات التي كانت الطوائف والملل تقوم بها، وبما تضمن القول بأن المؤلف كان شاهداً على عصره. خلاصة القول إنه إذا ما أمكن انتقاء إشارات وملاحظات، أو حتى يوميات بأسرها، من كتاب السكاكيني تتيح قراءة يومياته كوثيقة تاريخية، فإن مقصود المذكرات عند جوهرية هو أن تكون بحد ذاتها شهادة ذات أهمية لا تنكر، ليس فقط من حيث ما تعرض من حوادث اجتماعية وسياسية، ولكن أيضاً من حيث أنها شهادة عن عالم انقضى بفعل عوامل الزمن المتعارف عليها وأيضاً للانقطاع العنيف الذي حلّ في التاريخ الفلسطيني. غير أن هذين النصّين يمثلان وثيقة ليس لما وجد وحدث في الحقبة التي يحيلاننا إليها، وإنما للكتابة أيضاً، لضروب التعبير والإنشاء العربية في فلسطين في مطلع القرن العشرين، كما هو محقق من يوميات السكاكيني، أو لما بعد ذلك بعقد أو عقدين على ما هو مرجّح من مذكرات جوهرية - وليس من المعروف على وجه التحديد متى كتب واصف جوهرية مذكراته، ولكن على ما تشي المقدمة فإنه لا بد فعل قبل حرب 1948 حين اضطر للنزوح إلى لبنان أسوة بآلاف الفلسطينيين. وهذان النصّان شهادة على كتابة ذاتية لبثت حتى فترة لاحقة، تحديداً إعلان اتفاقية المبادئ في أوسلو، من الكتابات النادرة والمصحوبة غالباً إما باستنكار الآخرين أو إحساس صاحبها بالذنب، نظراً إلى ما فُرض على الكتابة الفلسطينية من احتساب واعٍ ومسبق للهوية الجمعية، أي التشديد التلقائي على "ما حدث ويحدث لنا". لذا، وفي أعقاب ما بات يوسم بوسم الكتابة الفلسطينية الفارقة، يظهر كتابا السكاكيني وجوهرية هذان و كأنهما محاولة مبكرة ومجهضة للتعبير الأدبي الذاتي في حالة كتاب السكاكيني، والتوثيق الشخصي في حالة جوهرية. فيوميات السكاكيني، خاصة تلك التي تغطي إقامته المحدودة في نيويورك لهي من الإغراق في الذاتية والخصوصية ما يجعل المرء يشك بأن صاحبها كتبها لغاية نشرها على العموم، بل لأن تُقرأ من قبل أحد ما عدا المعنيين بما يرد فيها. ولكن بمعزل عن نية الكاتب تجاه المصير النهائي للنص الذي بين أيدينا، فإن يوميات نيويورك على وجه خاص لتمثل نصّاً أدبياً ينتمي بامتياز إلى الأدب الرومنطيقي العربي خاصة مما اشتهر شأنه عند كتّاب المهجر شأن جبران، الذي قرأه السكاكيني وأعجب به، وأيضاً بعض الترجمات العربية المبكرة للأدب الرومنطيقي الغربي. فالنفور من الكافة والتشديد على العزلة الذاتية، حتى حينما يكون محاطاً بالأصدقاء، والتغني بالنفس المكلومة من ألم الفراق، أو الإفصاح عن المشاعر عموماً، فضلاً على التركيز على النازع الفني للذات، كلها مما يعود للأدب الرومنطيقي بأقرب مما يعود إلى الواقع، حتى وإن كان الواقع المعني لذاك الذي حمله الفقر على الهجرة وحملته حياة الهجرة إلى التنازل عن كبريائه والقبول بأن يكون عاملاً مياوماً في مصنع. إنه لهذا السبب لا تغيب الخصائص الرومنطيقية عن اليومات حتى بعدما يعود الكاتب إلى مدينته ويستأنف لعب دوره المشرّف بين قومه. فلا يفارق كتابة اليوميات الإحساس بالتميّز الذاتي لصاحبها، بل الترفع "النيتشوي"، إضافة إلى التشديد على هوية الذات الفنية. لكن هذا الكلام لا ينطبق بأي مقدار على مذكرات جوهرية، ليس لأن الكاتب قصد من وراء المذكرات شهادة تاريخية أو وثيقة عامة، وإنما لأن أسلوب "التوثيق الشخصي" الذي اتبعه لا يجري لا على مجرى الأدب الرومنطيقي ولا أي تقليد أدبي آخر، وهو الأمر الذي يعيه المؤلف ويقرّ به على صورة لا تخلو من الدلالة: "لست بذلك الأديب الفاضل أو الكاتب الماهر أو المؤرخ الشهير..". فحتى وإن حاول المؤلف تقليد الأدباء والمؤرخين، فإنه لا يستقي طاقته على السرد من التأريخ والأدب أو من أي من أشكال التعبير المكتوبة وإنما السرد العامي، وهو ما يتضح من خلال المزج ما بين العامية والفصحى وأيضاً من خلال الأداء الذي يفترض وجود جمهور من المستمعين، حتى ليبدو النص وكأنه نقل حرفيّ لكلام مرتجل على نحو شفوي. فالكاتب إذ يسترسل في الكلام أو يستطرد لا يعتمد على تقنيات الكتابة مما تخوله فعل ذلك وإنما على تقنيات السرد الشفوي شأن الصمت المفاجئ الذي يتيح تغيير وجهة الكلام أو النحنحة التي تمهد لقصة جديدة أو حتى الاسترسال والانتقال من دون مبرر، ما عدا أن الشيء بالشيء يُذكر أو غير ذلك من مبررات الاستمرار الشفوية. ولا غرابة إذا ما بدا المؤلف أسلس قدرة على سرد النوادر والحكايات الشخصية منه إلى التدوين التاريخي أو الوصف المجتمعي. بل ان العديد من الصفحات التي تعرض للوقائع السياسية والاجتماعية تدل على أن أسلوب السرد الذي يتبعه الكاتب يسلّم بوجود جمهور مستمعين، وإن هذه الصفحات لا غرض لها سوى أن تضمن انتباه ذلك الجمهور من خلال وضعه في الصورة العامة، أو على الأقل تزويده بقسط من الخلفية الاجتماعية والسياسية للشخصيات والحوادث موضوع الحكاية. مثلاً، يخصص الكاتب 15 صفحة للكلام على عادات وتقاليد الزواج عند طائفة الروم الأرثوذكس في القدس، ليس في عهده هو فحسب وإنما منذ منتصف القرن التاسع عشر. غير أن العرض المطوّل لا سياق له يبرره سوى أنه ذيل لحكاية زواج قريب للكاتب. ورغم أن غرضه المتعمد تقديم شهادة عن تقليد اجتماعي، إلا أن ما يجعل قراءته محتملة حقيقة أن يمضي على منوال سرد الحكايات والنوادر وليس بحثاً اجتماعياً. وإذا ما سوّغت لنا قراءة يوميات السكاكيني ومذكرات جوهرية واحدة في أثر الأخرى، أو كتفاً إلى كتف، وهذا أمر مستحب، الكلام على شكلين من التعبير الذاتي أجهضا لاحقاً بفعل طغيان أشكال التعبير الوطنية والجمعية، التحريرية والنضالية، عموماً، فإن هذه القراءة تعطينا فرصة للمقارنة بين شكلين من التعبير الذاتي مختلفين تمام الاختلاف. فيوميات السكاكيني ذات لغة أدبية مغرقة في الفصاحة مترفعة عن أسلوب الكافة. أما مذكرات جوهرية، وبمعزل عن نيته، فتبدو أقرب إلى تلك المحاولات الأدبية العربية المبكرة التي سعت إلى تقريب الأدب، لا سيما القصة والمسرحية، من آذان الكافة، فعمدت إلى تعميمها في مواضع أو شحنها بروح شعبية تمكّنها من مجاراة مرونة السرد الشفوي. ولعل في المسافة الفاصلة بين هذين الشكلين تاريخاً غير مكتوب لمساهمة فلسطينية في مسألة التوزع ما بين الفصحى والعامية، ومن ثم السعي لإجتراح كتابة عامية تحترم شروط اللغة المكتوبة. أما اليوم، وتحديداً منذ أوسلو، وبعد صدور عدد من الأعمال الأدبية وغير الأدبية يتقدم فيها الصوت الذاتي على الجمعي، وحيث ثمة ما يبدو محاولة من قبل بعض الكتّاب الفلسطينيين للبحث، فرادى، عن يقين الماضي، أو يقين جديد، يتراءى نصّا السكاكيني وجوهرية وكأنهما كانا المرجع المؤجل لمثل هذه الأعمال.