تنتشر "يوميات خليل السكاكيني" تحرير اكرم مسلّم، منشورات مؤسسة الدراسات الفلسطينية بعد نحو قرن من بداية تدوينها وبعد مضي خمسين عاماً على وفاته. وهي المرة الأولى في تاريخ الأدب العربي الحديث يتوافر للقارئ ان يطلع على يوميات كاتب دوّنها في لحظة معايشته الحدث وليس كما جرت العادة عند صاحب المذكرات التي يكتبها في كهولته مسترجعاً فيها ما حدث قبل عقود من الزمن. ففيها نجد ذاته صادقة بمعنيين: ملازمتها احساسات الكاتب لحظة تدوينها، ومعاصرتها الحدث حين وقوعه. كما توفر لنا المذكرات حالاً فريدة للاطلاع على رسائل حب متبادل بين عاشقين في زمن الحب العذري، نادراً ما نجد مثيلاً لها في الأدب العربي. وعى السكاكيني اهمية تثبيت تأثراته في زمنها الحقيقي "هنا والآن" بلغة هذا الزمن، ليعود إليها ذات يوم كمصدر للمعرفة ومادة للقراءة. كان دائماً يتحسر على عدم قدرته على الكتابة اكثر، ويعد نفسه ان يتوسع بهذا الموضوع او ذاك. بلور طريقة كتابة يومياته مبكراً. وعلى رغم فقدان الكثير منها، إلا ان اليوميات المتوافرة ثروة معرفية حقيقية في اكثر من معنى. فهي لم تنقل حياة السكاكيني وحدها وهي حياة ثرية ومتنوعة بل نقلت اجواء اكثر من مرحلة مهمة في التاريخ الفلسطيني، من اكثر من زاوية. وبمقدورها الإضافة، وإتاحة الفرصة لإعادة النظر في غير مجال، وأكثر من ذلك، تقديم تصورات مختلفة عن ملابسات تشكل الهوية الفلسطينية، وعن الذاكرة الجماعية والهواجس الوطنية والوجودية في فلسطين في محطات تاريخية حاسمة. لعل التمثيل الجغرافي لتحركات سكاكيني في اميركا كما نستشفه من يومياته ورسائله غامض ويشبه الألغاز. كما ان تحركاته تتسم بالسذاجة. وكان ينتمي هذا "المغامر" الى الموجة الأولى من المهاجرين العرب الى اميركا، والتي كانت بدأت في 1870 وتوقفت بسبب موجة العداء الموجهة ضد الفوضوية في 1920. وأسوة بمعظم ابناء وطنه من الشرق العربي كان يحمل الجنسية العثمانية ويقدم نفسه كسوري، وأحياناً كفلسطيني، فقبل الحرب الأولى استقرت الجالية السورية اللبنانيون والفلسطينيون والسوريون في المنطقة التي صارت تعرف ب"سورية الصغيرة" في مانهاتن. بنى هذا "المغامر" فلسفته النظرية والعملية على مفهوم واسع للثقافة التي تحتشد بالدلالات الكثيرة: فهي المعرفة المفضية الى الفضيلة، والفضيلة المحصنة بالعقل، وهي العقل الذي يحاكم العالم بوسائل عقلانية. ولا يكتفي بذلك بل يربط بين السياسة والثقافة ليحولهما معاً الى فعل اخلاقي يحرر الناس من عيوبهم. فلا سياسة ولا ثقافة في شرط منحط، ولا سياسة ولا ثقافة تصدران عن انسان منحط. يتعين دور المثقف، في هذا التصور، بمحاربة الانحطاط والساسة الزائفين، الذين ينتجون انحطاطاً يعيد انتاج الجهل والعبودية. فالمثقف الراقي عنده، هو السياسي الحقيقي المفترض، وإن كانت اخلاقيته السامية تجعله غريباً عن الآخرين وتجعل الآخرين غرباء عنه ايضاً.