قبل إنجاز اوليفر ستون فيلمه الجديد "الاسكندر الكبير"، وبعد النجاح الذي لاقاه ولا يزال يلاقيه فيلم "حرب طروادة"، يبدو ان الأفلام السينمائية المستوحاة من قصص التاريخ او الأساطير تلاقي رواجاً كبيراً هذه الأيام اذ ها هو فيلم "الملك آرثر" من إنتاج والت ديزني يحتل المراتب الأولى في شباك التذاكر الأميركية منذ نزوله الى الصالات اوائل الشهر الجاري، حاصداً إجماعاً من حوله في صفوف الجماهير والنقاد معاً وهو امر ندر ان يحدث في تاريخ السينما. بيروت على طريقتها استقبلت الفيلم بحفلة خاصة جمعت محبي الفن السابع وكان المشهد مختلفاً هذه المرة، اذ بعيداً من دور العرض التقليدية، استقبل "الملك آرثر" في الهواء الطلق على شاطئ مدينة جبيل الأثرية حيث اعتلت شاشة ضخمة احد المسابح. سجادة حمراء وملصقات الفيلم تزين شجر النخيل المزروع على طول المسبح وفرسان من الشبان والشابات بأزياء تلك الحقبة يستقبلون المدعوين... لو كان الملك آرثر الحقيقي حياً... لكان طبعاً، من اوائل مستغربي هذا الاستقبال يكرس له، ويفوق استقبال السلطات الرسمية اللبنانية لزميله السياسي، رئيس الحكومة العراقية اياد علاوي، ابهة واحتفالات. خلف قناع البطل... والحقيقة ان الفيلم الذي قدم في عرض اول، بين الاستقبال الكامل ومأدبة العشاء، تمكن من ان يبدو جديراً بهذا كله... وتفوق حتى على قرقعة الصحون وتحركات الخدم وأصناف الطعام. انها، على اي حال، المرة الأولى التي يصار فيها الى احتفال بفيلم في لبنان على هذه الشاكلة، وفي يقيننا ان احتفالات مشابهة كرست له في مدن اخرى. فما الجديد في "الملك آرثر" الذي يدعو الى هذا كله؟ الجديد هو العودة إليه بعد عقود حققت فيها افلام تدور من حول اسطورته، وصولاً طبعاً الى "سيد الخواتم" المستوحى اصلاً وفصلاً من حكاياته. لكن العودة هذه المرة لم تكن الى الملك آرثر الأسطوري... بل الى الحقيقي. ولعلها المرة الأولى التي تقدم فيها الفنون على سبر أغوار الرجل التاريخي خلف قناع البطل الأسطوري. ويقدم الفيلم المحارب المغوار آرثر الذي جمع من حوله عصبة محاربين وخاض بهم معارك عدة ضد الساكسونيين الى جانب الإنكليز... آرثر وهو نصف بريطاني ونصف روماني الإنسان الذي يعيش في صراع داخلي بين طموحاته الشخصية وإحساسه بالواجب. إذ تدور احداث الفيلم في القرن الخامس في الفترة الزمنية التي تداعت فيها الامبراطورية الرومانية وتفرقت الجزر الإنكليزية مسببة فوضى وتساهلاً وصراعات في ما بينها، حيث غرقت البلاد في حروب اقليمية استغرقت سنوات عدة. ومن ثم يبرز الملك آرثر ليوحد صفوفهم بمفهومه للحرية وجرأته وشجاعته... آرثر الذي خلّد بواسطة الأسطورة لا بواسطة التاريخ يقدمه انطوان فوكو مخرج الفيلم في "الملك آرثر" حقيقة لا اسطورة. إنه انسان من لحم ودم، مقدام لا يخشى التضحية بنفسه في سبيل من يحب. يؤمن بالعدالة ويتمتع بحس المسؤولية. انسنة الأسطورة رفاقه من الفرسان، لونسلو، غالاهاد، غايسين، تريستان، بورز وداغوينت، اشبه بآلات حربية، ينفذون ما يطلب منهم في ساحة المعركة، ويؤمنون ايماناً قوياً بقائدهم البطل. لكن هل يخذلهم اخيراً بعد درب طويل قضوه معاً بحلوه ومره، خصوصاً بعد ان باتوا على تماس مع الحرية التي طالما نشدوها؟ نبأ صاعق يأتيهم به آرثر: مهمة اخيرة بانتظارهم قبل تسلمهم صكوك التحرر في الامبراطورية الرومانية: انقاذ "بابا روما المستقبلي" من ايدي الساكسون. وهذا يعني حتماً المزيد من الضحايا وهنا تبدأ المغامرة... مشقات كثيرة بانتظار الفرسان السبعة، يخرجون منها بنجاح ليصلوا الى امام قصر العائلة المطلوب انقاذها، ويفاجأون بحجم التعذيب والاستعباد الذي تتلقاه هذه العائلة من النبلاء باسم المسيحية. وأمام هذه الحادثة وأمام سماع آرثر نبأ مقتل قائده الروحي بعد اصدار قرار بابوي بتحريمه، ترتسم الحيرة على وجهه في شكل واضح وكأن لسان حاله يقول: هل هذا هو الإيمان الذي ضحيت من اجله بالكثير؟ هل هذه هي المسيحية الحقة؟ وهنا بالذات تبدأ الأفكار بالتضارب في ذهن آرثر: رفاقه والحرية المشتهاة من جهة، وإغراء جينيفر السجينة التي انقذها من ايدي تلك العائلة، والتي ستصبح في ما بعد عشيقته فزوجته، وقبول دعوة مرلين عدوه السابق بتوحيد صفوفهما في وجه عدو واحد: الساكسون، من جهة ثانية، لتنتصر الفكرة الثانية في نهاية المطاف وتبدأ المعركة المشتركة لتوحيد بريطانيا ضد الساكسونيين. في هذه المعركة تبرز قدرة جينيفر القتالية، هي التي شاركت في الحرب على قدم وساق الى جانب الرجال، وضاهتهم مقدرة دفاعية وهجومية. ويغمز الفيلم من قناة الثلاثي: آرثر، جينيفر، لانسلو، بإيحاءات أثارت الشكوك من حولهم وتعود بنا الى الحكايات المتداولة حول خيانة جينيفر لآرثر مع الفارس لانسلو، شكوك سرعان ما اختفت في ساحة القتال حينما كانت انظار لانسلو مصوبة باتجاه جينيفر، هو الذي فقد حياته من اجلها على رغم انه كان يعرف علاقتها بآرثر. ولعل المشهد الذي جمع الثلاثة معاً في نهاية الفيلم خير دليل على ذلك: لانسلو مطروح ارضاً والدماء تسيل منه، آرثر على يمينه وجينيفر على يساره. وكان فوكو مهد لذلك في مشهد آخر مبيناً الإعجاب الذي ولد بين جينيفر ولانسو قبل ان تطارح آرثر الغرام، وتحديداً في المشهد الذي يسترق لانسللو النظر فيه إليها وهي تستحم... هي تنظر إليه نظرة فيها كل الإغراء وهو لا يزيح نظره عنها والرغبة بادية على وجهه... "الملك آرثر" فيلم اراده صاحبه قائماً بذاته من دون ان يرتكز الى النجوم. "منذ البداية، يقول فوكو، لم أشأ ان يكون ابطال الفيلم اميركيين حتى لا يوقعنا اختلاف اللهجات في مطبات نحن في غنى عنها، كما لم أرغب في التعامل مع نجوم معروفين لأنني اردت ان يعجب الناس بالفيلم لما هو عليه لا لحشد النجوم الذي يضمه". والحال ان فوكو نجح في ما اراده اذ جاء فيلمه جديراً بالملك آرثر الإنسان الذي يحب، يضعف، يتألم ويفرح.