كان كارل ماركس الذي ما زال يستعاد من أصحاب الايديولوجيات، مع أن عصر العولمة والامبراطوريات الكبرى حجب طيفه، وذلك على العكس من تبشير الفليسوف الفرنسي جاك دريدا بعودة أطيافه بشّر بهزيمة آلهة الاغريق في عصر التقدم التكنولوجي وبالتالي هزيمة الميثولوجيات الكبرى في الزمن المقبل. والطريف انه وعلى رغم نزعته التقريرية تلك، ظلّ مأخوذاً بسحر تلك الميثولوجيات الذي لم ينحسر مع الزمن، يقول ماركس في مقدمة "نقد الاقتصاد السياسي": "ان الصعوبة التي نواجهها لا تكمن في فهم كيفية ارتباط الفن اليوناني والشعر الملحمي اليوناني بأشكال معينة من التطور الاجتماعي، بل في كونهما لا يزالان ينطويان على متعة جمالية بالنسبة الينا ويعتبران من نواح عدة معياراً ومثالاً أعلى لا سبيل الى الوصول اليه". لم يهتد ماركس الى سر تلك "المتعة الجمالية" التي تشهد على تحول الحدث التاريخي الى حدث اسطوري، ولا الى سر الاسطورة الذي يجعل من الانسان كائناً اسطورياً بامتياز، ولا الى ما سماها الإثنولوجي الفرنسي كلود ليفي ستروس ب"الوحدات التكوينية السمينة" التي تسمو بالاسطورة وبمتعتها الجمالية الى آفاق بعيدة وعالية تجعلها عصية على تأثيرات الدهر، من هنا مصدر تشبيه ستروس، فالاسطورة والنصوص الميثولوجية عموماً أشبه بالطائرة التي تتحرك على المدرج الى اللحظة التي تقلع فيها، وعندها لن تعود انعكاساً لواقع جرى تضخيمه عند أصحاب الايديولوجيات، وهنا تكمن جمالية النص الميثولوجي بكونه عابراً للزمن، ومخترقاً لحدوده، ما يجعل منه مثالاً ومعياراً أعلى لا سبيل للوصول اليه. وفي رأيي، ان أهم "مطار" حطّ فيه النص الميثولوجي، وبالأخص، إلياذة هوميروس، هو مطار هوليوود إن جاز التعبير، فالسينما هذا المصنع الهائل للأحلام، على حد تعبير عالم الأديان مرشيا إلياد، تتناول ما لا حصر له من الموضوعات الميثولوجية: الصراع بين البطل والغولة، القتال، الأشخاص والصور النموذجية البنت الصبية، البطل، المراثي القرون وسطية، الجحيم بكل صوره... الخ. الكعب القاتل لذلك ليس غريباً أن تعاود هوليوود باستمرار، اعادة انتاج الملاحم الميثولوجية الكبرى، والأهم من ذلك، اعادة حرتقتها، وهذه هي ميزة الفكر الميثولوجي الأسطوري كما يقول كلود ليفي ستراوس في مرافعته الشهيرة عن "الفكر البري". وهنا يمكن القول ان مخرجي هوليوود في مجال الملاحم الكبرى، يرتقون في عملهم، وبصورة جمالية، الى مستوى المؤسطرين الكبار، لذلك ليس غريباً أن تتصدر الأفلام التي تحاكي أو تنتج نصوصاً ميثولوجية كبرى، قائمة الأفلام الأكثر رواجاً كما يكتب بنجامين باربر، وأن تكون بمثابة حصان طروادة والتشبيه لباربر في "خدمة عالم ماك"، أو عالم الثقافة الأميركية المعولمة التي يراد لها أن تدك حصوناً وتفتح قلاعاً كما يقول باربر في ال"لوموند ديبلوماتيك؟". في هذا السياق، الذي يحاكي الملاحم الميثولوجية الكبرى، ويعيد انتاجها بصورة فنية سينمائية، تأتي أفلام تاريخية عدة في واجهة الأعمال التي أنتجتها هوليوود في السنوات الأخيرة، وأشير هنا، الى "قلب شجاع" لميل غيبسون، كذلك فيلمه عن "آلام المسيح" الذي أعاد فيه محاكات ميثولوجيا العهد الجديد، و"المصارع" الذي قام ببطولته الممثل راسل كرو، وأخيراً وليس آخراً "حروب طروادة" TROY حيث جسد الممثل براد بيت الشخصية الميثولوجية الشهيرة آخيل الذي هو ككل أبطال الميثولوجيات القديمة أوديب، جلجامش يحمل علامات موته في جسده، وفي حال آخيل في كعبه الذي يمسسه ماء النهر المقدس عندما عمّدته والدته في مياه النهر المقدسة. هذه الأفلام جميعها، حصدت من جوائز الأوسكار الكثير، ومن شباك التذاكر الكثير من الدولارات من جماهير لا تزال مشدودة الى الميثولوجيا، الى تلك الوحدات التكوينية السمينة التي لا تزال تدور حول الخير والشر، الأخوة الأعداء، هابيل وقابيل، الشريف والشرير، البطل والتنين كما في "ديناصورات" الحديقة الجوراسية، كذلك "كودزيلا". ومن هنا هذا الاتهام الذي يُوجه الى السينما الأميركية بأنها لا تاريخية، وهذا ما يفسر نجاحها أيضاً وقدرتها على الاغواء والانسجام مع ثقافة تمجد البطل والجنس، العنف والاستهلاك، فكل دقيقة عنف تنحت آلاف المستهلكين كما يعلق المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه على فيلم "ديناصورات الحديقة الجوراسية"؟ حروب طروادة هذه المقدمة الطويلة، تدور حول هذا الفيلم - أي حروب طروادة - الذي هو من انتاج العام 2004 ويعرض في صالات السينما العالمية، من بلد المنشأ في أميركا الى صالات السينما في بيروت والقاهرة ودمشق، وهذه ليست المرة الأولى التي تقوم فيها هوليوود بإعادة انتاج الميثولوجيا الاغريقية التي تدور حول إلياذة هوميروس التي تترجم الآن الى العربية من جانب المجلس الأعلى للثقافة في مصر، وذلك بعد أن قام أحد كبار البساتنة بترجمتها شعراً وفي وقت مبكر. لن ألتفت، الى طريقة الإخراج، ولا الى التقنيات المبهرة التي وفرها عصر الصورة المرئية حيث السيلان اللامنقطع لمظاهر العنف الملحمي، وذلك عبر اخراج جديد يسمو حقاً بالحدث التاريخي الى مستوى الحدث الاسطوري، ولكنني سألتفت، الى ما سأسميه ب"التجنيس الفاشل" بين الشرق والغرب، إذ يقوم هذا العمل الفني الضخم بإحداث شرخ أسطوري بين الشرق والغرب، وهذا ما يذكرنا بعمل المفكر اللبناني جورج قرم "شرق وغرب: الشرخ الأسطوري" الذي يفضح فيه نرجسية الخطاب الغربي وأسطوريته. تدور أحداث هذه الملحمة الميثولوجية في طروادة التي اكتشف أحد أطلالها من عشاق الاركيولوجيا في نهاية القرن التاسع عشر في غرب آسيا الصغرى، أي تركيا الحالية، وبالأخص شرق مضيق البوسفور الذي يفصل ما بين بلاد الاغريق اليونان الحالية وتركيا. وتتمحور أحداثها حول ذكر شرقي هو باريس بن بريام ملك طروادة الذي يهيم عشقاً بهيلين زوجة مينلاوس القائد الشجاع أخو أغاممنون قائد الجيوش الاغريقية التي تحاصر طروادة. والموضوعة، موضوعة هيام ابن حضارة شرقية بابنة حضارة غربية، ليست جديدة، فقد تناولتها أعمال فنية كثيرة، وحسبي أن أشير الى مسرحية عطيل التي كتبها شكسبير، حيث يهيم "عطيل" حباً بديزدمونة ولكن زواجهما ينتهي بكارثة، كذلك عدد كبير من الروايات في المشرق العربي وعلى سبيل المثال "موسم الهجرة الى الشمال" للطيب صالح و"قصة حب مجوسية" لعبدالرحمن منيف و"الحي اللاتيني" لسهيل إدريس، كذلك "كم كانت السماء قريبة" للعراقية بتول الخضيري... الخ والتي تدور أحداثها حول ذكر شرقي يهيم حباً بحسناء غربية، ولكنه عادة - أي هذا الحب - ما يتحطم على أعتاب النظام الثقافي الذي يكن للآخر الحضاري مزيداً من العداء والعنصرية كما في مسرحية "عطيل". وفي رأيي، ان ملحمة طروادة المستعادة في هوليوود عبر الفيلم TROY، يمكن أن تندرج في إطار هذا التجنيس الحضاري الفاشل الذي يؤول الى أحضان الكارثة كما يعبر عنها دمار طروادة. فالتضاد بين الشرق والغرب يظهر جلياً في الفيلم، وكأنه يستعير معظم بواعث التعبير عن نفسه من النزعة الاستشراقية، التي تؤسس لهذا التضاد، كما في القصيدة الشهيرة لكيبلنغ التي تجعل من "الشرق شرقاً والغرب غرباً ولن يلتقيا". وهذا ما فضحه إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" والذي بيّن فيه أن معظم خبراء الإعلام والسياسة - ولا غرابة إذا قلنا مخرجي هوليوود - يستعيرون معظم بواعث التعبير عن تجربتهم من المكتبة الصلبة والصلدة التي كوَّنها الاستشراق عن الشرق، وبالأخص من أطروحة صموئيل هنتنغتون عن صدام الحضارات المطبوخة جيداً بحسب وصف محمد حسنين هيكل في دائرة الاستخبارات المركزية الأميركية. من هنا يمكن النظر الى هذا العمل الفني الضخم. وفي رأيي، ان مخرج الفيلم الألماني الأصل وولفغانغ بترسون يستعير كل بواعث التعبير في فيلمه من اطروحة هنتنغتون عن صدام الحضارات التي هي في جوهرها اطروحة استشراقية. وهو لا يكتفي بذلك، بل يخط تضاداً حتى بين شخصيات الفيلم وأبطاله، ويظهر ذلك جلياً في شخصية باريس يلعب الدور الممثل اورلاندو بلوم ويظهر هذا في صورة الذكر الشرقي ذي الشعر الأسود الداكن الذي يهيم عشقاً بهيلين الشقراء التي فاق صيت جمالها كل ما عداها دايان كروغر. وهذا ما يقوله الأب والملك بريام عندما يربّت على كتفها، وفي رأيي أن هذا التضاد والتلاعب برمزية البياض والسواد يتجلى واضحاً في المعركة الأولى عندما يقترح باريس أن يتبارز مع مينلاوس زوج هيلين في سبيل انهاء الحرب، حيث يقف كل من هيكتور امير طروادة وقائد جيوشها يلعب الدور اريك بانا الى جانب أخيه وفي مقدم الجيش، وتبدو عليهما جلياً ملامحهما الشرقية، في حين ينتصب كل من آخيل وكذلك مينلاوس بقامتيهما الشقراوين وفحولتهما الغربية التي كثيراً ما غيَّبها الاستشراق في تركيزه على الشبق الشرقي والفحولة الاستشراقية. ويظهر هذا واضحاً في علاقة الشبق التي تربط بين آخيل وأسيرته كاهنة معبد إله الشمس برسيس الحسناء. وفي رأيي، ان هذا الانتاج السينمائي الضخم يخط لنا مسيرة التجنيس الحضاري الفاشل بين الشرق والغرب ويؤسس لصدام الحضارات بدلاً من التواصل الحضاري. فالعلاقة بين باريس وهيلين تنتهي بتدمير طروادة وإحراقها أمام الملأ، في حين تنتهي علاقة الحب والشبق بين آخيل وبرسيس الى أحضان الموت، وهذا ما يعبر عنه المشهد الأخير، عندما يهيم آخيل في شوارع طروادة المحترقة بحثاً عن برسيس الجميلة، وعندما ينقذها من بين أيادي مغتصبيها، يأتيه سهم من يد باريس فيخترق كعبه وبذلك يلقى حتفه حيث تكون عظمته كما تنبأت والدته. من جهة أخرى، يمكن القول إن المخرج نجح في فضح تلك النزعة الى التوسع التي تحكم سلوك الامبراطوريات الكبرى، وهذا ما يجسده جيداً أغاممنون قائد الجيوش، فهو لا يروم من الحرب على طروادة الا الاستيلاء عليها، ولا يظهر اكتراثاً بمصير هيلين، فالحرب في جوهرها هي التي تصنع الامبراطوريات كما يقول، وليس الحرب من أجل حسناء جميلة أو من أجل عبدة من العبدات كما يعلق إنكلز في كتابه "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة". وهذا ما يظهر في الحوار بين آخيل وبرسيس عندما يؤكد لها أنه لا يعرف نهاية للحرب وأنه مفطور على الحرب، كذلك الحوار بينه وبين أقرانه، عندما يسخر آخيل من إله الشمس بقوله: كم عدد العربات الحربية التي يملكها إله الشمس؟ وهذا ما يذكرنا بقول ستالين في تعليقه على بابا روما عندما قال: كم كتيبة من الدبابات يملك بابا روما؟ أعود الى القول الذي ينطق به أغاممنون ذلك الثعلب الماكر الذي يجسد بسلوكه سلوك قادة الامبراطوريات الحاليين: الحرب هي التي تصنع الامبراطوريات، وعندها تضيع على أعتاب صدام الحضارات، كل محاولة للتعرف الى الآخر، وهنا يصدق قول تزفيتان تودروف في كتابه "فتح أميركا ومسألة الآخر" ان تاريخ الفتح الأميركي يشهد عليى أن كل محاولة لمعرفة الآخر كانت تنتهي بالاستيلاء عليه وتدميره، وهذا ما يجسده جيداً في هذا الفيلم سلوك الجنود في تدمير تماثيل طروادة، وعندما يحتج الملك بريام على هذا السلوك اللاحضاري في تدمير هذه النصب والتماثيل الجميلة يأتيه رمح من الأمام فيشق بطنه فيموت في ساحة الاحتفالات الملكية وسط صراخ الجنود: أحرقوا... أحرقوا طروادة؟ وكأن لسان حال المخرج يقول: احرقوا احرقوا بغداد وانهبوا تماثيلها واسرقوا تاريخها؟ بهذا تتم تعرية نسق حضاري بأكمله.