كان الجمعة 9/7/2004 يوماً مشهوداً في تاريخ القضية الفلسطينية، حين أصدرت محكمة العدل الدولية رأياً استشارياً بشأن الآثار القانونية المترتبة على بناء جدار الفصل العنصري في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، وقررت أن بناء هذا الجدار غير قانوني، ولا يتفق مع الالتزامات القانونية الدولية المترتبة على إسرائيل بصفتها دولة محتلة، وطالبت إسرائيل بالتوقف عن بناء تلك الأجزاء من الجدار التي لم يتم بناؤها بعد، وإزالة ما بني وتعويض الفلسطينيين عما أصابهم من أضرار بسبب ذلك. قبل استعراض المضمون والمغزى، يجب التذكير بأن هذه محاولة أولى ناجحة للفلسطينيين في الوصول إلى أعلى منبر قضائي في العالم، كي ينظر في مظلمة من مظالمهم. فاعتباراً من العام 1947، وقبل صدور قرار التقسيم عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، طالب بعض الوفود العربية باستدراج رأي استشاري من المحكمة الدولية حول صلاحية الأممالمتحدة في تقسيم فلسطين، إلاّ أن تلك المحاولة أُحبطت بقصد وتصميم. كان الموقف الصهيوني آنئذ - وحتى الآن - يستند الى أن النزاع القائم لا علاقة له بالقانون الدولي، بل يجب الجلوس والتفاوض والوصول إلى نتائج ترضي الطرفين. وتجدر الاشارة إلى أن اتفاقات أوسلو خلت من شرط يبيّن آلية فض الخلافات والمنازعات مثل شرط التحكيم واللجوء إلى المحكمة الدولية. وكان الجانب الإسرائيلي يصرّ اصراراً شديداً على استبعاد مثل هذا الشرط، وقبل المفاوض الفلسطيني ذلك بسذاجة مفرطة. إن نجاح الديبلوماسية الفلسطينية في استصدار قرار من الجمعية العامة في 8/12/2003 واستدراج رأي استشاري من المحكمة الدولية بشأن الجدار، هو نجاح يجب أن يسجّل للدكتور ناصر القدوة، مندوب فلسطين المخضرم في المنظمة الدولية. فمهارته ومثابرته وعناده وخبرته الطويلة في اجراءات المنظمة الدولية، أدت إلى هذا النجاح الذي كان مدعاة قلق دائم للمندوب الأميركي. وتقتضي الأمانة أن يسجل للأردن كذلك دوره الشجاع في تبني هذا القرار والعمل على تمريره، ولعب الأمير زيد بن رعد، رئيس الوفد الأردني لدى المنظمة الدولية، بلباقته وكياسته دوراً مهماً في التأثير في الوفود المشاركة. وكان ظهور الأردن - الدولة العربية الأشد حماساً - على هذا النحو المتشدد، على رغم الضغوط الدولية الهائلة التي تعرض لها، يبيّن مدى خطورة هذا الجدار العازل وآثاره الحالية والمستقبلية على الأمن الوطني الأردني. جاء الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية شاملاً وجريئاً وحاسماً. فلم تترك المحكمة الدولية دفعاً أو دفاعاً أثارته إسرائيل أو بعض الدول الأخرى التي كانت تتردد في الموافقة على إحالة مسألة الجدار إلى المحكمة إلاّ وأجابت عنه بتفصيل. ولم تترك رداً من دون تدعيم وتوثيق قانونيين. على سبيل المثال، دفعت إسرائيل، ودول أخرى، بعدم صلاحية المحكمة لإصدار الرأي الاستشاري في هذا الموضوع. ورفضت المحكمة بالاجماع هذا الدفع، مستندة في ذلك إلى قانون تأسيسها وإلى سوابق قضائية اخرى، وأكدت أن الجمعية العامة للأمم المتحدة تملك الصلاحية، طبقاً للميثاق ولقانون تأسيس المحكمة، لطلب رأي استشاري من المحكمة. وشككت إسرائيل في ان تكون المحكمة تملك الحق في اصدار أو الامتناع عن اصدار رأي استشاري، وطالبت المحكمة بممارسة هذا الخيار والامتناع عن اصدار رأي استشاري، لأن من شأن رأي كهذا أن يعوق المفاوضات السياسية. وبغالبية 14 صوتاً مقابل صوت واحد، رفضت المحكمة هذا القول على أساس أن مسؤولية الأممالمتحدة تجاه القضية الفلسطينية مسؤولية مستمرة وتعود في جذورها إلى عهد الانتداب وقرار التقسيم، وان الجمعية العامة تكرر مسؤوليتها الدائمة إلى أن يتم حلّ هذه القضية بشكل مرضٍ ويتفق مع الشرعية الدولية. وجاء الرأي الاستشاري جريئاً خصوصاً ان المحكمة تعرضت لحملة نفسية منذ صدور طلب الرأي من الجمعية العامة في 8/12/2003 ، وكانت حملة عنيفة ومركزة بدأت بالتلويح بأن القضاة، ولا سيما الأوروبيين منهم، لا يعنيهم أمر اليهود، كما طالبت رسمياً بردّ القاضي المصري، نبيل العربي، باعتبار أن له مواقف معلنة أثناء توليه مهمة مندوب مصر في المنظمة الدولية، وهي سابقة لتوليه منصب القضاء في المحكمة الدولية، وردّت المحكمة طلب إسرائيل بغالبية 14 ضد 1، وهي غالبية ساحقة. كما أن القضاة لم يخضعوا للضغط الواضح الذي ظهر في مذكرات الولاياتالمتحدة والمجموعة الأوروبية من أن الجدار، على رغم عدم مشروعيته، إلا أن التصدي له من جانب المحكمة الدولية سيعقد المفاوضات السياسية، وأن المسألة مسألة سياسية وليست قانونية. لم يخضع القضاة لهذه الحملة، كما لم ترهبهم أعمال التلويح بالاتهام ب"العداء للسامية"أو"كره اليهود"أو التحامل ضد إسرائيل. فجاء الرأي الاستشاري حاسماً ونزل على إسرائيل وكل من تعاطف معها كسيف بتّار. ولا أدلّ على ذلك من رد فعل لمسؤول في الحكومة الإسرائيلية قال أن مصير هذا الرأي هو"مزبلة التاريخ". هذه الصفاقة لا تصدر إلاّ عن عقلية استيطانية مليئة بأخلاق المافيا والشوارع الخلفية. لقد حسمت المحكمة الدولية الجدل على تعريف"الأراضي الفلسطينيةالمحتلة"، وهي الأراضي الواقعة ما بين خطوط الهدنة لعام 1949 والحدود الشرقيةلفلسطين الانتداب. أي تلك الأراضي التي احتلت في حرب حزيران يونيو 1967. هذا التحديد الحاسم يقطع الطريق على السفسطائية الإسرائيلية التي أمضت أكثر من ثلاثة عقود، وهي تكرر بأن قرار مجلس الأمن الرقم 242 تحدث عن"أراضٍ محتلة"ولم يتحدث عن"الأراضي"المحتلة. وهكذا أرادت إسرائيل أن تبلع الضفة الغربية وهضبة الجولان ب"ال"التعريف. ويعني هذا التحديد القانوني الحاسم أن أي استيلاء على هذه الأراضي أو أي جزء منها يكون استيلاء بالقوة وهو أمر محرّم تحريماً صريحاً في القانون الدولي. هذا القول الحاسم للمحكمة الدولية لا يعني - بالضرورة - أن كل الأراضي الواقعة خلف الخط الأخضر هي أراضٍ إسرائيلية، بل ان جزءاً منها هي أراضٍ فلسطينية، ذلك أن 21 في المئة من المناطق التي تقع خلف الخطر الأخضر كانت مما يخصّ الدولة الفلسطينية، حسب قرار التقسيم الصادر في العام 1947. وما يردده القادة الإسرائيليون من أن الأراضي الفلسطينيةالمحتلة عام 1967 هي"أراضٍ متنازع عليها"، هو قول يمكن الرد عليه الآن بسلاح الرأي الاستشاري الذي حسم الأمر بتقرير أنها"أراضٍ محتلة"ولا مجال لتغيير وضعها أو وصفها بقرار انفرادي من قبل إسرائيل. كما حسمت المحكمة - ثانياً - في رأيها الاستشاري، مسألة انطباق اتفاق جنيف الرابع على الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، وهو الاتفاق الدولي المتعلق بحماية المدنيين الواقعين تحت الاحتلال العسكري. وعلى رغم أن أجهزة الأممالمتحدة المختلفة، بما في ذلك مجلس الأمن والجمعية العامة، وتقارير منظمات حقوق الإنسان، بما فيها بعض المنظمات الإسرائيلية، تؤكد أن الأراضي المحتلة يجب أن تخضع لاتفاق جنيف، ظلت إسرائيل وأجهزتها المختلفة تعارض ذلك. وقامت محكمة العدل العليا الإسرائيلية والعديد من منظريها القانونيين، ولا سيما القاضي شمغار الذي كان رئيساً لها، بالتهرب من هذا الاستحقاق وذلك بدعوى أن إسرائيل لم تصدر قانوناً وطنياً يجعل ذلك الاتفاق الدولي قانوناً إسرائيلياً، وهذه مقولة فاسدة، اذ أن إسرائيل صادقت على هذا الاتفاق منذ العام 1951. إن المغزى الأهم من تقرير المحكمة الدولية أن اتفاق جنيف الرابعة ينطبق على الأراضي المحتلة، خصوصاً في سياق بناء الجدار العازل، هو ان اقامة المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة مخالفة للمادة 49 6، وأن تدمير الممتلكات الفلسطينية لانشاء الجدار مخالف للمادة 53 من الاتفاق، وان ذلك يفرض على دولة الاحتلال تعويض هؤلاء المتضررين. إن هذه الإدانة القوية لإقامة المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة سيعطي الفلسطينيين الدعم القانوني الواضح في التمسك بحقوقهم بإزالة المستوطنات من أراضيهم. ولو أضفنا الى ذلك ما ورد في ميثاق روما الخاص بمحكمة الجرائم الدولية، من ان انشاء المستوطنات في الأراضي المحتلة يعتبر جريمة حرب، يصبح وضع إسرائيل في المجتمع الدولي وضع"دولة مارقة". كما حسمت المحكمة الدولية - ثالثاً - أن القدسالشرقية هي جزء لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، وهذا الرأي يقوّض كل التشريعات الإسرائيلية التي صدرت بخصوص القدس اعتباراً من حزيران 1967 لا سيما القانون الأساسي الصادر عام 1980 والذي أعلن أن القدس عاصمة إسرائيل. ومن المتوقع أن لا يذهب بعض الدول - ولا سيما الولاياتالمتحدة - مع أهوائها العنصرية فيء اتجاه متعارض مع هذا الرأي الاستشاري وتنقل سفاراتها إلى القدس. كما حسمت المحكمة الدولية - رابعاً - في أن الحل الأوفى بمصالح إسرائيل وفلسطين ووضع حد لهذا الوضع المأسوي يكمن في تنفيذ قرارات مجلس الأمن بحسن نية، ولا سيما القراران 242 و338 والقرار 1515 الذي تبنّى"خريطة الطريق"، وتدعو المحكمة الجمعية العامة للأمم المتحدة أن تشجّع الأطراف المعنية إلى الوصول إلى تسوية تقوم على أساس القانون الدولي وإعلان دولة فلسطين لتعيش جنباً إلى جنب مع دولة إسرائيل ودول المنطقة الأخرى. وبهذه الخلاصة تكون المحكمة الدولية أكدت مبدأ قيام دولتين في فلسطين التاريخية، وان الحل الأمثل لن يكون باستخدام العنف والقوة ووسائل الإرهاب، بل بتطبيق القانون الدولي. إن هذا القول - وإن جاء متأخراً حوالي ستة عقود - إلا أنه القول الذي يجب أن يقود خطى المجتمع الدولي، جماعات وفرادى، في البحث عن حلّ. لقد أثبتت التجارب خلال الفترة الماضية أن الحلول التي استندت إلى القوة أو البهلوانية السياسية لم تجلب إلا الإرهاب والدمار المتواصل، وآن الأوان للمجتمع الدولي كي يجرب طريق القانون الذي رسمته المحكمة الدولية. * حقوقي من هيئة الدفاع القانونية التي تولت تقديم دفاع فلسطين إلى المحكمة الدولية.