الفرصة المؤكدة و مغامرة الريادة في كفتي ميزان    أغرب القوانين اليابانية    أخضر الشاطئية يتغلّب على الصين في ختام بطولة كأس نيوم الدولية    اختلاف التقييم في الأنظمة التعليمية    مهرجان الزهور أيقونة الجمال والبيئة في قلب القصيم    المتشدقون المتفيهقون    الإستشراق والنص الشرعي    بيني وبين زوجي قاب قوسين أو أدنى    أهم باب للسعادة والتوفيق    «مَلَكية العلا»: منع المناورات والقيادة غير المنتظمة في الغطاء النباتي    سعرها 48 مليون دولار.. امرأة تزين صدرها ب500 ماسة    «مزحة برزحة».. هل تورط ترمب ب«إيلون ماسك» ؟    أكثر من 92 ألف طالب وطالبة في مدارس تعليم محايل    أمن واستقرار المنطقة مرهون بإقامة دولة فلسطينية مستقلة    اكتشاف تاريخ البراكين على القمر    البيان المشترك الصادر عن الاجتماع الثاني للجنة الوزارية السعودية- الفرنسية بشأن العُلا    تجاوز الدحيل القطري.. الخليج ينفرد بصدارة الثانية في «آسيوية اليد»    ضمن منافسات الجولة ال11.. طرح تذاكر مباراة النصر والقادسية "دورياً"    الأخضر يبدأ تحضيراته لمواجهة أندونيسيا في تصفيات مونديال 2026    منتخبنا فوق الجميع    14% نموا في أعداد الحاويات الصادرة بالموانئ    عروض ترفيهية    المملكة تستعرض إنجازاتها لاستدامة وكفاءة الطاقة    محافظ محايل يتفقد المستشفى العام بالمحافظة    ضبط أكثر من 20 ألف مخالف لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    شارك في الطاولة المستديرة بباكو..الجاسر: 16 مليار دولار تمويلات البنك الإسلامي للمناخ والأمن الغذائي    إشادة سعودية – فرنسية بتقدم مشروع «فيلا الحجر»    إطلاق النسخة الرابعة من «تحدي الإلقاء للأطفال»    السخرية    المؤتمر العالمي الثالث للموهبة.. عقول مبدعة بلا حدود    وزير الدفاع ونظيره البريطاني يستعرضان الشراكة الإستراتيجية    عمق إنساني    رحلة قراءة خاصة براعي غنم 2/2    الحكمة السعودية الصينية تحول الصراع إلى سلام    الابتسام يتغلّب على النصر ويتصدّر دوري ممتاز الطائرة    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    ألوان الأرصفة ودلالاتها    «الجودة» في عصر التقنيات المتقدمة !    وطنٌ ينهمر فينا    المرتزق ليس له محل من الإعراب    حكم بسجن فتوح لاعب الزمالك عاما واحدا في قضية القتل الخطأ    وزير الرياضة يشهد ختام منافسات الجولة النهائية للجياد العربية    ابنتي التي غيّبها الموت..    زيلينسكي يفضل الحلول الدبلوماسية.. ومجموعة السبع تهاجم روسيا    إحباط تهريب (32200) قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي في جازان    أمير تبوك يطمئن على صحة الضيوفي    ختام مسابقة القرآن والسنة في غانا    خطيب المسجد الحرام: احذروا أن تقع ألسنتكم في القيل والقال    المؤتمر الوزاري لمقاومة مضادات الميكروبات يتعهد بتحقيق أهدافه    اتحاد القدم يحصل على العضوية الذهبية في ميثاق الاتحاد الآسيوي لكرة القدم للواعدين    الزفير يكشف سرطان الرئة    تطوير الطباعة ثلاثية الأبعاد لعلاج القلب    القهوة سريعة الذوبان تهدد بالسرطان    أمير الباحة يكلف " العضيلة" محافظاً لمحافظة الحجرة    تطبيق الدوام الشتوي للمدارس في المناطق بدءا من الغد    تركيا.. طبيب «مزيف» يحول سيارة متنقلة ل«بوتوكس وفيلر» !    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    عبدالله بن بندر يبحث الاهتمامات المشتركة مع وزير الدفاع البريطاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مراجعة السياسات الأميركية في عهد بوش الابن ... بين النخب البيروقراطية ومتدبري الاستراتيجيات . الحض على إشراك أقطاب العالم في صوغ رسومه ... دونه نازع مدمر الى نقيض السياسة
نشر في الحياة يوم 13 - 07 - 2004

كتب 26 ديبلوماسياً اميركياً سابقاً وبعض كبار العسكريين بياناً من خمسين سطراً تقريباً، وَسَموه بنداء "حان وقت التغيير" "الحياة"، في 17 حزيران/ يونيو المنصرم. ويلخص البيان على نحو دقيق مسائل تتصدر المناقشات الاستراتيجية الأميركية عشية الانتخابات الرئاسية، وقبيل انقضاء ثلاثة اعوام على 11 ايلول سبتمبر 2001 وحرب افغانستان وعام ونصف العام على إطاحة صدام حسين واستبداده. وإحجام الديبلوماسيين عن الدعوة الى انتخاب المرشح الديموقراطي جون كيري، وبعضهم شهر اقتراعه للرئيس الجمهوري جورج بوش قبل اقل من اربعة اعوام، يتستر بالكاد على ميلهم الى الشيخ الديموقراطي، وإلى انتقاده بعض وجوه السياسة الخارجية الأميركية في عهد من عقد العزم على هزيمته وخلافته.
والخليط الجمهوري والديموقراطي من موقعي البيان ربما كان يميل الى "بطاقة" مختلطة كذلك من مرشح ديموقراطي الى الرئاسة، هو جون كيري، ومرشح جمهوري الى نيابة الرئاسة هو جون ماكين، منافس بوش على الترشح عن الجمهوريين اثناء حملة العام 2000، وأسير الشيوعيين الفييتناميين، والطيار المحارب السابق في الحرب الأميركية، وأحد اشد المتحفظين عن السياسة الأميركية الخارجية. والحق ان الميل المفترض هذا، وهو لا قرينة عليه من آراء اصحاب البيان المعلنة، داعب المرشح الديموقراطي نفسه قبل طلبه الى جون إدواردز، منافسه في المراحل الأولى من المؤتمرات التمهيدية، الترشح نائباً له في السادس من تموز يوليو الجاري. ولعل اول ما يستوقف من "بيان ال 26" صدوره عن بعض "قمم" البيروقراطية الديبلوماسية الأميركية في العقدين الأخيرين. ففي الموقعين سفراء سابقون الى الإمارات وإسرائيل والأمم المتحدة والمملكة العربية السعودية، وقادة اسلحة مركزيون مثل الجنرال ماريل ماكبيك، قائد سلاح الطيران في القيادة المركزية في حرب تحرير الكويت. وينسب بعض المراقبين الأميركيين الذين تولوا مناصب استشارية وتنفيذية عليا في ولايات رئاسية سابقة - وزبيغنيو بريجينسكي، واحد منهم - الى النخب البيروقراطية الديبلوماسية والعسكرية هذه نازعاً قوياً الى إنشاء "نواة امبراطورية" وذهب بريجينسكي الى هذا الرأي في آخر كتبه، "الاختيار الحقيقي" 2004، ونشرته دار الكتاب العربي في ترجمة عمر الأيوبي.
ويرى المراقبون ان العمل التقني الدقيق الذي تتولاه هذه النخبة بعيداً من لجان الكونغرس الأميركي والصحافة ومن الاحتكام الى الناخبين، والنفوذ الكبير الذي تعهد به إليها مهماتها المعقدة، وتكاثرها جراء تكاثر المهمات وانتشارها في ارجاء العالم الواسع الذي يمت الى الولايات المتحدة وأمنها ومصالحها بروابط وثيقة - تحمل العوامل والملابسات هذه النخبَ الإدارية على البت في المسائل الاستراتيجية بتاً مهنياً وإجرائياً خالصاً. فعلى حين عقدت الولايات المتحدة في غضون ستة عقود 1939 - 1999 نحو مئتي معاهدة اكثر من المعاهدات الثمانمئة التي عقدتها في القرن ونصف القرن السابقين 1789 - 1939، وأجرت 14555 اتفاقاً إجرائياً نظير 1182 في المئة وأربعين عاماً هذه، رضي الكونغرس في شتاء 2002، النزول عن حقه في إعلان الحرب الى الرئيس ووزرائه ومستشاريه وعسكرييه. فالمسألة الأولى التي ينهض النزول عن هذا الحق قرينة على الإخفاق في معالجتها، وهي في صلب صلاحيات الرئيس وعمدة الموازنة الدستورية بين السلطات، هي مسألة الرابط بين "المسؤوليات الأساسية في الحفاظ على الأمن القومي" وبين "توفير القيادة للعالم"، بحسب عبارة الستة والعشرين. ويصوغ بريجينسكي المسألة نفسها، فيقول ان انفراد الولايات المتحدة الأميركية بمرتبة القوة العظمى السياسية والعسكرية، وتغذيتها روافد العولمة الاقتصادية والثقافية التكنولوجية والثقافية، عاملان متنازعان. وهما يمتحنان السياسة الأميركية في الداخل والخارج. فالعامل الأول الانفراد بالسلطان يجمع على الولايات المتحدة مهمات التحكيم والضبط الأمنية والإجرائية، على قدر ما يوجه عليها الضغائن والشكاوى والتهم. ويجردها العامل الثاني العولمة من الحماية التي وفرها الاعتزال الجغرافي والسياسي لها طوال المئة والخمسين عاماً الأولى من استوائها دولة.
وعلى هذا، فتصور إرساء الولايات المتحدة امنها الداخلي والوطني وحدها، بمنأى من المفاوضة والمداولة مع حلفائها الغربيين التاريخيين وإشراكهم في المسؤوليات والقرارات، ومن غير مراعاة احوال البلدان والجماعات "المضطربة" ومشكلاتها السياسية والاجتماعية والثقافية، هذا التصور وهم محض، او "غطرسة في ما يخص دور اميركا في العالم" البيان نفسه. فالنزوع الى الأمن الوطني، "المنزلي"، من طريق الانكفاء والاعتزال، او من طريق "القوة العسكرية والاقتناع بالتفوق الأخلاقي"، بينما ابواب "البيت" ونوافذه مشرعة على رياح العالم الأربع، هجرة وتنقيلاً واتصالاً وتجارة وتأثيراً وتأثراً، هذا النزوع محال ويدفع بعضه بعضاً. فالعولمة، اياً كان الرأي فيها، دوامة لا يسع احداً الفرجة عليها من موضع خارجها. فكيف اذا كان الواحد المفترض اقوى باعث عليها، وصاحب عدوها الأول، وأشد المتعرضين لنتائجها والمنتفعين من عوائدها.
ويقود الاعتداد الأخلاقي والعسكري والاقتصادي بالنفس الى تقديم الأمن الوطني على معياري الديموقراطية، وهما الحرية والمساواة السياسيتان، في الداخل والخارج. ويقود، من وجه ملازم الوجه الأول، الى الغفلة عن الفجوة التي توسعها العولمة بين قطبيها، القطب المنتفع والقوي والقطب الخاسر والضعيف. فإذا اضطلعت القوة الديموقراطية الأولى بتبعات القيادة الدولية والبعث على الديموقراطية معاً، ولم تلتمس في الوقت نفسه الموازنة بين المنازع المتباينة، لم تأمن الوقوع في اسر سرابات معمية وثقيلة التكلفة.
وعلى نحو ما يندد بيان الديبلوماسيين والعسكريين الأميركيين بترك بلدهم "التعامل مع مصادر الإرهاب وأسبابه والسعي في إطفائها" كتفاً الى كتف مع "الحلفاء والأصدقاء التقليديين"، ومع الأمم المتحدة، ينبه مستشار الأمن القومي في عهد جيمي كارتر الديموقراطي 1977 - 1980 الى ما ترتب على إحلال الإرهاب محل الصدارة من التهديدات المحتملة لأمن الولايات المتحدة. فيذهب الى ان صدارة الإرهاب تسوغ سياسة مثلثة: تفيد الأولى ان من ليس معنا فهو ضدنا، وتجيز الثانية الحربين الاستباقية والوقائية وتخلط الواحدة بالأخرى، وتحل الثالثة الأحلاف الظرفية والانتهازية محل الأحلاف المتينة والقائمة على الاختبار والتشارك في المعايير والقيم والغايات.
وتنقلب السياسات هذه على الرسوم الاستراتيجية المعهودة، وتتهدد المعايير والموازين السائرة والمختبرة بالضعف والتداعي. فتكني الأولى عن التسلط والانفراد والقسر. وهذه تخالف مخالفة صريحة دواعي التعريف السياسي والعسكري والإجماع عليه بعد المفاوضة والمداولة. والثانية الجمع بين الحربين الاستباقية والوقائية مصدر فجأة استراتيجية تبث الاضطراب والتوتر في ثنايا العلاقات الدولية، وتوجب الحذر والخشية تالياً، وتجعل التوقع مستحيلاً. وأما السياسة الثالثة فتحمل على اقتناص الفرص والمماشاة الانتهازية، ولا تبعث على الثقة.
اختبار الشرق الأوسط
وتنهض السياسات هذه على ثقة مفرطة و"إيديولوجية" بالنفس، وتعويل مبالغ على القوة العسكرية، وغفلة عن شرائط الأمن في العالم الذي خلف الحرب الباردة. والشرق الأوسط هو مضمار اختبار هذه السياسات. فالشطر الجنوبي الشرقي من اوراسيا، الكتلة البرية والقارية المتصلة من بحر الشمال الى المحيط الهندي وبحر الصين شرقاً، يؤوي اكثر من نصف سكان الكرة الأرضية، وثلاثة ارباع فقرائها. وهو مسرح حروب دينية و"قومية" اثنية بين بعض دوله. وبعض انظمته المتطرفة تسعى جهاراً الى السطو على صناعة القنبلة الذرية. وهو بؤرة حركات متطرفة وغالية استدخل بعض ناشطيها اجهزة دول حازت السلاح النووي فباكستان وإيران وكوريا الشمالية والهند وكشمير وأفغانستان طالبان و"الجمهوريات" السوفياتية السابقة وأطراف الصراع العربي - الإسرائيلي هي في القلب من هذا المسرح. و"قضايا" الأكراد والفلسطينيين والأذريين والكشميريين والشيشان "اصطفت" هذه البلاد موئلاً وأحالتها الى "بلقان دولية" جديدة.
وهي، كذلك، بؤرة الإرهاب وجذوته المتقدة. ولكن ملابسة الإرهاب عوامل تقدم إحصاؤها السريع للتو - وثمة عوامل لم تحص مثل التحولات التقانية وتقريبها التسلح غير التقليدي او العلاقة بين انتشار التعليم الابتدائي والتلفزة وبين شيوع "وعي" قومي وديني يتعالى عن الدوائر المباشرة والضيقة -، تحول بين محاربة الإرهاب وبين تصدرها سياسة الأمن الأميركية في اوراسيا، او تصدرها السياسة الأميركية عموماً.
وينكر الديبلوماسيون والعسكريون، شأن بريجينسكي قبلهم، على السياسة الخارجية الأميركية، وعلى الشق الداخلي الملازم لها، ضيق افقها، وإغفالها العوامل البديهية الأولى التي تعمل في الإرهاب وجماعاته وبؤره وأسلحته وأهدافه. فعلى خلاف الجماعات الإرهابية "الضعيفة"، والمنظر الاستراتيجي يندد بتعظيم التهديد الإرهابي وبما يضمره التعظيم من نشدان أمن ناجز ومستحيل، لا يجوز ان يعمد القوي، وهو الدولة الأميركية في هذا المعرض، الى اختزال موضوع سياسته ومخاوفه. فالضعيف يقوى بهذا الاختزال على حين يضعف القوي به. وذلك لأن مصالح القوي، وهو دولة او دول وشعوب ومجتمعات وليس "حركة" أو "جماعة" و"عصابة"، متشعبة ومتشابكة، ولأن تعريف الدول والمجتمعات هذه غاياتها الصالح او الحَسَن أو "زينة الحياة" في الدنيا والآخرة يقسرها على اعتبار منازع متباينة، فلا يسعها اهمالها، على النقيض من جماعات الإرهاب.
وفي ميدان التسابق على الاختزال والتبسيط، لا ريب في سبق هذه الجماعات. وحمل الإسلام والمسلمين والشرق الأوسط على اسم الإرهاب هو ثمرة مسمومة من ثمرات التسابق هذا، وفوز جماعات الإرهاب في مضماره. فالأمم المتحدة تعد واحداً وأربعين بلداً "مسلماً"، تترجح نسبة السكان المسلمين فيها بين 66 في المئة وبين 85 الى 100 في المئة. ويبلغ المسلمون 2،1 بليون، على قدم المساواة تقريباً مع الصين والهند. وليس بين بلدانهم ودولهم بلد واحد، او دولة واحدة، يقر بجملة الحريات السياسية والفردية، ويدير هيئاته وقوانينه على صيانتها ورعايتها. فالهيئات السياسية المدنية هشة، والمجتمع المدني المستقل بمنظماته ونشاطاته عن الدولة وأجهزتها ضعيف، والخروج عن التقليد والتماس السبل الخاصة للعبارة عن الاختبارات واستنباط الحلول عسيران.
ويعود السبب في هذه الحال، في شطر منه، الى إرث السيطرة الاستعمارية المباشرة، وتركها المجتمعات التي تسلطت عليها "قاصرة" وخلواً من هيئات متماسكة وقادرة على التأليف بين الجماعات. ويعود، في شطر آخر، الى تشابك الدين بالسياسة، وصدور الجماهير عن معالم تقليدية ثابتة، وقائمة برأسها. وينبغي ألا تصرف أثقالُ الماضي النظر عن احتساب عوامل حاضرة وفاعلة ابرزها إحباط رغبات وتطلعات اجتماعية واقتصادية اسهمت العولمة في ايقاظها وبعثها ثم نكصت عن تلبيتها فزادتها وخزاً وألماً وزادت اصحابها يأساً. ومشت المنازعات الإقليمية والمحلية الأهلية المتفجرة في ركاب سياسة هذه المجتمعات حتى كادت ان تكون تعريفها ومادتها. وعليه، فليس الدين، على رغم اضطلاعه بدور راجح في بلورة مشكلات هذه المجتمعات، وإخراجها الى علانية العبارة و"عقلنتها"، العامل او السبب الفرد فيها. وهو ما يذهب إليه طرفا النقيض من سياسة الإرهاب. ف"الطبقة" الحاكمة، هنا وهناك، ترسي على التقاليد الدينية والشرعية انفرادها بالسلطة والموارد، وتوزيعها على "المجتمع" الأهلي وجماعاته، من طريق اجهزة الدولة والحكم، فتات الإعالة لقاء تبعية الجماعات الأهلية وانكفائها، وسكوتها عن فقرها وبؤسها. وتقتصر مشاغل الدول هذه، "طبقة" حاكمة وجماعات محكومة، على مشكلاتتها وأزماتها الداخلية والأهلية المستعصية، وعلى منازعاتها الإقليمية والمزمنة. فتتشارك "الطبقة" الحاكمة والجماعات المحكومة في إذكاء المشكلات والأزمات، ويغلو الطرفان او الجناحان غلواً شديداً في "معالجة" المنازعات واختصارها في الحرب.
فهذه الدول ومجتمعاتها، والحال هذه، مصدر اضطرابات ومنازعات وانفجارات لا تعفّ عن مسارح العلاقات الدولية، في الجوار القريب والدوائر الأبعد. ولا شك في ان تيارات الهجرة الى البلدان البعيدة، وزيادة السكان ولا سيما شطرهم الفتي، وغلبة الشيخوخة، على المجتمعات الغنية وسكانها العاملين والمتعلمين، ويسر الاتصال وأثره في لحمة الجماعات العريضة والضيقة في المهاجر والمواطن الأولى، كلها عوامل تشيع الاضطراب، وتفشيه في ارجاء العالم بين الفينة والفينة، وتيسر تصديره إليها والتوسل به "حجة" سياسية عشية انتخابات عامة هنا واقتصاصاً من نتائج انتخابات رئاسية هناك. ولا عجب اذا ادت سياسات الإرهاب هذه الى تفاقم الضياع، وابتعاد المعالجات المعقولة، والإغراق في التطرف الديني والقومي، والسعي في جمع الشتات السياسي المتنافر على عداء "اميركا".
ونجم عن "انحياز" روسيا فلاديمير بوتين الى السياسة الأميركية في أفغانستان، وعن رضوخ حاكم روسيا "الجديد" للقواعد الأميركية في آسيا الوسطى ولموطئ القدم في القفقاز، وهو تحدوه رغبة في لجم التيارات الإسلامية الانفصالية في جوار روسيا، إدخال الإسلاميين روسيا في "الجبهة" الأميركية. ومن هذه الطريق كذلك دخل المسلمون والإسلاميون في "جبهة" عالمية إسلامية تناصب النواة الأميركية ومتعلقاتها الغربية، العداء، و"الحرب" إذا عرضت لها فرصة. ويحقق هذا بعض برنامج "شيخ" الجبهة العالمية العتيدة، وقسمة الأرض وشعوبها وأممها حزبين وفسطاطين وولاء وبراء.
ولكن هذه "الجبهة"، وهي جبهة مشاعر وانفعالات فوق ما هي جبهة قوى فاعلة ومنظمة إلا القليل، تشكو الضعف في بعض اقوى حلقاتها، على ما يأمل بريجينسكي. فإيران دخلت حقبتها "التيرميدورية"، كناية عن افول القوى الثورية الطرفية وغلبة التيارات المعتدلة والبورجوازية التي انقلبت في شهر ترميدور، الثوري الفرنسي، من عام 1794 على اصحاب المقصلة. ويتخبط إسلاميو باكستان في حرب سياسية وأمنية طويلة على حكم مشرَّف. ويستنفد السودان قواه في حروبه القومية والمحلية. وتدمر اندونيسيا ببطء شبكاتها الإرهابية. وتتماسك جماعات الإرهاب في "مقاومة" عراقية تخطو خطوة الى أمام واخرى الى وراء في سجال لم تحرز الجماعات هذه فيه "يوماً" حاسماً لها ولم يحرز مناوئوها "يوماً" عليها.
ويأمل الكاتب، من وجه آخر، في ألا يتطاول إنكار المعاصرة والحداثة، او الإنكار عليهما، إلى جماعات تتخطى الجماعات الضيقة والأقليات المتشددة. وهو يرجو، وإن على نحو تقريري واستدلالي، ألا يقوم الإنكار على عالم الحداثة مقام اختيار مقبول تصدع به الكثرة او الجمهور، فتعزف عن ثمرات الحداثة وتدير لها ظهرها. ويقصر هذا الإنكار على إيران "المتشيعة"، ولبنان الجنوبي تحت الاحتلال الإسرائيلي وأفغانستان وجزء من السودان. وقد تفضي اخطاء اميركية في العراق الى نحو شبيه بهذا. وفي بلدان اخرى مثل مصر والجزائر وأندونيسيا، وجمع مصر وأندونيسيا الى الجزائر في باب واحد غير مقنع، أخفق السعي في الاستيلاء على الحكم. ويجزم بريجينسكي في ان الحكومات التي تستظهر بشرعية الدين اقوى على التيارات الإسلامية وأعصى منالاً. وهذا بعيد من البديهة، ولا يتفق وشواهد كثيرة بعضها سبق كتابة الكتاب، وبعضها جاء بعدها.
وهو يميز الأصوليين، دعاة الثيوقراطية المباشرة على مثال خميني ايراني او طالباني افغاني، من اصحاب الحركات الشعبوية الذين تنصب الإسلام "ايديولوجية سياسية عامة" يستوحون معاييرهم وقيمهم ومشاربهم التاريخية، ولكنهم يقفون عند ترجمة هذه الإيديولوجية نظاماً حرفياً. وبين الحزبين خلاف يبلغ مبلغ العداء والتكفير، على ما من حال تيارات "إخوانية" او طرق وشيع تركية او هندية وحركات سياسية استقلالية في بعض الدول الآسيوية الكبيرة. ولا تتنكّب التيارات والطرق والشيع والحركات هذه الدعوة الى ديموقراطية غير ليبرالية. وبعضها يرى الى نظام استفتائي شعبوي "حلاً" سياسياً يناسب التقاليد الدينية والتاريخية الموروثة ويماشيها. وكثرة منها تجيز الحرية الاقتصادية والتملك الخاص وإوالات السوق، ولا ترى عنها محيداً. ولا يجمع معظمها على الحدود الفاصلة، في الدولة العتيدة، بين الحريات المدنية، الفردية والجمعية، وبين دائرة الشريعة او دوائرها.
وتشفع تطورات سياسية مسالمة جرت في اندونيسيا والبحرين وتونس والمغرب وإيران وتركيا، وتجري فيها وفي غيرها، بتوقع ثقافة سياسية معتدلة تتلقاها بالقبول جماعات او جماهير يغلب عليها التطرف اليوم. فالإسلام الشعبوي، على ما يجادل الكاتب، قد يكون "نقيضه" الأصولية، فيتخطى إنكارها العنيف على عالم الحداثة على نحو ما يتخطى بعض وجوه السيطرة الغربية، وينسخها فيؤولها ويسعها دمجها في الميراث الإسلامي. ويرجح ان يؤدي تمثُّل الحداثة التقنية الى مفاعيل حداثوية وعقلانية في ميادين وحقول اخرى تقود، بدورها، الى إرساء اصول الديموقراطية والحقوق المدنية على اركان مستقلة. وإقبال الأندونيسيين على إقالة رئيس بتهمة الفساد، في غضون خمسة اعوام، وإجراء انتخابات سابقة خفيفة القيود بإيران، واحتماء الحركة الإسلامية التركية بالمبادئ الأوروبية، قرائن على الشطر الذي يممه التغيير.
وتخالف هذه القرائن نذرُ الانقسام الأميركي - الأوروبي على المسألة الفلسطينية والإسرائيلية، وعلى المسائل الإقليمية الأخرى في الشرق الأوسط. فالانتصاران الأميركيان في 1991 و2003 ترينا لبعض اجنحة الحكم الأميركي جواز حلٍّ واحداً لمشكلات الشرق الأوسط كلها، السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية "الشرق الأوسط الأكبر". وهذا اشبه، على رأي الكاتب، بمبادرة اوروبا الى معالجة العلاقات بين الولايات المتحدة والمكسيك. فالشرق الأوسط، اي المشرق العربي وشمال افريقيا، هو بإزاء اوروبا فناؤها وردهتها و"حوشها"، فلا يسعها التزام معالجات لا تطوي مخلفات النزاع الفلسطيني والعربي - الإسرائيلي، وتستجيب بعض المطاليب العربية في هذا الشأن، وتضعف التذرع العربي بإزمان هذا الصراع الى التهرب من الإصلاح السياسي والثقافي والاجتماعي.
ولا يسع الولايات المتحدة ولا الاتحاد الأوروبي قطع دابر الاضطراب العراقي اليوم، والاضطراب الإيراني غداً إذا ارتأت السياسة الأميركية قمع التجاوزات الإيرانية بالقوة. فهشاشة الأبنية السياسية في الدائرة النفطية الشرقية والآسيوية الوسطى، وتشابك هذه الدائرة مع منازعات داخلية اهلية وقومية ودينية، يمتحنهما التدخل العسكري امتحاناً عسيراً. فلا ينجم عنه إلا إضعاف تماسك الدول هذه، ويعرض استقلال دول حوض قزوين الى مخاطر روسية لم تطوَ ولم تنقشع. وتتبوأ ايران اذا استأنفت وصل ما انقطع من علاقاتها بالغرب واليابان وأقبلت في الداخل على سياسات تحديث وتجديد، مكانة حاسمة. وخروج إيران من عزلتها التي يتضافر على دوامها واستمرارها منزع خميني وداخلي لم يفتر وخشية اميركية لم تسكن.
ويمر بريجينسكي بالمسألة الإيرانية في معرض إحصائه المسائل الأوسطية العالقة. وما يكتبه فيها، او يخلص إليه من تناولها يقوم ربما قرينة على حدود النوايا الاستراتيجية الطيبة. ونواة هذه النوايا إشراك الدول والمجتمعات والسياسات غير الأميركية وتتصدرها اوروبا، داخل إطار القوة الأميركية هي الراجحة فيه، في رسم سياسات تراعي مصالح المشاركين وأمنهم. وهو "الخيار الحقيقي". وإلى خيار قريب تخلص رسالة الديبلوماسيين والعسكريين ال 26، فهي كذلك تدرج الإرهاب والعزلة الأميركية وانتشار اسلحة الدمار الشامل، والتوزيع غير المنصف للثروة وثمرات العولمة، وتردي البيئة، وانتشار وباء عوز المناعة المكتسب، وخلل ميزان السكان والأعمار - في سياق واحد.
فما يخلص إليه من تناوله المسألة الإيرانية، واقتراحه "علاجها" بإقلاع السياسة الأميركية عن السعي في عزل ايران، والتنسيق مع الاتحاد الأوروبي الذي يدعو الحكم الإيراني الى العودة الى محلها من الأسرة الدولية ضمناً: على ما كانت عليه الحال في عهد محمد رضا بهلوي واستئناف سياسة تحديث وتجديد داخليين، اجتماعيين وثقافيين. وإلى هذا قصد آخر بهلوي كان على العرش. ويبني صاحب "الخيار الحقيقي" على هذا توقعه ان تيمم ايران شطر السياسة التركية التي ينتهجها حزب العدالة والتنمية "المسلم"، منذ سنتين. ولكنه ينيط، في الفقرة نفسها، تحقيق التوقع بوعي النخبة الوطنية الإيرانية ان عزلة ايران هي "خيار مستقل" ارتضاه الحكم الخميني وليس فرماناً اميركياً. وهو يشرط هذا الوعي بانتهاج السياسة الأميركية نهجاً بنّاء على غرار النهج الأوروبي ومثاله.
وامتحان الانعطاف المرجو هذا بالاحتكام الى حوادث السنتين المنصرمتين، منذ افول "الإصلاح" الخاتمي وتعثره ب"وعي" "النخبة الوطنية" وارتباكها وتآكل لحمتها، يبرز عوامل داخلية نكوصية يهون الكاتب من شأنها ويصدق هذا في معظم مسائل الشرق الأوسط، وربما تبالغ إدارة بوش اليوم في تقديرها، من غير وجوب الخلوص الى ان "الوسط" هو الحل الناجز. فالغلبة على سياسات الشرق الأوسط العتيد هي لضرب من نقيض السياسة يرسي السلطة على هياكل خاوية ومُقْوية ينعق البوم "المثقف" في بعض الأحيان، بين انقاضها. ونسب الاقتراع في الانتخابات البلدية، والانتخابات النيابية الأخيرة بإيران، علمٌ على نجاح نقيض السياسة هذا. وهو يشق طريقه مظفراً في فلسطين وسورية وغيرهما.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.