بعد توقف الحرب الباردة، منذ ما يزيد على عقد من الزمن، كان من المتوقع زوال الأنظمة الشمولية التي تحكم بواسطة الحزب الواحد، والفرد الواحد، والطائفة الواحدة، والتي جاءت على رغم إرادة الشعوب. وكان النظام السياسي في بغداد نموذجاً مثيراً للاهتمام في استعصائه وتمرده على منطق العصر، وحقائق التاريخ، بوسائل غير تقليدية، وأساليب مبتكرة. فقد احتمى هذا النظام، بداية، بخطاب قومي أصولي الى درجة العنصرية. وأمام التحولات النوعية العميقة على الصعيد العالمي، وانهيار أنظمة الحزب الواحد الشمولية، بحث عن بديل يحميه من السقوط، فكان الإطار الطائفي. ثم تحول مضطراً الى القبيلة، والعشيرة والعائلة، بأضيق تكويناتها. واقترن هذا التدرج بآلة عسكرية مخيفة، وضبط أمني رهيب، ووسائل ترهيب مستحدثة فاقت كل تصور. وهذا المشهد يقيس مدى الانحدار الذي حصل لحزب قومي بدأ مناضلاً ضد الاستعمار، وفي سبيل التحرر الوطني، وانتهى فرداً مستبداً طاغية في بلد يستنجد شعبه ب"الامبريالية" لإزالته والقضاء عليه. ولا بد من التمعن في حادثين بارزين لفهم اقدام الولاياتالمتحدة الأميركية على قيادة التحالف الدولي، وشن الحرب على النظام العراقي، وهما نهاية الحرب الباردة و11 أيلول سبتمبر 2001. وفي وضع دولي تتمتع فيه الحكومة الأميركية بمواصفات القطبية الآحادية وموقع القوة الأعظم، فإن سياستها لا تخلو من ميول السيطرة، والتعامل بالعقلية الامبراطورية التي سادت في القرن التاسع عشر. وليس سراً أن حربها على النظام العراقي من أجل أهداف كثيرة ومتكاملة، لا تقتصر على إزالة أسلحة الدمار الشامل، بل تتعداها الى تأمين النفط - انتاجاً وتسويقاً وتسعيراً - وتحقيق السلام العربي - الإسرائيلي بواسطة استكمال الخطوات السابقة التي تحققت في مدريد وأوسلو. أما 11 أيلول فجاء رافعة واسناداً للاستراتيجية الأصلية، وعامل تسريع للتحرك العسكري الأميركي في أفغانستانوالعراق. والشعار استمرار لخطوة 1991، بعد توقف الحرب على مشارف البصرة. واستراتيجية الحرب الأخيرة لا تختلف عن حرب أفغانستان وكوسوفو وصربيا، أي تغيير النظام المعادي، وليس تدمير الدولة. الحال واحدة في مسألة الشرعية أو عدمها. فنجاح هذه الحرب في تحقيق أهدافها يمثل تحدياً للنظام الدولي الجديد، ليس في إسقاط الديكتاتورية وحسب، بل في إقامة حكومة ديموقراطية موحدة من عناصر مختلفة، قومية ودينية ومذهبية. والنجاح المنتظر هو نجاح للقيم الجديدة التي عجزت حقبة الحرب الباردة عن تحقيقها، خصوصاً في مجال الدولة المتعددة القومية، وحل المسألة القومية على قاعدة حق تقرير المصير والتعايش السلمي، وإنجاز مهمات بناء الدولة الوطنية المستندة الى المؤسسات والتقدم العلمي والثقافي، والبناء ومبادئ التسامح وقبول الآخر والحريات العامة، والانفتاح الاقتصادي، ووضع حد لأنظمة الحزب الواحد القمعية والعسكرية والأمنية. والمهمة العراقية تبقى ناقصة ومحدودة، على رغم أهميتها، إذا لم تنه النماذج الشرق أوسطية، خصوصاً في الدول المتعددة القومية التي تحكمها أنظمة ديكتاتورية، ثيوقراطية أو حزبية. وهناك ثلاثة نماذج تشترك في معاداة الحداثة والتطور: النموذج الإيراني الذي أثبت فشله، وهو تيار قومي فارسي تحت عباءة المذهب الشيعي والشعارات الإسلامية، والنظام البعثي فشل كذلك، ويحتمي بشعارات تخلط العلمانية بالأصولية الدينية والنظام التركي حزب العدالة باتجاهاته القومية الى درجة العنصرية قبرص وكردستان العراق. وهل هناك هدف أسمى من تغيير هذه النماذج؟ وليس انفراد الولاياتالمتحدة بالحرب، بشرياً وتكنولوجياً ومالياً وإعلامياً، إلا إشارة الى رجحان كفة "القطبية الواحدة"، وعدم أهلية الاتحاد الأوروبي لتشكيل قطب ثان مواجه، بسبب انقسامه. والنجاح الأميركي يدفع الى تغيير أسس العلاقات الدولية، بما فيها دور الأممالمتحدة. واستراتيجية الحرب الراهنة لا تعود الى العقيدة العسكرية الأميركية الجديدة، "الاستباقية"، وحدها. وتترتب عليها تصفية الأنظمة الداعمة للإرهاب، والراعية له، وإزالة مواقع نووية ومفاعل ومصانع تنتج أسلحة الدمار الشامل في بقاع العالم. وهناك عوامل أخرى خاصة بالوضع العربي والشرق أوسطي تدعو الى البحث عن بديل للنظام العربي، وتغيير ما هو قائم لينسجم مع موازين القوى الجديدة، وتعديل الخلل عبر التوجه نحو الحداثة وطريق الديموقراطية. فليس سراً أن النظام العربي الرسمي يحتضر منذ غزو العراق للكويت. والجامعة العربية تعاني الخلل. والوضع الراهن بدأ يفرز تطورات من خلال تعامل الولاياتالمتحدة الأميركية مع الدول الصغيرة في العالم العربي والشرق الأوسط، وحتى أوروبا. فالعلاقات الوثيقة مع الكويت وقطر والبحرين تحل محل الاستقطاب التقليدي لدول كبيرة مثل إيرانوالعراق. وأن تجيير نتائج الحرب في العراق، وإسقاط النظام لمصلحة شعوب منطقة الشرق الأوسط، متوقف على مدى قيام الحركات الوطنية والديموقراطية بواجباتها، وتوظيف الحوادث التاريخية العميقة لمصلحة التقدم، والاستفادة من هيكلية التحالفات الجديدة في الشرق الأوسط، بين الشعوب والدول، من جهة، وبين الولاياتالمتحدة الأميركية ودول الغرب على وجه العموم. وما يهم شعوبنا هو زوال الأنظمة الشمولية الديكتاتورية الشوفينية، وخصوصاً أنظمة الحزب الواحد والمخابرات والميليشيات والأجهزة القمعية، وإعادة التشكيل السياسي لأنظمة عصرية ديموقراطية تعددية تعترف بالآخر، وجوداً وحقوقاً، والتوصل الى إيجاد حلول سلمية للقضية القومية على قاعدة الاتحاد الاختياري، وحق تقرير المصير، وفي إطار وحدة وسيادة الدول القائمة. وهذا يتحقق بعقد مؤتمر دولي - اقليمي مع الدول العظمى وهيئة الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي. لندن - صلاح بدر الدين عراقي مقيم