"هل يمكن تحرير الفكر العربي من زاوية "حدودية"؟... أعني بالنظر في تجاوز "الحدود" الذهنية والنفسية التي تجمّد فيها هذا الفكر طويلاً؟". هذه محاولة تبدأ بتوصيف هذه الحدود التي هي في تقديرنا أخطر مما تعارفنا عليه بمصطلح "الحدود القطرية"؟ فإذا كانت الحدود "القطرية" البارزة بين الكيانات العربية هي ما يثير الشجى لدى الكثيرين من العرب، والتي صارت تهدد بالمزيد من الحدود حتى داخل الدولة القطرية ذاتها فإن "الحدود" الفكرية التي تطوّق العقل العربي هي ما يحتاج الى تسليط الضوء عليه لئلا يبقى عقل العرب سجيناً في هذه القبضة الى الأبد. 1 فالعرب يعانون في زمننا اشكالية "حدود" ذهنية ونفسية تفصلهم عن العصر والعالم. فهم لم يتكيّفوا بعد مع المعطيات الأساسية للعصر الحديث من حيث مفهومات: المنهج العلمي، العقلانية، المواطنة، المجتمع المدني، الدولة الحديثة، الحياة الدستورية - البرلمانية - الديموقراطية. كما انهم يعيشون هاجس الارتياب المتوارث في مادية العصر وإلحاديته وإباحيته، مع تجاهل أو جهل ما فيه من اخلاقية حقوقية وشفافية سياسية وصراحة علمية واجتماعية على ما يشوبها من مظالم بسبب اختلال التوازن بين القوة والضعف، وذلك ما يخلق "حداً" بينهم وبين روح العصر وما تملكه قواه من إمكانات التقدم والقوة في واقع الصراع غير الملتزم بداهة بمثاليات العدل عبر التاريخ. والمفارقة انهم مع وقوعهم في هذا "التداخل" الحدودي الذهني، لم يرسموا الحد الفاصل - الذي لا بد منه - بين الغرب كعلم وحضارة وتقدم والغرب كاستعمار وامبريالية وأطماع وتآمر، ها هنا "حدود" بالمعنى الإيجابي على الذهن العربي ان يرسمها في تفكيره وأدائه، إن أراد اختراق العصر ومواكبته، وذلك بعد تخطيه الحد الفاصل بينه وبين عصره وعالمه بصفة عامة، بالمعنى الذي أشرنا اليه. والأخطر ان اعداء العرب يريدونهم أن يبقوا أعداء للحضارة الحديثة والعالم كله ليواصلوا افتراسهم وهم في حالة الضعف والحرمان من مقومات القوة الحضارية في هذا العصر. 2 استتباعاً لذلك، وبما لا يقل خطراً، فإن الذهنية العربية العامة، وعلى كثرة ما نشأ من علماء وباحثين معاصرين أفذاذ من أبناء الأمة العربية أكثرهم اضطر للهجرة الى الخارج، هذه الذهنية العامة تقوم بينها وبين الفكر العلمي والعقلي المتأصل في الحضارة الاسلامية ذاتها، والذي كان نقطة الانطلاق في الحداثة الغربية، حدود لا بد من فتح ثغرات فيها، وإقامة جسور عليها كي يتفاعل العقل العربي مع الفكر العلمي الحديث ويأخذ أساسياته في الاعتبار في صوغ ايديولوجياته المعاصرة، سواء أرادها قومية أو اسلامية او وطنية، حيث ان اقامة مثل هذه الايديولوجيات على أسس عاطفية ووهمية، بل وخرافية، من أسباب الكوارث الراهنة في حياة العرب المعاصرين. ذلك ان "الظن" لا يغني عن الحق شيئاً، كما يوجهنا القرآن الكريم. والتصورات السائدة في الذهنية العربية المسيطرة لا تخرج عن هذا "الظن" الذي لا بد من تجاوزه بتأسيس علمي منهجي موضوعي لا يقبل المغالطة، وخداع النفس، أو محاولة خداع الآخر الذي لن يخدع في نهاية الأمر. يشهد الخطاب الاسلامي المعاصر منذ صدور كتاب معالم في الطريق عام 1965 لسيد قطب ردة عنيفة ضد العقلانية الاسلامية ذاتها كما تمثلت في فكر المعتزلة والفلاسفة الاسلاميين الموحدين. ولعله ليس من المبالغة وصفه بأنه "المنفستو" الأول للحركة الأصولية السائدة، هذا مع عدم إغفال ما لنظيره د. محمد محمد حسين من مثل هذا التأثير في مؤلفاته منذ الخمسينات، وإن كان أعمق منهجياً وأدق علمياً منه. ويجب ألا نفهم من الدعوة الى بعث العنصر العقلاني في الإسلام ان الدين والعقل يتطابقان تمام الانطباق. فهما يسيران معاً في أشواط من الحقيقة، لكن لمنهج العقل حدوده ولطبيعة الإيمان إشراقه، ومن الأمانة أن نكون على بينة: أين يقف العقل والى أين يصل الإيمان؟ 3 ان التأخر الزمني التاريخي الخطير في استيعاب أسس هذه الثورة العلمية التي قلبت تطبيقاتها حياة البشرية قاطبة في التكنولوجيا المدنية والعسكرية، انعكست على العرب أنفسهم ورسخت "حداً" من هذه الحدود في الذهن العربي المعاصر حيال إعادة النظر - علمياً وموضوعياً - في مجريات التاريخ العربي والاسلامي كما حدثت في الواقع وليس بحسب التصورات الرومانسية والمثالية اليوتوبية التي تحفل بها الأدبيات التاريخية المتداولة عند العرب. أضف الى ذلك ان النهج العلمي في تحليل حقيقة مجتمعاتهم سوسيولوجياً وانعكاسات هذا الواقع السوسيولوجي على الاداء السياسي للدولة والمعارضة والنخب و"الجماهير"، هذا النهج العلمي الذي يمثل حجر الأساس في علم الاجتماع الحديث والذي يعود بجذوره الى ابن خلدون! يمثل احدى حقائق الغائبة أو القاصرة في الثقافة العربية المعاصرة. وعلى رغم اهتمام كبار المفكرين العرب بابن خلدون من الشيخ محمد عبده الى طه حسين الى ساطع الحصري الى علي الوردي، توجه الاهتمام منذ بدء النهضة العربية الحديثة الى الإحياء الأدبي والشعري - وكان ذلك طبيعياً في بداية النهضة - والى الرومانسيات التاريخية والاندلسيات، ثم سادت بعدها الايديولوجيات السياسية الحزبية كتوجهات عامة وشعارات، وكان الغائب الأكبر في هذه الظاهرة أبرز متطلبات الثورة الثقافية العربية الجديدة التي نعتقد بأن ظروف العرب الراهنة ومستجدات العصر تحتمها بقوة ولمن شاء التوسع تراجع مقالات المؤلف: "حاجة الثقافة العربية الى نزعة التحليل الاجتماعي"، و"نحو فكر اجتماعي يرى الأزمة في جذورها" و"نظرة في الجذور: مدى مسؤولية الماضي عن أزمة الحاضر" وذلك في كتابه تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1998، الصفحات: 97، 105، 111. *** تلك نظرة خاطفة ومكثفة في ما نعتبره "العقدة الحدودية" بين العرب المعاصرين وعصرهم وعالمهم. أما في ما يتعلق بواقع الحدود الملموسة في الكيان العربي - ماضياً وحاضراً، فمن المفيد فهمها في نطاقها الموضوعي الجغرافي والتاريخي، لتجاوزها وتخطي آثارها بنهج موضوعي وفاعل، بدل توجيه الهجاء القومي اليها بما لا يؤدي الى التخلص منها في الحقيقة والواقع... فهي "حدود" استفادت منها خطة سايكس - بيكو، وإن لم تخلقها من عدم. 1 يلاحظ تاريخياً ان وحدة دائرة الحضارة العربية الاسلامية لم تتطابق معها، في المدى التاريخي المتتابع، دائرة سياسية متطابقة واحدة باتساعها، كما في الظاهرة الصينية، مثلاً، حيث تطابقت الدائرة السياسية القومية مع الدائرة السياسية العربية ضمن الدائرة الحضارية الأوسع. وهذه ظاهرة تاريخية وليست نتاجاً لاتفاق سايكس - بيكو في المشرق العربي التي أضافت الى تلك التجزئة التاريخية تجزئة استعمارية جديدة. والجدير بالملاحظة والمقارنة، كما قرر باحثون عرب كثيرون، ان الاستعمار جزّأ في مواضع من الوطن العربي و"وحّد" في مواضع أخرى، بحسب ظروفه ومصالحه. فالفكر الاستعماري الحديث، كالحضارة التي يمثلها فكر براغماتي لا يتقيد بأحادية النظرة الجامدة، أو كما قرر د. غسان سلامة: "المستعمر نفسه قبل بحالات عدة من التوحد حيث كان التشرذم ممكناً له... ذلك ان قاعدة فرّق تسد بعيدة من أن تكون مطلقة، ... ثم اننا نرى في غير مكان من رقعة العرب، بل في معظم الأراضي العربية، ان الدول التي نشأت كانت امتداداً عصرياً لبنى سياسية متميزة تاريخياً الى هذا الحد أو ذاك. وهذه حال عمان واليمن، ومصر ولبنان، والمغرب طبعاً د. غسان سلامة، عوائق الواقع العربي القطري، في مجلد: الوحدة العربية، تجاربها وتوقعاتها، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1989، ص 472. 2 يكمن السبب الموضوعي في تقديرنا لهذه التعددية التاريخية في خصوصية الجغرافيا العربية. فالفراغات الصحراوية الشاسعة والقاحلة فصلت طبيعياً بين مراكز التحضر التي أصبحت "دوائر سياسية" متعددة في الدائرة الحضارية العامة، وكانت حركة القوافل في العصور الاسلامية تخفف بما تحمله من عوامل التفاعل من حدة هذه "الحدود" والتعدديات. إلا أنه برسم الحدود الحديثة بين الكيانات القطرية وما صحبها من موانع جمركية واقتصادية وأمنية وسياسية بين الدول العربية، رسخ هذه الحدود وثبتها. هكذا فيمكن اعتبار الفراغات الصحراوية وما ولدته في بواديها من قبائل تتشرذم عادة الى عشائر وأفخاذ متنافسة ومتصارعة، بمثابة "العامل الانفصالي" الأول في الحياة العربية المعاصرة. وعلى العرب التعامل واقعياً مع هذا العامل، إضافة الى الأطماع الدولية بطبيعة الحال، للتخفيف من آثاره. وبينما كان الفكر القومي يتحدث برومانسية عن الوحدة العربية، التي هي في الواقع ظاهرة لا تنكر جذورها وتجلياتها في كثير من مناحي الحياة العربية، كان باحث موسوعي عربي مثل المؤرخ العراقي د. جواد علي ينبه الى حقيقة موازية ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار في فهم الجذور التاريخية للحدود القطرية المعاصرة، في جانب مهم منها. كتب يقول: "حالت البراري بين العرب وبين تكوين المجتمعات الكبيرة الكثيفة، وعرقلت الاتصالات بين المستوطنات الحضرية التي بعثرتها... وبعثرت الأعراب في البوادي على شكل قبائل وعشائر... والمجتمعات الكبيرة الكثيفة هي المجتمعات الخلاقة التي تتعقد فيها الحياة، وتظهر فيها الحكومات المنظمة للعمل وللانتاج وللتعامل بين الناس" د. جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام، بيروت، دار الحداثة، 1983، ج 7، ص 6-18. وذلك ما يضعنا أمام اشكالية خاصة بالعرب وهي أنهم أمة موحدة الوجدان، مفرقة الكيان، وما لم يتمكن وجدانهم الموحد من فرض حقيقته على واقع الأرض العربية في البنى التحتية اللازمة للوحدة من اقتصاد متقارب وشبكة مواصلات متكاملة على مختلف المستويات، ومؤسسات عربية فوق - قطرية، فإن هذه الاشكالية المزدوجة لن تفارقهم". * مفكر وأكاديمي من البحرين.