بعد الحرب الكونية الثانية انقسم العالم شرعيتين: دستورية حكمت ثلث الأرض او ما يعادلها، وثورية تحكمت في الثلث الثاني او ما يماثله، وما تبقى من الأرض استباحته المتاهة ومنه العالم العربي الذي اضاف الى الشرعيتين الأمميتين شقيقة ثالثة هي الشرعية النضالية. ففي ظل غياب الدساتير وتغييبها، فقدت الشرعية الأولى حقها حتى في الوجود الاصطلاحي، فيما أفرغت الشرعية الثورية نفسها من منظومة شعارات، على رأسها تحرير فلسطين، من خلال تصنيمها للنظام الأمني الذي شيدته فأفسحت المجال بذلك امام انزياح "الجماهير" عنها منذ العام 1967، والاتجاه نحو الشرعية النضالية المقرونة بالحيوية الفلسطينية. الآن، ومع افول الشرعية النضالية، باتت الشرعية الجهادية تشكل الإفراز "الشرعوي" الرابع في سلسلة الشرعيات المتلاحقة. وبطبيعة الحال، حين يقال الآن، فالمعنى يخرج من لحظويته ليغور في سياق عقد وأكثر من السنوات. وفي الواقع فإن الشرعية الجهادية، يمكن اسقاطها في هذه الآونة على كل مساحات الدم، في فلسطين والسعودية واليمن والعراق وإسبانيا والشيشان والجزائر ومصر سابقاً والولاياتالمتحدةوأندونيسياوكينيا والأردن وباكستان وتركيا والمغرب... الخ. والمفارقة في ما سبق ان فلسطين كرمز لمظلومية شعب وتاريخ وأرض، تكاد تتماثل شرعيتها الجهادية منذ احداث 11 ايلول سبتمبر 2001، مع "شرعيات" اخذها الانتباه المتأخر الى اهمية تأبط القضية الفلسطينية، وهذا ما غدا امراً لافتاً في البيانات والأدبيات السياسية لتنظيم "القاعدة" وملحقاته وفروعه الضاربة حيناً في المملكة العربية السعودية، وأحياناً في العراق، ومرات في الشيشان وتركيا والمغرب، وفي الجزائر التي التفتت فيها "الجماعة السلفية للدعوة والقتال" في 13/6/2004، وللمرة الأولى، الى "اهمية" ذبح كل من هو غربي في الجزائر، انتقاماً للمسلمين في فلسطين وغيرها. وبات تأبط القضية الفلسطينية من لزوميات بيانات تنظيم "القاعدة" اذا استأنس لقطع رأس أميركي في السعودية أو رأس كوري جنوبي في العراق، او إثر عملية "جهادية نوعية" ضد المدنيين في الرياض أو ينبع أو اسطنبول أو مدريد أو كربلاء أو مسرح موسكو أو الدار البيضاء. ووفق هذه الصورة، يكاد التنظيم ينجح في مصادرة الشرعية الجهادية الفلسطينية وتحويلها شرعية خاصة بسلوكياته وأهدافه. وعند هذا الهاجس بالضبط، أي هاجس نجاح "القاعدة" في مصادرة الجهادية الفلسطينية، ينعطف الحديث نحو مواقف فصائل المقاومة الفلسطينية، وبالتحديد نحو مواقف حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" اللتين تتقاسمان شرعية الجهاد الفلسطيني انطلاقاً من الاحكام الإسلامية والايديولوجية المحرّكة والضابطة لكليهما. والسؤال الذي يفرض نفسه، هنا، يتعلق بالاسباب وراء مواقف "حماس" و"الجهاد الاسلامي"، والتي تحول دون الاتجاه نحو نزع الشرعية الجهادية والعقائدية عن "القاعدة" وحلفائه بدءاً من الشيشان مروراً بالسعودية والعراق والمغرب وصولاً الى اسبانياوالولاياتالمتحدة. وقد يقول قائل هنا ان الحركتين الفلسطينيتين، او احداهما، خلعت استنكارها على الوقائع الفظيعة في السعودية والمغرب وبعض هذه الوقائع في العراق. الا ان ذلك يبقى قاصراً اذا لم يترافق مع ادانة المنظومة الفكرية والسلوكية التي تدفع حملة الموت الى زرعه في بقاع الارض كافة. والملاحظ ان "حماس" و"الجهاد"، لم تعلنا مواقف واضحة من: 1- قطع الرؤوس، وهما اذ أدانتا فصل الرؤوس عن الاجساد في السعودية التزمتا الصمت ازاء النحر والذبح في العراق، علماً ان النسق الفكري الذي يصار الى ترجمته قطعاً للرؤوس في السعودية، هو نفسه الذي يسلك طريق الذبائح في العراق أو غيره. 2- قتل المدنيين، وهذا طريق موت طويل، حلقاته تشرّع نوافذها من استراليا مسرح بالي في أندونيسيا الى الولاياتالمتحدة واحداث 11 أيلول وتفجيرات مدريد. فالقتلى الأجانب الذين استهدفهم فكر التفجير والتكفير، تناظروا بالموت مع القتلى المسلمين في السعودية وتركيا والعراق، واذا كان الفاعل اصاب في "دار الحرب"، وهذا يعني ان له اجرين، فإنه اصاب ايضاً في "دار الاسلام"، اذ لا يعقل ان تكون مترتبات الفعل الناتجة عن اجتهاد فقهي معين تحمل الاباحة والحرمة في الوقت نفسه. والواضح ان الحركتين الجهاديتين الفلسطينيتين، ومن خلال عدم اعلان البراءة الكاملة من منظومة الفقه والسلوك التي يتحرك تنظيم "القاعدة" تحت ظلالها، مرده على الارجح قناعة ذاتية لدى الحركتين، تقوم على انتفاء الاضطرار لادانة سلوك "القاعدة" وفكره طالما انهما لا ترتبطان معه بأي علاقة. ولكن حين تدعو حركة "الجهاد الاسلامي" بلسان امينها العام الدكتور رمضان عبدالله شلّح الى تنفيذ عمليات "استشهادية" في العراق، ويلحقه بعد فترة قادة من حركة "حماس" وتحديداً الشهيد عبدالعزيز الرنتيسي، اثر اسقاط صنم الرئيس صدام حسين في التاسع من نيسان ابريل 2003، تكون الحركتان الفلسطينيتان قد اسبغتا الشرعية الجهادية على عمليات "القاعدة" في العراق وحصدها المدنيين ورجال الشرطة العراقيين، علماً ان فكر التكفير والتفجير والتخوين، الذي يهرج ويمرج في العراق، هو نفسه الذي ينعكس "عمليات جهادية واستشهادية" في السعودية وغيرها من دول العالم. وما يمكن ان يقال هنا ان تنظيم "القاعدة"، الذي ادرك متأخراً اهمية تأبط القضية الفلسطينية، يحتل الموقع الاكثر خطورة على القضية ذاتها، مثلما يحتل الموقع لاكثر تشويهاً للاسلام. فحين يذبح اميركي في السعودية او كوري في العراق او اي اجنبي في الجزائر على ما تقول "الجماعة السلفية للدعوة والقتال"، تغدو فلسطين مقرونة بالرأس المقطوع، فيما يصبح الاسلام اقرب الى عصابة مرعبة ورهيبة. واذا كانت "حماس" و"الجهاد الاسلامي" لا تأبهان لمثل هذه الصور التي تختزل القضية الفلسطينية والدين الاسلامي باعتبارها لا تقدم ولا تؤخر في شيء وما يترتب عنها من قول وكلام يدخلان في نسق ممجوج، فالمسألة حينذاك تتطلب نوعية اخرى من النقاش والجدل. اما اذا كانت الجرأة غير متوافرة لدى الحركتين، فلعل استحضار نماذج موقفية لتيارات جهادية ونضالية دانت الظواهر الخارجة عن منطق النضال الحكيم، على رغم كونها غير مضطرة لذلك ولا ترتبط مع الظواهر نفسها بأية نتيجة علائقية، ومن ذلك: 1- ادانة منظمة التحرير الفلسطينية ظواهر "النضال" الاعمى الذي ظهر اواخر ستينات القرن الماضي وبداية السبعينات منه، ومثال ذلك ادانة خطف الطائرات الذي سلكه اليساريون الفلسطينيون بعدما غلبهم الظن بأن احتجاز المدنيين والمسافرين يؤدي الى تحرير فلسطين. 2- مراجعة بعض الفصائل الفلسطينية لسلوكها المغامر في الخطف، من مثل فصل "العمليات الخارجية" عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، واعتبار التيار الذي قاده الدكتور وديع حداد خارجاً عن الجبهة ومقطوع الصلة بها، وهذا ينطبق على منظمة "ايلول الأسود" التي سرعان ما استدركت حركة "فتح" مخاطر سلوكها المغامر، فعملت على وأدها سياسياً ومالياً. 3- ادانة "حزب الله" اللبناني قتل السياح الغربيين في مدينة الاقصر في مصر عام 1996. وبطبيعة الحال لم تسفر عمليات خطف الطائرات عن تحرير شبر واحد من الاراضي الفلسطينية، والمثال نفسه يمكن اسقاط فشله الذريع على النموذج "الجهادي المصري"، ولا يزال الفلسطينيون والاسلاميون المصريون ملزمين تسديد الأثمان حتى هذه اللحظة، مع اهمية الإشارة هنا، الى ان القادة الجهاديين المصريين، ومن داخل سجونهم ومعتقلاتهم، عادوا وخاضوا نقاشات حادة حول شرعية سلوكهم الجهادي السابق، فدانوه ونبذوه، وأصدروا سبعة كتب في السنتين الاخيرتين، انطوت على نقد هذه التجربة وما تفرع عنها وصولاً الى تفجيرات واشنطن ونيويورك في 11 ايلول 2001. إزاء كل ذلك، تبدو "حماس" و"الجهاد الاسلامي" اكثر الاطراف الفلسطينية والعربية والاسلامية، معنية بإدانة السلوك الأعمى ل"القاعدة"، لأسباب عدة في مقدمها المشترك الإسلامي الذي يجمعها مع التنظيم، إذ ان الفصل بين "القاعدة" والحركتين الفلسطينيتين، يؤكد على التمييز بين الأطراف الثلاثة، ونتائج هذا الفصل والتمييز تصبُ في صالح الجهاد الفلسطيني، وتزيل الشبهة واللبس اللذين يمكن أن يسهما في تشكيل وعي اسلامي مُزيّف لدى شرائح فلسطينية وعربية من فئات عمرية معينة. الأمر الآخر يتعلق بمخاطر مصادرة "القاعدة" شرعية القضية الفلسطينية، وأبعاد هذه المخاطر تتصل بالاستمرار في تأليب العالم على هذه القضية من خلال إقران قطع الرؤوس وتنفيذ العمليات "الاستشهادية النوعية" بالدفاع عنها. وعلى الأرجح، ان صورة الاسلام والفلسطينيين بعد قطع رأس الكوري الجنوبي في العراق، غدت في القارة الآسيوية، المفترض ان تشكل المدى الحيوي للقضية الفلسطينية، ملتصقة بصورة الرأس المقطوع، وكذلك هي الحال في افريقيا بعد تفجيرات كينيا وتنزانيا. ان مختصر ما تقدّم، محوره لا يخرج عن دائرة استقدام تنظيم "القاعدة" للمفاسد على المستويين الاسلامي والفلسطيني، ووفق القاعدة الشرعية، فإن "درء المفاسد مُقدّم على جلب المصالح"، فكيف يكون الحال اذا كانت المصالح غير واردة في سلوكيات "القاعدة" وأهدافها، وكل هذا يُفضي الى ضرورة ان تنزع "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، الشرعية الجهادية عن التنظيم، ومقومات عملية النزع ترتكز على تفكيك عقدة اللبس القائمة في أعين العالم بين هذا "القاعدة" والحركات الاسلامية، وعلى رأسها التنظيمان الفلسطينيان، فيما اتجاهات نزع الشرعية لا بد من أن تبدأ من ادانة تفجيرات واشنطن ونيويورك وفرملة الخطاب الاعلامي المساند لعمليات "القاعدة" في العراق، وكذلك، يتطلب قولاً صريحاً من "حماس" و"الجهاد الإسلامي" بأن تنظيم بن لادن يتأبط شراً بالقضية الفلسطينية، إذ ليس كل من يقاتل الولاياتالمتحدة حليف موضوعي للشعب الفلسطيني، وليس كل من تأخذه الغنائية السياسية لتضمين بياناته دفاعاً عن القضية الفلسطينية يمكن انزاله في مكانة الحليف المباشر أو غير المباشر، ذلك ان المعادلة الشائعة، "عدو عدوّي هو صديقي"، فيها من الخطأ والخطل ما يفيض الحديث عنها المعادلة. والأهم من ذلك، ان الحركات الاصلاحية ومن بينها "حماس" و"الجهاد" معنية أكثر من غيرها بمواجهة فكر التكفير وقطع الرؤوس... فهل تبدأ وتكون نقطة انطلاقها من العراق والسعودية؟ * كاتب لبناني.