تسبب 11 أيلول سبتمبر بصدور كتب غدت تشكل مكتبة بسائر لغات العالم. وما اختير منها هنا لا يسعه أن يصف الا القليل من ملامح الحدث الكثيرة. وقد بدا طبيعياً، في السعي وراء هذه الملامح، الاغفال عن أوجه عدة تنطوي عليها الكتب المذكورة، كما غُضّ النظر عن جوانب مختلفة تناولتها هذه الكتب فاستحقت النقد على بعضها والتثمين على الآخر. بالأمس تم تناول كتابي فريد هاليداي وماليس روثفن والتركيز على المقدمات والتعبيرات الايديولوجية للحركات الأصولية. صعود الاسلاميين وهبوطهم حدّا الكتاب المرجعي "جهاد"، للباحث الفرنسي جيل كيبيل، الذي عرفه القارىء العربي في أعمال عدة سابقة. والخلفية، في روايته، ترجع الى ثورة ثقافية ستينية رعاها قطب والمودودي والخميني ضد القومية العلمانية وحصر الدين في العبادة. وقد ترافق دورهم مع تحول في الثقافة ووظائف الحرف المطبوع: إذ بعدما استخدمه القوميون لتوطيد الاستقلال ودولته، غدا مُطالَباً بالرقابة والهيمنة. هكذا خاطب قطب الشبيبة بلغة بسيطة غير لغة الفقهاء، حتى إذا حلّت هزيمة 1967 رجّحت التأويلات الأكثر تزمّتاً، كمفهوميه ل"الجاهلية" و"التكفير". وفي 1971 أصدر الخميني من النجف، محاضراته في كتاب "الحكومة الاسلامية". وبدمجه أفكار علي شريعتي في فكره التقليدي تسنى له تأسيس حلف بين فئات مختلفة. هكذا أطلق مفردات غير معهودة ك"المستضعفين" و"المستكبرين" ضامّاً تجارَ البازار الى الأولين وحاظياً بدعم تقليديي المدينة والريف، إلى جانب عناصر أحدث طلابية وعمالية. وبحلف كهذا نجح وحده في بلوغ السلطة. قبلذاك، وفّرت الأخويات الصوفية روابط أهلية، فتوسّطت ربط النص بتقاليد شعبية لدى جمهرةٍ معظمها أمّي. ودائماً تفاوتت علاقتها بالكولونيالية وتالياً الاستقلال: ففي الجزائر استمالها الفرنسيون، ثم ضربتها دولة الاستقلال، ما أوجد فراغاً ملأه الراديكاليون بين 1985 و1990. وفي تركيا قُمعت، لتنبعث في الارياف بعد الحرب الثانية. لكنْ عموماً توصلت الانظمة الاستقلالية الى تسويات مع الاسلام الشعبي، فيما اختلف الاسلام العارف فراقب مشايخُه المدينيون الأنظمة، لتطوّعه الأخيرة بطرق شتى. ففي 1961، ألحقت مصر الناصرية جامعة الأزهر بالدولة والايديولوجيا الرسمية، فأُفقد دوره التقليدي كوسيط وظهر فراغ لمن يملأه. وألغى بورقيبة سلك الزيتونة لتملأ الفراغ بعدذاك "حركة الاتجاه الاسلامي". واعتبر بن بله العلماء والأخويات رجعيين، وباستمرار المصادرة الدولتية ولدت "جبهة الانقاذ". وبدورها اصطدمت قومية سوكارنو ب"نهضة العلماء" الاندونيسيين. وعُدّت باكستان استثناء. فهناك لعب علماء الدين ومدارسهم دوراً لم ينشأ الا هناك. وكانت أهمها الديوباندية التي انطلقت عام 1867 من ديوباند بشمال الهند، فطالبت بحق العمل لخريجيها، ثم بالأسلمة الشاملة. وباكستان عرفت، قبل قيامها، مدافعين عن الأسلمة، ك"الجماعة الاسلامية" التي أسسها المودودي في 1941، والديوبانديين وغيرهم. وإذ حاول العسكر كبح نفوذهم، فشل. ذاك ان قومية باكستان الاسلام الذي لولاه لما وُجد البلد ولما وُحّد سكانه. وكان انتصار الثورة الايرانية في 1979 فرصة للاسلام الثوري، فمع غزو أفغانستان في العام نفسه، بدا الجو ملائماً لجهادٍ محافظ يتوسطه ضياء الحق المعجب بالمودودي. وكان السادات السبّاق في عكس هذه التحولات فأطلق سراح الاخوان ممن نشطوا في الجامعات. وفي السبعينات ظهر أول جيل بلا ذاكرة عن حروب الاستقلال، فيما عانى الانسداد بعده. وبتعاظُم السكان تحولت المنطقة عن ريفيتها لتتمدين، فعجّت المدن بشبان لا صلة تجمعهم بمن سبق. وأعطى التعليمُ البسيط والصحف جيلَ الضواحي هذا أملاً بالحِراك، فاحتدم إحباطه. ومحل تعدد الممارسات الدينية قبل 1973، طغت نضالية واحدة وطقوس متشابهة. وهذا ما عززته الهجرة الى الخليج ونظام المصارف الاسلامية، بحيث ظهرت اشارات الاسلامية الجامعة للثمانينات أقوى من تململات التمايُز. فأحداث 1977 المطلبية في مصر مهدت لمجموعات العنف التي لم يكبحها مصرع السادات. وعبر التحالف بين مهاتير ورجل المصارف الاسلامية انور ابراهيم، اندرج نظام ماليزيا السلطوي في الاقتصاد الكوني ضابطاً الانقسامات الإثنية. وغدت أسلمة باكستان منذ فرض ضياء الشريعة في 1979، أقوى من ان يجهضها انتخاب بنازير، بعد اغتياله في 1988. وفي محاولتها تثوير الجوار، عملت إيران على أسلمة النزاعين الفلسطيني واللبناني، فلم يبق غير اقدام اسرائيل، فسورية، على إبعاد المسلحين الفلسطينيين الى تونس ليكتمل إحلال افغانستان محل فلسطين. أما في فلسطين نفسها فشرع الاخوان، الذين تسامح معهم الاسرائيليون، بقضم مواقع منظمة التحرير "العلمانية". لكن التحول الإيراني تصاحب ايضاً مع تغيرات اجتماعية اصابت شيعة لبنان. فما ان اجتاحت اسرائيل حتى توطد دور ايران المتحالفة مع سورية وشاعت دعاوتها الايديولوجية. آنذاك استدعى محتشمي، سفيرها في دمشق، بعض شبان رجال الدين ليؤسسوا "حزب الله". وعبر العملية الانتحارية أواخر 1983 ضد القوات الفرنسية والاميركية، ثم قصف المقر الاسرائيلي في صور، اكتسب الحزب قامة عسكرية فسياسية، عززها انسحاب المتعددي الجنسية. وكان، منذ 1982، واستجابةً لمصالح ايرانية وسورية، ابتدأ خطف الرعايا الغربيين، ما انعكس على الرأي العام والسياسة الغربيين. وقصة النجاح الوحيدة هذه لتصدير الثورة، لا تلخّص نفوذ طهران المتضارب والممتد الى السنغال وجنوب شرق آسيا وبعض البلدان الشيوعية. وفي المهاجر الأوروبية ظهر اختراق صحبته محاولات طهران استغلال مناسبات الحج للتحريض. لقد أقلقت الثورة الغرب والعالم الإسلامي، فانضاف سبب آخر لوجاهة الجهاد في أفغانستان. لكن تطويع المجاهدين في تربة الملايين الثلاثة من اللاجئين الى باكستان عزّز الخط المتطرف لحكمتيار كما غذّاه. فالمطوّعون هؤلاء نُزعوا عن قبائلهم ومناطقهم ليغدوا أشبه بآلات قتالية بلا ضوابط اجتماعية. وتأثّر الاسلامي الفلسطيني عبدالله عزّام بقضية المجاهدين، فأصدر أواخر 1984 مجلة "الجهاد" فيما غدا همزة الوصل بينهم وبين المتطوعين والمساعدات العربية، مؤكداً في كرّاس له ان الجهاد هناك فرض عين. مع هذا بقيت أفغانستان، عنده، محطة أولى على طريق فلسطين وبخارى ولبنان وتشاد واريتريا والصومال والفيليبين وبورما واليمن الجنوبي وطشقند والأندلس. وأهمية هذه الدعوة المسبوقة انها مصحوبة، الآن، بسيل المعونات وآلاف المتطوعين الهادفين الى اكتساب مهارات يستخدمونها في محطات الجهاد التالية. على انه بعد الانسحاب السوفياتي في 1989 وتقلص المعونات الاميركية، بدا أن المجاهدين لن يستطيعوا اسقاط نجيب الله، فيما تراجع الالحاح العربي على محاصرة طهران التي أنهكتها الحرب مع بغداد. وبالتدريج الخوف الاميركي من المخدرات، والخوف العربي من راديكالية المجاهدين، محل التحالف. وإذ شرعت أفغانستان تتفسخ، غزا صدام الكويت فأيّده بعض المجاهدين الأفغان والعرب، وعلى رأسهم حكمتيار. في هذه الغضون هُمّش الموضوع الفلسطيني. لكن انتفاضة 1987 أعادت تزخيمه مُكيّفاً في اتجاه اسلامي، سيما وقد عبر الاخوان الى موقف سياسي وأسسوا "حماس". وما عزز التغير غربة صغار 1987 عن مرحلة التأسيس وصراعات الخارج. صحيح ان المنظمة مضت تمدهم بالمال لكن الديموغرافيا أضعفت الروابط، كما ضرب انهيار سعر النفط في 1986 عمالتهم المهاجرة بينما اندفعت هجرة اليهود الروس وراحت اسرائيل تعقّد شروط الاستثمار والتنمية. لقد كانت انتفاضةً ل"الشباب" الفقراء أكثر من أية هوية أخرى، وعليهما تنافست المنظمة وحماس. لكن الأخيرة لم تصبح ما أصبحته الا بعد اضراب التجار الصغار، والاخوانُ أقوياء هنا تقليدياً، فدخلت من بوابة أوسع الى "الشباب". وبعد محطات قطعها التنافس، خرج الحماسيون منتصرين. فقد ظهر ميثاقهم نصاً تأسيسياً موازياً لدستور المنظمة. وبالضربة التي كيلت لها مع اجتياح الكويت تراجعت سيطرة المنظمة على الانتفاضة، فبدت آخر قضايا القومية العربية تتأسلم. وفقط بصفتها هذه انتزعت فلسطين الأولوية من مسألة أفغانية تذوي. آنذاك هدد الاسلاميون باجتثاث موقع آخر للنضالية العالمثالثية: الجزائر. فعفوية التحرك المطلبي، أواخر 1988، وعنفه، وفّرا لهم ضالتهم. وكانت حملة بومدين للتعريب والأسلمة استقدمت مصريين ذوي هوى إخواني لتعليم العربية، في عدادهم الشيخان محمد الغزالي ويوسف القرضاوي. لكنْ منذ 1982، وفي مناخ الجهاد الأفغاني، كانت ظهرت مقاومة سرية قادها مصطفى بويعلي، وعلي بلحاج من أتباعه، اذ قتال نظام موالٍ لموسكو يكمّل مقاتلة موسكو، من غير ان يلغي توجه كثيرين الى أفغانستان نفسها. وإذ ظهر عباسي مدني حاملاً مطالب التعريبيين والاسلاميين في الجامعة، استجابت السلطة بأن أصدرت، في 1984، قانوناً للعائلة يقضم حقوق المرأة، وابتدأت تبني المساجد. هكذا حين انفجر الشغب، كانت هناك انتلجنسيا اسلامية تبشر في المناطق الفقيرة ولا تملك الدولة شيوخا بارزين يدحضونها. وفعلا غدا الاسلاميون الناطقين بلسان الشبيبة المفقرة مؤسسين، مطالع 1989، "جبهة الانقاذ". أما خارجها فوُجدت كذلك مجموعات صغرى كالتي قادها الاخواني محفوظ نحناح. وبيّنت الانتصارات الانتخابية في 1990-91 ان الجبهة وحدها من يملك شبكة وعّاظ، لكنها بيّنت أيضاً وجود ثنائية بلحاج ومدني. وبالتدريج تحولت الثنائية ضعفاً، فخشي التجار قسوة "الحيطيين". ولأنه لم يظهر قائد كالخميني، انفجر التباين حرباً بين "الجماعة الاسلامية المسلحة" فقراء المدن و"جيش الانقاذ الاسلامي" طبقة وسطى. في هذه الغضون قدم الاسلاميون عبر البلديات والخدمات بديلاً متفوقاً على إدارة جبهة التحرير الفاسدة، لكنهم خاضوا أيضاً معارك السلوك والرموز ومكافحة النخبة "المتفرنسة". ولئن ارتاح "الحيطيون" لهذا، اغتاظت الطبقة الوسطى المؤمنة، فحصلت الجبهة في نيابيات 1991 على مليون صوت أقل مما في بلديات 1990، وبهذا بدا اختلافها عن الخميني الذي لم يُخِف أي قطاع اجتماعي إلا بعد انتهائه من الشاه. وحيال حرب الخليج تعاظم الخلاف، فوقف بلحاج مع العراق ومدني مع الكويت. وفي مرحلة تالية ضرب الجيش الجبهة التي تآكلتها صراعات أطرافها محتفظاً، على عكس ايران، بتماسكه. وقطع الكاريزمي حسن الترابي مع الاخوان السودانيين مُنشئاً "جبهة الميثاق الاسلامي" في 1965. وتحالف مع "الأمة" فدفعه الى مواقف أكثر تمسكاً بالشريعة، ومنه تسلل الى الصدارة. لكن بسبب تبني الشريعة حكومياً اندلعت حرب الجنوب، ما سهّل لنميري الانقضاض على البرلمان، وحل "جبهة الميثاق" وسجن الترابي سبع سنوات. وركز الاسلاميون الذين اصطدموا دائماً بالانقسام التقليدي المهدي-الختمي على القوة الجديدة للمثقفين والطلبة، كما كتب الترابي عن المرأة فدعاها الى الانخراط في الحياة العامة الى جانب الحجاب، ما اجتذب النساء اليه وسط سخط المحافظين من آرائه، فلما وقع النزاع بين نميري والشيوعيين، وجد الترابيون ساحة الجامعات متروكة لهم. وتطويقاً لفشليه في الاقتصاد والجنوب، أطلق نميري سراح الترابي في 1977 واستعان بكوادره الحزبية لملء فراغات الحكومة والتعليم. ومع المصارف الاسلامية، اتسعت شريحة دنيا مؤمنة من الطبقة الوسطى تولت تسيير المشاريع والانفتاح على مثقفين وضباط شبان. كذلك تصلبت في الطبقة نفسها من عززتهم قروض المصارف المنخفضة الفائدة وتجار صغار مودعون حُرموا الوصول الى المؤسسات التقليدية المنشدة الى التجارة الخارجية. هكذا نطق الترابيون بلسان طبقة وسطى حديثة التعليم تخلصت من نفوذ الأحزاب القديمة، وبلغ اختراقهم السلطة أن أصدر نميري، في 1983، مرسوماً بفرض الشريعة، ثم أعدم محمود محمد طه فيما كان الترابيون يبررون حرب الجنوب بصفتها "جهاداً". وحين انتبه نميري الى حجم الاختراق أودع الترابي السجن، لكن النظام برمته كان ينهار. وخلال الفاصل الديموقراطي 1985 - 1989 صلّبت الحركة الاسلامية مواقعها وانشأت "الجبهة الاسلامية القومية" التي نالت 51 مقعداً من أصل 264 في انتخابات 1986 لكنها حظيت ب21 مقعداً من 28 للخريجين. وجاء الانقلاب معطّلا السياسة برعونة غير معهودة في السودان، فأتيح للترابي أن يعزز حكمه لعشر سنوات، وسط اعجاب الاسلاميين والقوميين المناهضين للامبريالية والغاضّين النظر عن ارتكابات الخرطوم. لكن النظام كان في أمسّ الحاجة للاستعراض تغطيةً على ضعف شعبيته وتوهّماً للحلول حيث حلّت الثورة الايرانية الشيعية قبلاً. فالانقلاب الذي وضع أصوليين سنة في السلطة للمرة الأولى، تم في نفس الشهر الذي توفي الخميني فيه. بيد ان الأخير حاول إذّاك استرجاع المرجعية الاسلامية الأولى عبر قضية رشدي، ما جعل الغرب ساحة حرب جديدة للجهاد. فالفتوى صدرت فيما السوفيات ينسحبون من افغانستان ويسجل الجهاد الآخر، الموالي لأميركا، انتصاره. وفعلا نجحت في أن تحرم الانسحاب وهجه: فأعمال العنف طغت ما بين باكستان والغرب، ونشأت مصلحة مشتركة تجمع الديوبانديين المهاجرين بطهران. كذلك انشق الصف الملتحم حول افغانستان وتحول بعض راديكالييه، كعمر عبدالرحمن، الى الخانة الايرانية. والإيمان، قبل السبعينات، لم يكن موضوعا ملحا بين المهاجرين. مع هذا فالمسلمون الهنود والباكستانيون في بريطانيا اختلفوا. فهم أقليون في شبه قارتهم، على عكس الأفارقة الشماليين أو الأتراك. ومن انتسبوا منهم الى الديوباندية أو مثيلاتها استأنفوا حياتهم البريطانية مطبقين الشريعة دون أن تعترضهم الدولة التي عاملوها كأنها البيئة الهندوسية في بلدان الأصل: بالانكفاء وتطوير خصوصيات طقسية وتضامنية. وحتى الثورة الايرانية لم تكن الحكومات الغربية مهتمة بالاتجاهات الاسلامية، وان اهتمت فمن زاوية عدائها لليسار. أما مع الثورة، فهرعت الحكومات الأوروبية للتنسيق مع الحكومات الاسلامية كيما تسيطر على المشايخ والمؤسسات الجديدة فلا يسيطر المتطرفون. لكن، وفي 1989، كان قد نما جيل جديد في أوروبا أكثر تأثراً من سابقه بصعوبات سوق العمل من غير أن يتمتع بمواصفات تعليمية باهرة. وهؤلاء بدوا متعلقين ب"جذورهم الثقافية" علماً أنهم لا يجيدون لغاتهم الأصلية. وإذ ضمرت حركات الثمانينات الجامعة والمعادية للعنصرية، نشأ فراغ ملأه الأصوليون. ومع التوسع في استقطاب الشبان الفقراء، وتزايد المشايخ الجدد، تعاظمت ترجمات قطب والمودودي وحلت اللغات الاوروبية وسيط تواصل. كذلك تغير معنى أوروبا. فالجيل الجديد العارف بلغاتها وقوانينها لن يستخدمها كمَعبر مؤقت، كما فعل سابقه، بل سينخرط بطريقته في سياساتها. وبعد ان كانت القارة "دار عهد" تتوسط داري الحرب والاسلام، غدت دار إسلام يصح عليها تطبيق الشريعة. وجاءت فتوى الخميني فشكلت قاطرة للأكثر تطرفاً بينهم، بحيث أنشأ الخميني البريطاني كليم صديقي برلماناً للمسلمين موازياً لوستمنستر، حتى بدت أوروبا أحد مسارح الصعود الذي يحرزه الاسلام النضالي أينما كان. وبينما كانت فرنسا والعالم التقدمي يحتفلان بمئتي عام على الثورة الفرنسية والكونية التي أطلقتها، بدا الاسلام النضالي يفتح معركة تجمعية تعنيه وحده، جعلها الانحلال السوفياتي واعدة بالانفتاح على البوسنة والشيشان وآسيا الوسطى. لكن غزو الكويت استهل الانحسار. وباعطائه بُعداً شعبوياً لدعوته الجهادية، حطم صدام التوازن الداخلي للحركة الاسلامية فشرعت انقسامات مكوّناتها الاجتماعية بالظهور، فيما لم يظهر ايديولوجيٌ واحد من عيار المودودي أو قطب أو الخميني. لقد تحول العراق ممثلا لاسلام الفقراء، وانشقت مؤسسات العمل السني المشترك، فيما بدت القضية الفلسطينية، موضوع الاجماع، في صف بغداد. ولئن امتدت الانشقاقات الى الوحدات الأصغر، نجمت ظاهرة بن لادن نفسها عن أحد تلك الانشقاقات. ولما صار الفيلق الأممي للجهاد متحللاً من كل تأثير، تعامل بعضه مع اجهزة مخابرات وانفصلت غالبيته الساحقة عن الواقع لترى العالم على ضوئي التزمّت والعنف. وصارت أميركا الهدف الاول لجهاد السلفيين الجهاديين. لكن راديكاليتهم لم تتعفّف عن توجيه شفرتها حتى الى الاخوان وأفكار قطب، لما رأوه من تساهلهم في النص. اما الاخوانيون الذين دعموا سلطات قائمة، فساهموا في اسباغ الشرعية على نُظم لا تستحق غير الاستئصال. وكان التبلور في أفغانستان القاسم الأبرز بين هؤلاء وطالبان، ملقّحاً جهاد العرب بالديوبانديين ممن تمكنوا بعشرات آلاف الطلبة والخريجين من إعلاء النبرة، فكان اول ضحاياهم الاحمديين ممن اعتُبروا كفرة. وباصطدام ضياء بشيعة باكستان، صار عداء الديبوبانديين لهم من ثوابتهم التي فاقمتها اجواء ايران وحرب العراق معها. ففي سياقها، ومع جهاد افغانستان، صارت باكستان جبهة ثانية للنزاع السني-الشيعي. ولأن الديوبانديين، على عكس المودوديين النخبويين، فقراء وعاميون حولوا تذمرات طلابهم الباكستانيين والافغان المعزولين في مدارسهم جهاداً يضرب على غير هدى. وأفادهم انهم الطرف الاسلامي القوي في شبه القارة الذي لم يؤيد بغداد في حربها، ثم استفادوا من وصول بنازير الى الحكم إذ اهتمّت بالاسلاميين المناوئين للمودوديين ممن أيدوا خصمها نواز شريف. وهذه عناصر ساهمت في انتصار طالبان النهائي. لكن حكمهم كان عليه ان يواجه، اواخر 1999، انقلاب مشرف "الأتاتوركي"، ما دل الى ان المراتب العليا في اسلام آباد تعيد النظر في الجهاد وخططه. ومن ناحية أخرى فتح الانهيار السوفياتي الباب لصعود راديكالي اسلامي استقبلته طالبان بسياسات اكثر تطرفاً، كهدم تماثيل بوذا والتشدد مع المنظمات غير الحكومية. وفيما فعل فعله تعاظم نفوذ بن لادن في كابول، حفر الجهاد موقعاً له في البوسنة. هكذا عُلّقت آمال على اقامة دولة اسلامية في اوروبا، حتى غدت البوسنة إبان فترة 1992 - 1995- وكان الجهاد الافغاني انتهى فيما الانتفاضة الفلسطينية تؤول الى أوسلو - موضوع الجهاد الأول. فالجهاد الجزائري يبقى بين مسلم ومسلم، اما في البلقان فالتجييش بلا حدود، وبمقياسه حوكمت حرب الخليج الثانية اذ ما هذا الكيل بميكالين: حصار للعراق وتجاهل لجرائم الصرب؟ مع ذلك افتقرت قضية البوسنة لدعم فعّال: فإيران، بعد الخميني، فقدت حرارتها، وغيرها اوقعتها حرب الخليج في ضائقة اقتصادية. وبدا البوسنيون، على عكس الافغان، غير مستعدين لاستيراد الجهاد. فمع ان عزت بيكوفيتش، أقوى شخصياتهم اللاحقة، بدأ منذ الأربعينات تأسيس حركات إسلامية نضالية وسرية، اختلف موقع البوسنة وتاريخها. فالظرف الاستثنائي الذي وفّره اللقاح بين الشبان الإسلاميين للسبعينات وانبعاث القوميات في الثمانينات، بدّده صدّ مدينة سراييفو للإسلاميين، وتحوّل بيغوفيتش نفسه معتدلاً يمزج إسلامه بالديموقراطية ولا يلح على دولة إسلامية. هكذا مدّ جسراً مع الفئات المعلمنة التي شددت الحرب على أهميتها، لا لمهاراتها العلمية والعسكرية فقط، بل كهمزة وصل بالغرب. لقد وصل عدد المتطوعين إلى 4 آلاف، لكن علاقتهم بالمحليين شابها جفاء ممزوج بعداء، إلى أن حلّت فيلقهم اتفاقات دايتون في 1995، وحل محله جنود أميركان! وفي معمعة الحرب الجزائرية 1992-97، اتجه المعتدلون إلى "جيش الانقاذ" ثم محفوظ نحناح، كما خاطبهم النظام في 1995 ببرنامجه للخصخصة والانتقال إلى اقتصاد السوق. أما الراديكاليون فتماهوا مع "الجماعة الإسلامية المسلحة"، وبقيادة أمرائهم مارسوا عنفا همجيا بلا سياسة مصدّرين الإرهاب إلى فرنسا. وبدوره وسّع التفتت والتنافس داخل "الجماعة" فرص النظام لتصفيتها. وفيما انهارت "جبهة الإنقاذ" تحت وطأة قمع 1993، مضى المتطرفون في اغتيالاتهم للصحافيين والمثقفين، وفقد النظام سيطرته على مناطق عاثت بها عصابات الارهاب مُنفّرةً مؤمني الطبقة الوسطى. وبامتداد القتل الى الاجانب وحتى الى مؤمنين معتدلين، تبدّى ان الراديكاليين استولوا عنوة على المشهد الاصولي. فما ان اسس المعتدلون، في 1994، "الجيش الاسلامي للانقاذ" ليكون تعبيرهم المسلح، حتى اندلعت حربهم مع الراديكاليين ممن كان يُقتل امراؤهم الواحد بعد الآخر. وعاشت ضواحي فرنسا امتداد الحرب التي افادت الحكومة الجزائرية، بينما كانت قطاعات متعاظمة من مؤمني الطبقة الوسطى تلجأ الى حزب نحناح. وتتالت التصفيات داخل الراديكاليين، فحين تولى قيادتهم عنتر الزوابري حوّلهم أداة لعقاب الشعب كله. أما مؤمنو الطبقة الوسطى فشاركوا بالاجماع في رئاسيات 1995، رغم دعوة "الانقاذ" للمقاطعة. وكان المفاجئ اكثر ان نحناح حصل على ثاني نسبة أصوات بعد أمين زروال. وجاء عام 1997 عاماً للمذابح بعدما شكلت السلطة مجموعات أهلية مسلحة أقحمت الثارات في المواجهة. لكن 1997 سجّل أيضاً نهاية العنف المنظم. فالزوابري كفّر الشعب لعدم انضمامه الى الجهاد، فخالفه أبو حمزة ونشرة "الأنصار" وكانا صوتيه من لندن. وبينما انهارت كليا معنويات الفقراء المدنيين، أوقف جيش الانقاذ عملياته العسكرية كاشفاً ضعفه، ولكنْ ايضاً مُزيحاً احدى عقبات المصالحة بين النظام ومؤمني الطبقة الوسطى. وبتفسّخ العنف، من غير أن يتوقف، أتيح اجراء انتخابات 1999. وفي مصر اغتالت "الجماعة الاسلامية" فرج فودة ونشطت في اعالي النيل مختارةً ضحايها من أقباط وسيّاح وشرطة. وقد تزامن العنفان الجزائري والمصري 1992 مع استيلاء المجاهدين على كابول وعودة بعض "الأفغان العرب". اما الاسلام المعتدل فتجسد في الاخوان الذين كانوا يقضمون التمثيل المهني ويقدمون خدمات للسكان مثلما فعل انقاذيو الجزائر. ومع ان العنف المصري ضُرب أيضاً عام 1997 بعد مجزرة الأقصر، فالتشابه مع الجزائر لا يُخفي اختلافاً: ذاك ان الدولة الوطنية جديدة على الأخيرة، التي لا أزهر فيها، قياساً بمصر. ثم ان تقليد الصراع مع الاسلاميين عريق مصرياً. هكذا حيل دون صيرورة العنف حرباً، فبلغ القتلى ألفاً في مصر و100 ألف في الجزائر. وبدوره ترافق التوسع الاخواني، في عهد مبارك، مع اشتداد عود الطبقة الوسطى المؤمنة بفضل المصارف وصناديق الاستثمار الاسلامية. وشجعت السلطة هذه الأخيرة مساهمةً منها في دمج تلك الطبقة في النظام. لكنها حين تراجعت خوفاً من حصول المتطرفين على تمويل لنشاطهم، انهارت المصارف. وما استمر كان التشجيع لبنية تحتية جسّدتها البرامج التلفزيونية، فاعتُمد المشايخ المقربون من الاخوان لمنافسة المتطرفين. لكن المشايخ استهدفوا المثقفين والكتب وبعض السلوكات وخاضوا، هم والاخوان، مواجهات ساخنة مع الدولة لتوسيع نفوذهم. وفي 1987 هددت نشاطات الراديكاليين كامل النسيج الوطني المسلم - القبطي، فيما كان الاخوان يحرزون انتصارات انتخابية بالتحالف مع "حزب العمل". وإذ تعاظمت الخلافات بين المتطرفين وبينهم، أعادت أزمة أواسط الثمانينات النفطية كثيرين من الخريجين الجدد ليعيشوا عالةً على ذويهم الفقراء، ما أجّج الصراع الدامي مع الاقباط في مصر العليا المعروفة بعادات الثأر. غيران الدولة لم تكن المتضرر الأوحد، فتأثرت قطاعات عريضة بانهيار السياحة، وسار هذا موازياً لتحويل أحياء فقيرة في القاهرة نسخةً عن مناطق السيطرة الأصولية في الريف، فنشأت "جمهورية اسلامية" في أمبابة. ولم يقتصر التذمّر على الاقباط ممن عانوا الأمرّين، بل امتد الى المسلمين، حتى أطيحت "الجمهورية" الفاسدة والمتزمتة والفالتة معاً. وحاول الاخوان، وقد استولوا في 1992 على نقابة المحامين، التوسط بين السلطة والمتطرفين، لكن النظام رفض وتصلب. وفعلا سُحق الراديكاليون بين 1993 و1997 عاجزين عن تعبئة الجماهير المدينية، فيما أُودع "مفتي العنف" السجن النيويوركي بحكم مؤبد، وانقطعت الصلة بالعالم الخارجي لاختفاء طلعت قاسم في كرواتيا. وبتسليم دول اخرى لمطلوبين منهم، وجفاف التحويلات المالية، تحول معظمهم قطّاعَ طرق مكروهين. وحوصر الاخوان، بدورهم، بين اصرار السلطة على عدم محاورتهم واصرار شبانهم على التحول حزباً أسموه "الوسط"، يخاطب ناخبي الطبقة الوسطى. وحتى هذا المشروع لم تحتمله السلطة، تاركةً للقمع واقتصاد السوق ان يفعلا فعلهما، وقد فعلا. والحال ان الجهاد تكثّف في مصر والجزائر والبوسنة مع ابتداء عودة المجاهدين من بيشاور في 1992. لكن صورة الاسلام السياسي تشوّهت. وعكس الرأي العام نفسه على صانعي القرار الأميركان، بشهادة اختلاف التعامل مع عبد الرحمن، وقبله تفجير مركز التجارة في نيويورك. وتجمع "عرب أفغان" في لندن التي اتبعت سياسة هجرة مغايرة لسياسة باريس، مستفيدين من حرياتها وإعلامها. هكذا ظهرت نشرة "الأنصار" لمواكبة الجهاد الجزائري. وفي باريس، وللمرة الأولى منذ 1994، انخرط شبان في أعمال مسلحة ذات امتدادات دولية. وهؤلاء فقراء قليلو التأهيل والتعلّم من أبناء الضواحي، بينهم من حاذى التهريب أو السرقة. هكذا كان للارهاب ان فصل شبيبة الضواحي عن الراديكاليين بينما اعتمدت الطبقة الوسطى ومثقفوها مواقف أكثر ديموقراطية ومؤسسية. وفي أفغانستان ركّز بن لادن عمله على مقربة من المتطوعين والفارين. واسم "القاعدة" نفسه انما نجم عن تعريب data base حيث أودع في كومبيوتره المعلومات المتعلقة بالمنضمين اليه. لكن بن لادن بعدما فقد حلفاء الأمس، لم يبق له من حليف سوى نظامي كابول والخرطوم المفقرين. فحين انشأ، مطالع 1998، جبهته الأممية "ضد اليهود والصليبيين"، لم يشاركه التوقيع إلا الظواهري وحفنة خلايا صغرى هندية وباكستانية. وجاء تفجير السفارتين في كينيا وتنزانيا عملاً معزولاً يشبه مجازر الأقصر والجزائر في العام نفسه. إلا أن الشهرة التلفزيونية ضاعفت مخاوف مؤمني الطبقة الوسطى من دون أن تردع عن تفجير مدمرة كول. لكن تحرير الكويت وانهيار المعسكر الاشتراكي كانا يغيرن الخريطة السياسية للمنطقة إذّاك. وفيما ذوت منظمة التحرير مالياً فسياسياً، استثمرت حماس ذواءها، استثمارها اخفاقات السلام ثم فساد السلطة. لكن كتلة "حماس" ليست موحدة: فالشبان المدينيون الفقراء ميالون الى العنف، والطبقة الوسطى المؤمنة عكست الحركة مطامحها الاقتصادية. ففي 1992 تمكنت من تحقيق انتصار كاسح في انتخابات غرفة التجارة في رام الله، ثم نافست "فتح" بنجاح كبير على غرفة نابلس. لكنها، في المقابل، أمسكت بالشارع ونفّذت عمليات أحرجت السلطة بقدر ما أحرجتها الردود الاسرائيلية. فلما أُبعد قياديوهم الى مرج الزهور، ظفر الحماسيون بصورة البطولة عند فقراء الشبيبة، كما حوّلهم التلفزيون ضحايا عالميين. وعندما اتُفق على "غزة وأريحا أولاً"، أحست المنظمة بأنها كسبت ما يمكن توظيفه في المنافسة. واحتدم الصراع فيما اعتملت تناقضات حماس. هكذا تصلّبت الشبيبة المفقرة ومنها "القسام" وقادة الخارج، واعتدلت الطبقة الوسطى مراهنة على تشكيل حزب معارض. لكن عنفي اسرائيل وحماس ضيّقا هوامش القمع على "الآتين من تونس"، خصوصاً مع تردي أوضاع السكان. ودون ان تختفي الرغبة في استقرارٍ ما، طغى عليها العنف الذي أوصل نتانياهو الى رئاسة الحكومة. عندها، ومع تعثّر السلام، تبين للبعض ان السياسة وحدها أداة الحل، لكن فشل طابا واندلاع الانتفاضة الثانية أوضحا ان الرأي الغالب في وارد آخر. ومع انتخاب شارون بلغ العنف ذرى غير مسبوقة فاكتسب الراديكاليون والاستشهاديون اليد العليا على حساب المجتمع ومصالحه ومستقبله. وفي 1989 أحرز إسلاميو الأردن 34 مقعداً من أصل 80، بعدما حاولوا التهدئة في أحداث معان المطلبية. والاخوان كانوا، عبر علاقة سلسة بالعرش، سيطروا على مساجد وروابط مارسوا بها تأثيراً ملحوظاً. وهم وفّروا كل الدعم للحكم فلم ينخرطوا في مواجهات مع اسرائيل وانحازوا اليه في حرب 1970. ومع اجتياح الكويت بدت التمايزات واضحة، لكن وصول قوات التحالف وحّد الجميع وراء بغداد. وهنا اعتمد الملك حسين التوزير الكثيف للاخوان لتجنيب بلده الفوضى، فنالوا وزارات الخدمات التي منحتهم سيطرة كمّلوا بها اختراق المجتمع. لكن بعد هبوب عاصفة العراق شُكّلت حكومة بلا تمثيل اخواني، وإثر توقيع وادي عربة عارضوا ثم قاطعوا انتخابات 1997 طاردين من صفوفهم كل المعاكسين. وعموماً نجح الاخوان، دون أن ينتجوا خمينيّهم، في صون وحدتهم ومنع تجاوزهم راديكالياً. وحافظت الاسلامية الأردنية على خصوصية أخرى هي ظاهرة الأعيان المستقلين ممن رسملوا على توسع الحركة دون التضحية باستقلاليتهم. والحال ان المثقفين ممن كان يسعهم ان يلعبوا دور القائد استوعبهم النظام وحيّدهم. وفي الموازاة تأسست "جبهة العمل الاسلامي" في 1992 تعبيراً عن مجموع التناقضات، لا سيما بين ممثلي الطبقة الوسطى المؤمنة وأغلبهم شرق أردنيين، والمفقرين الراديكاليين وأغلبهم من المخيمات الفلسطينية. فهي "جبهة"، لكنها تؤكد على الديموقراطية وتتسع للنساء على عكس ما كانه الاخوان. ومع عبدالله حافظوا على تحفظاتهم على السلام، لكنهم تعاونوا، كما أعيد معظم مرشحيهم الى المجالس البلدية. إلا أن اعتقال قادة "حماس" وطردهم عكّر الأجواء، لا سيما لدى شبّانهم الفلسطينيين، راهناً الصورة الاردنية بوجهة المنطقة العامة. وفي أواسط السبعينات غدا أربكان نائباً لرئيس الحكومة، ليستفيد من تعاظم النفوذ الاسلامي في الثمانينات. وأريد ل"الرفاه" ان يمهد لانخراط رأسمالية ريفية جديدة في اقتصاد متوسع، كما خاطب مثقفين اسلاميين لم ينقطع حبلهم بالأفكار الغربية. وبامتداده الى الدياسبورا وتوظيفه تناقضات الأحزاب "الرسمية"، نجح في توحيد مؤمني الطبقة الوسطى والمثقفين الاسلاميين وشبيبة ضواحي الصفيح. وارباكان رئيس للفرع الصناعي في اتحاد غرف التجارة. بدأ في "حزب العدالة" المحافظ، ثم صار نائباً عن قونيه، أمتن قلاع الاخويات التي حُلت في 1925. أما برنامجه فكان اسلامياً وتكنوقراطياً، مشجعاً للصناعة وكارهاً للغرب، يدافع عن المراتب القديمة ضد البورجوازية الكوزموبوليتية لأزمير واسطنبول. ولئن شابهت دعوته دعوة الاخوان المصريين كان مضطراً دائماً للإقرار بعلمانية الدولة، وهو قيد الأتاتوركية الذي استُخدم مراراً لحل أحزاب يؤسسها ارباكان. لكنه من موقعه الحكومي في السبعينات نطق بلسان الحِرَفيين وصغار الباعة رابطاً وزاراته الخدمية بالخدمات لهم وتشغيلهم. والى مكافحة "التغريب" و"الإباحية"، أدخل خريجي المدارس المشيخية الجامعات، ما لعب الدور الأكبر في خلق نخبة ثقافية اسلامية. إلا ان انقلاب 1980 ترافق مع تجذّر الحزب، وكان مناخ الخمينية عاماً. لكن الاسلاميين لم ينجرفوا الى العنف لأن قياداتهم، على عكس سائر الأصوليات، وجوهٌ في المجتمع المدني. وهؤلاء ومثقفوهم بدوا مهجوسين باحراز موقع في مجتمع تعددي متزايد اللبرلة، لا بالانفتاح على فقراء المدن ومكافحة حكومة "الطاغوت". وضاعف اعتدالَهم تحالفُهم مع تورغوت اوزال الاسلامي - الليبرالي، ثم قرار كنعان افرين تعليم الدين لفصل الشبيبة عن التعاليم المتطرفة، فتولاه من كان عيّنهم بازركان في وزاراته. وقدّم التحول الرأسمالي لأوزال، لا سيما طفرة الاعلام والتلفزيون، فرص عمل واسعة للنخبة الاسلامية، كما علّمها المنافسة والاستجابة للذوق العام. لكن وفاته في 1993 وتراجع "الوطن الأم" فتحا الباب للرفاه، كما خلطا أوراقه، فتحول في 1995 الحزب الأول فيما كان اليمين التقليدي ينشق حزبين تشيلر ويلماز. ومن فوهة التعليم والحجاب خرج الصدام مع العسكر. فالسلطة التركية، على عكس مثيلاتها في الشرق الأوسط، آثرت الاحتفاظ لنفسها بالهيمنة الايديولوجية. الا ان الرأسمالية الجديدة، الأناضولية الأصول، بات عليها ان تختار، هي المستفيدة من البنوك والمشاريع الاسلامية، ومن الالتزامات والفرص التي وفّرتها الأوزالية. والخيار اتضحت مقدماته في تنظم المعارك الانتخابية الناجحة أواسط التسعينات، بالتركيز على الاقتصاد لا الدين، وبحملة اعلامية عصرية أكسبت الرفاه أصواتاً تتعدى مُكوّناته الأصلية. صحيح ان أرباكان راعى، في رئاسة الحكومة، التوازنات القائمة، وان الجيش ضغط لاطاحة ائتلافه، لكن الصحيح أيضاً ان حكومته بيّنت مصاعب التوفيق بين المشروع الاسلامي وحقائق الحياة. لهذا لم يضطر الجيش، ذو التاريخ الانقلابي، ان يشن انقلاباً، مستفيدا من تذمر جمهور علماني واسع ساءه رد متحف صوفيا الى جامع، أو اقامة مسجد في قلب ساحة تقسيم. وفشل ارباكان في التصدي للعلاقة العسكرية باسرائيل، فشله في انشاء "سوق اسلامية مشتركة". وفي محاولته التحكّم بتناقضاته، امتدح أتاتورك فأثار نقمة راديكاليي حزبه. وبالفعل وجد ارباكان نفسه بين نار الضباط الذين يحرضون تشيلر ونار المزايدين اسلامياً، فسقطت الحكومة. اما "الفضيلة" فعاش صراعا حاداً بين القدامى والجدد الذين قدموا تنازلات كبرى في ما خص العلمانية والحجاب والمرأة، مؤيدين الاتحاد الاووبي والديموقراطية والانفتاح على بيئة غدت أوسع واكثر علماً وارتباطاً بالكومبيوتر والسوق تقع في مدار الطبقة الوسطى. إلا ان الحزب الجديد حُل بدوره. وآلت الخطوط الى لوحة داكنة. ففي أواخر 1999 أبعد عمر البشير الترابي وبدأ يشيع الحديث في أوساط الاسلاميين عن انسداد مشروعهم. فكما في افغانستان تبين ان العنف والابعاد وسيلتهم لحل خلافاتهم، فيما مهاتير يوجه لسجينه أنور أبشع النعوت، وخاتمي يتخبط بإفلاس البرنامج السياسي الايراني. لقد تغيرت شبيبة ايران وهمومها. وبينما انتقل الارهاب الى الخارج شرع بعض المثقفين الاسلاميين يُدخلون الديموقراطية والمجتمع المدني على منظومة احتكرها قبلاً الخميني والمودودي وقطب. وإذا جاءت التحولات الاقتصادية لتجذب مؤمني الطبقة الوسطى، اتجهت أحزاب اسلامية حزب الله، حزب الوسط الى درجة أعلى من مخاطبة هموم بلدانها. ووراء هذا مجتمعاً كمن اخفاق مشروع قام على حلف ما لبث ان تهاوى، وفي سياق تهاويه حصل 11 أيلول. غداً: كتابا أحمد رشيد.