بات الرئيس العراقي السابق صدام حسين مع 11 من كبار معاونيه بدءاً من أمس تحت المسؤولية القضائية بعدما تسلمته الحكومة العراقية الموقتة من القوات الأميركية، وهو تبلغ أمس التهم الموجهة اليه على ان يمثل اليوم امام قاض عراقي لتلاوتها عليه. ويواجه الرئيس السابق "تهما كثيرة" منها "المقابر الجماعية والمفقودون وحملة الانفال ضد الاكراد وتهم فساد واعتداءات شخصية" بحسب مسؤولين عراقيين. وهناك فريق مؤلف من 20 محاميا معظمهم أردنيون وبينهم اميركي طلبت عائلة الرئيس العراقي السابق توكيلهم. وفيما نفت ابنة الرئيس السابق، رغد، توكيل المحامي الفرنسي الشهير جاك فيرجيس الدفاع عن والدها، يؤكد الأخير ان في عائلة صدام من كلّفه بذلك. التساؤلات المتطايرة حول محاكمة صدام حسين تطفو وتغرق على ايقاع الوتيرة الدموية اللاهبة التي يعيشها العراق. ويحرّك تلك التساؤلات كل مرة ان المصدر المخوّل تكليف الجسم الدفاعي غير واضح وغير محدد. مبدئياً، من الناحية القانونية، لاخوة المتهم الذكور الحق المركزي في تعيين المحامين تليهم ابنته. إلا ان ذلك لا يعني شيئاً أمام اختيار المتهم نفسه، إذ له الكلمة الفصل في الموضوع قطعاً. لكن، بما ان المتهم "مغيّب" حتى كتابة هذه السطور فالارجوحة الحقوقية مستمرة في الطواف، والوجه الأكثر شهرة، والأكثر إثارة في رحلتها هو بلا شك وجه جاك فيرجيس، المحامي الفرنسي الذي دافع عن الديكتاتور الكمبودي بول بوت، وعن كارلوس، وعن كلاوس باربي، زعيم الغستابو الراحل، ناهيك عن سلوبودان ميلوشيفيتش الذي طلب مساعدته في لاهاي، أخيراً. ولد فيرجيس منذ ثمانين سنة في مملكة سيام تايلاند اليوم والده الطبيب والديبلوماسي ريمون فيرجيس الذي أخلي من وظيفته بسبب زواجه من فتاة فيتنامية، وكان الزواج المختلط ممنوعاً في القانون الاستعماري الفرنسي. ويذكر جاك ان والده أبعد عن المحيط والمجتمع الفرنسيين نتيجة اقترانه بامرأة صفراء، وبات عليه أن يعيل أسرته في ظروف صعبة أجبرته على تطبيب المئات في مستعمرة ريونيو مجاناً: "كان أبي يعالجهم جميعاً. وأنا أذكر صفوفاً من المرضى تدخل وتخرج من منزلنا، رأيت أناساً مصابين بالبرص والسرطان والأمراض الاستوائية والطلقات النارية على حد سواء. أما أمي فلم يتمكن من شفائها حين أصيبت بالحمى وتوفيت وأنا وأخي لم نكن بلغنا الخامسة من العمر". عام 1942 سافر الى ليفربول والتحق بجيش فرنسا الحرة، في سلاح المدفعية. وبعد الحرب العالمية الثانية أمضى 11 سنة في الحزب الشيوعي الفرنسي، إلا أنه كان عضواً عنيفاً في صورة لا تقبل الانضباط فترك الحزب عام 1950. في تلك الأثناء تابع دراسته الأكاديمية وحصل على ماجستير في التاريخ والتقى بول بوت في الجامعة. ويقول فيرجيس ان بول بوت كان شاباً فكاهياً، وان الغرب ضخّم حكاية المجازر التي وصمت بالعار ثورته في كموبوديا. عام 1951 كان فيرجيس السكرتير العام لاتحاد الطلبة في براغ حيث التقى هونيكر، وماو، ومانديلا. ثم أمضى اربع سنوات رحالة مع زوجته الأولى كوليت. ولدى عودته الى فرنسا التحق بالسلك الحقوقي الفرنسي والتزم قضية المجاهدين الجزائريين. موكلته الأولى جميلة بوحيرد كانت في الثانية والعشرين من عمرها، متهمة بتفجير مقهى، وخارجة من تعذيب الاستخبارات الفرنسية. ويذكر اصدقاء فيرجيس ان الحب الذي جمع بين جميلة وفيرجيس كان بطولياً. على رغم حكم الإعدام الذي صدر بحقها. إلا ان خروجها من السجن عام 1965 كان انتصاراً توّجاه بالزواج. وبقي فيرجيس محامياً للمقاومة الجزائرية طوال فترة نضالها. حتى عام 1970 كان فيرجيس يعيش مع زوجته جميلة وولديهما في الجزائر، وكان المحامي الدولي لمنظمة التحرير الفلسطينية. وذات يوم ادعى انه مسافر في رحلة عمل الى اسبانيا واختفى طوال ثمانية أعوام. قيل انه جاء سرّاً الى سورية ليعمل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وقيل انه في الكونغو، أو في كمبوديا مع بول بوت. إلا أن أحداً لا يعرف أين أمضى تلك السنوات حتى اليوم. أثناء غيابه طلقته جميلة بوحيرد وعاد الى باريس لممارسة مهنة المحاماة وكأن شيئاً لم يكن. دافع فيرجيس عن أشخاص رهيبين، خصوصاً طغاة أفريقيا مثل غناسينبي إياديما الذي حكم توغو بالحديد والنار، وموسى تراوري الذي أدار الرشاشات على الشعب في مالي، وفيما رأيناه يتظاهر، ويصاب في رأسه، احتجاجاً على مصرع باتريس لومومبا، اذا به بعد ست سنوات يدافع عن مويز تشومبي، قاتل لومومبا. فهل يدافع فيرجيس مثلاً عن هتلر لو كان حاضراً محاكمات نورمبرغ وكان هتلر ماثلاً فيها؟ جواباً على هذا السؤال يتناول فيرجيس رواية صغيرة عن رفّ مكتبه، للأكاديمي جورج شتاينر، يتخيل فيها شتاينر ان هتلر لم يمت في مخبئه بل عاش مع هنود الأمازون الى ان عثرت عليه الموساد وحاكمته في وسط الأدغال. "لكن، بما ان اسرائيل "دولة ديموقراطية" سمحت لهتلر بالدفاع عن نفسه" يقول فيرجيس مخفياً سخريته، ويقرأ من الدفاع المزعوم: "لقد تعلمت كل شيء منكم اليهود. كل شيء حول الفرز العنصري، حول الطهارة العنصرية، حول تدمير أرض الشعب الأصلي، عنصريتي لم تكن سوى تقليد لعنصريتكم. فما قيمة ألف عام من الرايخ في مقابل أبدية صهيون؟ جعلتموني شيطاناً مجنوناً، بل جحيماً متجسماً. فيما كنت مجرد رجل لزمني. عادي، لو أردتم. وإلا فكيف لملايين الرجال والنساء ان يجدوا فيّ حاجاتهم ورغباتهم؟ صحيح كان الزمن قبيحاً، اعترف لكم بذلك، لكنني لم أبتكر قبحه، ولم أكن الأسوأ. ولا في أي شكل. إذ كم من المساكين قتل أصدقاؤكم البلجيك بالمجاعة والاغتصاب في الكونغو؟ حوالى 20 مليونا؟ وأي مقارنة بين روتردام وكوفنتري مع درسدن وهيروشيما؟ هل أنا من اخترع معسكرات الاعتقال؟ اسألوا "البويرز"... أيها السادة القضاة، لقد أخذت فلسفتي عنكم". ويستخلص فيرجيس من هذا المقطع ان الفارق بين صدام وهتلر سيكون واضحاً والكفة سترجح لمصلحة صدام، ذلك ان الأدلة على تعاون الأميركيين معه منذ البداية موجودة ومحققة. صحيح انهم يعتقدون بقدرتهم على التحكم بسير القضية، لكنهم مخطئون. فالأميركيون ساعدوا "القاعدة" في البداية حتى خرجت "القاعدة"... عن القاعدة، ثم ساندوا صدام، وهو أيضاً شذّ وابتعد عنهم. ويؤكد فيرجيس ان الاميركيين متواطئون على كل الأصعدة: "فهم من أعطى صدام الضوء الأخضر للهجوم على الكويت. وبعد حرب الخليج ألقى الأميركيون مناشير تحرّض الشيعة والأكراد على الثورة، فحين تحركوا، خذلهم الأميركيون. وسأضمّن دفاعي هذه النقطة كدلالة على وجود تواطؤ أميركي مستمر مع صدام. بعدئذ جاء الحظر الاقتصادي على العراق. منظمة الصحة العالمية تشير الى أن نصف مليون طفل عراقي ماتوا بسبب هذا الحظر". ويضيف فيرجس: "أعتقد ان بامكاني سوق البراهين على ان معاهدة جنيف تحطمت يومياً في العراق. وهناك جرائم حرب مرتكبة بحسب بنود لم توقعها الولاياتالمتحدة، لكن بريطانيا وقعتها، ولا أستبعد توجيه الاتهام الى الانكليز في مرافعتي، على هذا الأساس". بحسب القانون القائم في العراق وبحسب التهم التي يوجهها العراقيون الى صدام يسمح بتدخل أطراف أجنبية على كل المستويات، حتى القضاة، خصوصاً في ما يخص "الجرائم الدولية" كاجتياح الكويت، والحرب على ايران، وضرب الأكراد بالغازات السامة. ويقول خبراء في القانون الدولي ان التضييق على خيار صدام نفسه في تعيين محاميه، لن يكون في مصلحة صدقية المحاكمة. يبقى السؤال: من يدفع مصاريف الدفاع؟ وفي الجواب عنه كشف آخر، لا يزال مستتراً، عن أموال صدام وأسرته وحاشيته. فحتى لو تبرّع فيرجيس بالدفاع مجاناً، وهو مستبعد لكن غير مستحيل، هناك مصاريف أخرى على المتهم تسديدها، فإذا أُجريت المحاكمة علناً في بغداد هل ستفسح السلطات في المجال لمن بقي من أسرة المتهم بحضور محاكمته؟ يتوقع الحقوقيون الذين استشارتهم "الحياة" ان تطول فترة التحضير لهذه المحاكمة، ولم يستبعد بعضهم تأجيلها سنوات، ريثما يستتب الوضع تماماً في العراق.