لعل ما يجمعنا، نحن العرب، بجاك فيرجيس، المحامي والكاتب الفرنسي الذي لقّب ب «محامي الشيطان» و «المدافع عن المجرمين والإرهابيين»، هو أكثر مما يبعدنا عنه. فهذا المحامي «الإشكالي» (رحل الجمعة الفائت عن 88 عاماً) الذي كان نجم المحاكمات الرهيبة و «الميؤوس منها» عالمياً، بدأ مساره مناضلاً في صفوف الثورة الجزائرية ودافع عن المناضلة الشهيرة جميلة بوحيرد عام 1958 عندما حكم عليها الانتداب الفرنسي بالإعدام، ثم تزوّج منها بعد اعتناقه الإسلام. وكان استقال قبل عام من الحزب الشيوعي الفرنسي احتجاجاً على تلكئه إزاء الثورة الجزائرية. وبدءاً من العام 1969 التزم هذا المحامي المناضل القضية الفلسطينية من باب ما سمّي في الغرب «الإرهاب» وراح يدافع عن سجنائها في أوروبا وأصبح على صداقة بالمناضلين الفلسطينيين الكبار وفي مقدمهم وديع حداد. وسرعان ما اتّهم بالانضواء الى شبكة «منظمة الثوار الأمميين» التي أسسها كارلوس فسُلّطت أضواء الاستخبارات عليه. لكنه لم ينثن عن الدفاع، بجرأة وصلابة، عن أعضاء هذه المنظمة. وأخيراً تولى فيرجيس مهمة الدفاع عن المناضل اللبناني جورج إبراهيم عبدالله المأسور في السجون الفرنسية، وقاد حملات للإفراج عنه. وحملته حماسته إلى زيارة لبنان أكثر من مرة وقدم على أحد مسارحها عرضين لمسرحيته المونودرامية «مرافع بالتسلسل» بعد تقديمه إياها عام 2008 في باريس. ولئن كان جاك فيرجيس الفلسطيني الهوى، قد لقي لدى العرب ترحاباً ورضا وإعجاباً، فهو راح يفقد الكثير من هذه الحظوة عندما وافق على تولي الدفاع عن الديكتاتور العراقي صدام حسين وجماعته، خلال محاكمتهم بدءاً من العام 2004. حينذاك انهالت عليه التهم وكتبت ضده مقالات كثيرة. وكان على الكراهية العربية له أن تزداد عندما أعلن استعداده للدفاع عن الديكتاتور الليبي معمر القذافي، لكنّ نهايته المأسوية خيبت أمل «محامي الشيطان». ولمّا سألته الصحافة الفرنسية عن توليه الدفاع عن صدام أجاب بصلافة: «الدفاع عن صدام ليس أمراً ميؤوساً منه، بل الدفاع عن الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش هو الميؤوس منه». وبدا هذا الجواب شبه ديماغوجي، وغير مقنع البتة. فالأيدي الملوثة بدماء الأبرياء هي نفسها، والقتلة هم قتلة كيفما كانوا. وهكذا لم يتردد في الدفاع عن كبار الإرهابيين والمجرمين من أمثال الديكتاتور اليوغوسلافي سلوبودان ميلوسوفيتش والمجرم النازي كلاوس باربي والقاتل الرهيب جاك ليفنترور «باقر البطون»... وأعلن مرة أنه كان ليدافع عن هتلر نفسه لو أتيحت له الفرصة. وكان فيرجيس صديقاً للديكتاتور الصيني ماو تسي تونغ والكوبي كاسترو وقائد «الخمير الحمر» كيو سامغان... إلاّ أن ما يدعو إلى الاستغراب هو قدرة «محامي الرعب» هذا، على إقناع خصومه وكارهيه والآخذين عليه أفعاله المشينة، بما يمكن تسميته «فلسفة الإجرام»، التي كتب عنها، نظريا و «حقوقياً»، معتمداً مرجعيات فكرية وسياسية وتاريخية وبسيكولوجية وأدبية... وعمد فيرجيس إلى طرح أفكاره الجريئة ومعالجة مقولاته ومقارباته في الكتب التي وضعها وهي تتخطى الثلاثين وتتفاوت بين القانون والحقوق والسياسة والتاريخ والأدب والشعر... وقبل بضعة أعوام وقعتُ بالصدفة على كتاب له جذبني عنوانه «جمال الجريمة» (دار بلون، 1988)، لكنني -أعترف- لم أقدر على قراءته كله، تبعاً لعدم إلمامي بمثل هذه الكتب، فاكتفيت بصفحات بديعة أعادت إلى ذاكرتي شخصية راسكولنيكوف في «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي وشخصية «ميرسو» في «الغريب» لألبير كامو وشخصية جوزف ك في «المحاكمة» لكافكا... وخيّل إلي أن فيرجيس كان ليغدو خير محام يتولى الدفاع عن هذه الشخصيات الغامضة والملتبسة. في هذه الصفحات أو المقاطع يعمد الكاتب إلى الشك في المفهوم التاريخي للعدالة، وإلى معاودة النظر في مفهوم الجريمة وإعطائها معنى جديداً، والبحث في كيفية تبرئة قاتل أو إرهابي أو في قدرة الإجرام على فضح النظام الأخلاقي والقيم غير الإنسانية... «واضعو القنابل هم من يطرحون الأسئلة» يقول، متلبساً شخصية كاتب مثل جان جينه او جان بول سارتر أو حتى بريخت. ومن الجمل التي أعجبتني في هذه الصفحات: «القضاة هم مثل الطباخين. لا يحبون أن ينظر إليهم أحد عندما يطبخون»، «لا شيء يصدمني مثل ما يصدمني العنف الذي يُمارس على متّهم مهزوم، لا سيما عندما يحل الذين يعاقبونه بلا محاكمة، في موقف الادعاء»، «بين الكلاب والذئب، أنحاز إلى الذئب، خصوصاً عندما يكون مجروحاً»، «عالم العدالة هو عالم مغلق وقاس، حتى إننا لا يمكننا أن نتخيّله من الخارج. لقد بُطّنت أبوابه كي تخنق الصراخ»... لا أدري كيف استطاع جاك فيرجيس أن يكون في آن واحد، شخصاً مثالياً وميكيافيلياً، نرجسياً وساخراً، مناوراً وصائباً، غامضاً بأسراره الكثيرة وواضحاً بجرأته، نظيفاً وقذراً (يصف نفسه ب «القذر المضيء»)... ولم يكن يضيره، هو اليساري والثوري، أن يحيا حياة ملؤها البذخ والترف، مدخّناً السيكار الكوبي وجامعاً باقة هائلة من الآثار والأقنعة، حتى وإن كان مصدر المال موبوءاً وملوثاً بالدم والبارود. جاك فيرجيس أيضا كاتب كبير، وكتبه التي أمضى أعواماً ينجزها، تدل بحق على وجهه الآخر الذي يجب اكتشافه. ألا يستحق أن يترجم إلى العربية؟