هذا الفن قديم قدم الفساد والجريمة والمدافعين عنهما في هذا العالم. فالفاسدون من كل لون وطراز يميّعون أفعالهم ويعومونها ويضيعونها من خلال إغراق الجميع في حوضهم. فعلى سبيل المثال تقنع العاهرة نفسها أو تدافع عن فعلها بإتهام كل جاراتها بأنهن عاهرات أكثر منها لكن بالسر. والسارق أو المرتشي من دولته أو شركته أو جمعيته أو منظمته يتهم أقرانه بأنهم سارقون ومرتشون اكثر منه، مستشهداً بالمثل: "من الباب الى المحراب والكل قابض"، والذي يريد في هذه الأيام ان يصبح عميلاً يعتبر الجميع غيره، بل العالم، عملاء لأميركا لكن يتسترون ويكذبون. هذا، وتنبع الحاجة الى فن التمييع والتعويم والتضييع من ضرورة اراحة الضمير للمرتكب أو المدافع عنه، أو عما يرتكب من فساد أو جرائم. المهم ان يُغرق الجميع في الحوض نفسه، ومن شذ فهو ساذج غبي أو جبان أو قصرت يده أو لم تؤاته الفرصة بعد. لعل أخطر الأمثلة التي نعيشها هذه الأيام نجدها في استخدام هذا الفن، في مواجهة التركيز على ما أثير من فضائح التعذيب وإهانة كرامة الانسان وانتهاك حقوقه كافة، كما عبرت عن ذلك صور ما حدث أو يحدث في سجن أبو غريب في العراق، على سبيل المثال وليس الحصر، باعتبار ان ذلك، بالضرورة، مطبق على كل مراكز الاعتقال في العراق وافغانستان وغوانتانامو وأماكن أخرى. فقد علت الأصوات التي تقول لكن كان يحدث اكثر من ذلك في سجون صدام حسين. وحدث ويحدث ما هو أشد هولاً في كل السجون العربية. ولماذا لا تضعون جرائم تنظيم "القاعدة"، أو التنظيمات السائرة على نهجه، أو الجريمة المنكرة التي ارتكبها أبو مصعب الزرقاوي بذبح نيقولاس بيرغ وتصويره، مقابل تلك الصور. وبهذا يجد المرء نفسه منساقاً الى مناقشة قضايا مقابلة، على خطورتها وضرورتها، لكن ليس في هذا المقام، أو في الأقل، يجب ألا تميع وتعوم وتضيّع ملف الارتكابات الاميركية التي ترقى الى جرائم حرب بامتياز تمس مستقبل العرب والمسلمين، بل العالم. وذلك ما دام هذا "النموذج" يرشح نفسه ليقيم النظام العالمي الجديد تحت قيادته المنفردة ويفرض قيمة عليه. وباختصار، اصبح تمييع القضايا، الأكثر إلحاحاً واهمية وأولوية، وتعويمها وتضييعها، فناً، قائماً بذاته، واسلوباً سهلاً تبسيطياً للجم كل من يطول لسانه في مس الارتكابات الاميركية. وبالمثل فإن من يمس الارتكابات الاسرائيلية يقابل بقضايا الفساد والاصلاح وتوحيد اجهزة الأمن وقيادة ياسر عرفات. ففيما تدمر رفح، وتذبح تظاهرة سلمية بالصواريخ الاسرائيلية. ودعك مما يجري في السجون وامام الحواجز، أو عند دهم البيوت، أو في أقبية التعذيب. يستخدم ذلك "الفن" في تمييع الارتكابات الاسرائيلية وتعويمها وتضييعها من خلال فتح ملفات السلطة الفلسطينية ورئيسها. والخلاصة، يمكن أميركا ان تفعل في السجون العراقية ما تشاء لأن الدول العربية تفعل اكثر من ذلك. وقد يُرد، بسرعة، "لا، نحن لا نوافق على ما تفعله اميركا، لكن انظروا الى ما في السجون العربية". اي، هنا "عدم موافقة" ولا يصل الأمر الى محاكمة الرؤوس في البنتاغون والبيت الأبيض، أو يصل الى ضرورة رحيل الاحتلال، وبلا إبطاء أو لف ودوران. اما هناك فيجب ان يطاح النظام ورأسه. وكذلك هم "لا يوافقون" على ما يفعل شارون. ولا يصل عدم الموافقة الى مناقشة طبيعة الدولة الاسرائيلية ومشروعها الصهيوني، أو ضرورة رحيل الاحتلال بلا قيد أو شرط. أما هنالك فيجب ان يطاح عرفات، وتفكك منظمات المقاومة، وتنتهي الانتفاضة وتوحد اجهزة الأمن لتبطش بالشعب الفلسطيني، وتأتي قيادة توافق على شروط شارون - بوش وبيريز ليس بعيداً للتسوية - التصفية. والسؤال لماذا هذا الخلط الفن بين قضية واخرى ليستا على المستوى نفسه؟ وهل هنالك من تناقض بين ان تكون لارتكابات اميركا "حفلتها" الخاصة بها، والتي لا تحتاج الى مدعوين آخرين، وتكون لارتكابات الانظمة "حفلتها" أو حفلاتها الخاصة، بلا حاجة الى مدعوين آخرين كذلك. اما مثال الخلط بين شارون واحتلاله وارتكابات جيشه مع عرفات والسلطة والفساد فأشد صراخاً وبلاغة. ثمة نقطة لا بد من ان تثار هنا، وهي خصوصية ما مثلته صور التعذيب وإهانة كرامة الانسان العراقي - العربي - المسلم، وما استهدفه نشرها على نطاق واسع من حرب نفسية موجهة الى العرب والمسلمين بعامة. وذلك بقصد إرعابهم واذلالهم واشعارهم بالدونية، عساه يؤدي الى ان تحطم نفسياتهم المحتفظة بعزتها، وتخمد روحهم المسكونة بمقاومة من يحتل ارضهم. فهذه الخصوصية تتعدى فن التمييع والتعويم والتضييع لما مثلته تلك الصور. بل تتعدى تجنب مناقشتها من أجل مناقشة ما يجري في السجون العربية، الى الهروب من التعمق في قراءة الظاهرة بأبعادها التي تمس "النموذج" الديموقراطي - الحداثي المتمثل في الولاياتالمتحدة مساً في الصميم. والولاياتالمتحدة هي قائدة الديموقراطية - الحداثة - مجتمع المعرفة في عالم الغرب، في الزمن الراهن، وربما لعقدين قادمين. ماذا لو تبين عند التركيز والقراءة المعمقة ان ارتكابات الاحتلال الاميركي في العراق وفي سجون اخرى على نطاق عالمي، وكذلك ارتكابات الاحتلال الاسرائيلي، ليست مجرد انحرافات فردية، أو طارئة، خارجة عن السياق، وانما هي سياسة مؤسسة دولة وجزء لا يتجزأ من علاقة الديموقراطية - الحداثة - مجتمع المعرفة - القيم الحقوقية الانسانية، كما في "النموذج"، بخارجه العالمي. وماذا لو تبين ان الأمر كان كذلك مع النشأة الرأسمالية وعصر "الأنوار" وصاحبهما، دائماً، بلا انقطاع وعبر علاقة عضوية تكوينية شكلت النموذج. انتبه: العلاقة بخارجه العالمي، وان كانت علاقته بداخله فيها قول كثير كذلك. ومن ثم لا يكون ما جرى ويجري في العراق وفلسطين وافغانستان وأماكن اخرى بدعاً، أو شذوذاً أو طارئاً أو عابراً، أو خارجاً عن تكوين النموذج، وسياقه عالمياً. ومن هنا لا يكون استخدام فن التمييع والتعويم والتضييع نابعاً من انحياز سياسي فحسب وانما يمتد لدى البعض الى اشكال الانحياز للنموذج الذي لا يصلح، وتلكم حالته، ان يكون نموذجاً للعالم خارجه.