كتب كولن باول وزير خارجية الولاياتالمتحدة مقالة في "هيرالد تريبيون" بتاريخ 2/1/2004، تحت عنوان "أجندة أميركا من أجل الحرية لعام 2004". وانقسمت المقالة إلى قسمين: احدهما يتحدث عما ستفعله أميركا خلال العام الجاري 2004، أو قل الاشارة إلى ما هي مصممة على فعله. وثانيهما محاولة تقديم تقويم متفائل لما أنجزته في 2003. فبالنسبة إلى القسم الأول لا يسهل اعتبار باول معبراً عما ستفعله الولاياتالمتحدة إلا جزئياً، كما كان حاله طوال فترة وجوده على رأس الديبلوماسية الأميركية. فالكل يذكر اضطراره المتواصل إلى اللحاق بسياسات صقور الإدارة حتى أصبح في حالة متذبذبة بين الحمائمية والصقورية. ولو تحلى باول بشجاعة وزراء خارجية أميركا الذين احترموا منصبهم، لاستقال منذ أشهر عدة، أو على الأقل، لاعتذر عن أن يُجدد له. ثم أضف على الحديث عما ستفعله أميركا بأنه من الأماني، بالضرورة. ولهذا غلبت عليه العمومية مثل عنوان المقالة. فقد عرف العام المنصرم سلسلة من اخفاقات منيت بها السياسة الأميركية، ولا حاجة إلى التذكير بتذبذب الموقف من مجلس الأمن والذي تراوح من إدارة الظهر إلى ما أسماه البعض بطلب النجدة، حتى غدا خليطاً مرتبكاً من ابتعاد واقتراب في اللحظة الواحدة. هذا ولا حاجة إلى التذكير أيضاً بالإقدام ثم الإحجام ثم التراجع في قضايا فلسطين وكوريا وإيران وسورية ولبنان، فكان ثمة بون بين ما صممت عليه وما استطاعت تحقيقه. طبعاً لم تنته الجولات، لكنه التقدير لما حصل في العام المنصرم. أما بالنسبة إلى الانجازات وتقويم ما تحقق، فقد افتقرت مقالة باول إلى الوقائع، ناهيك عن الصراحة، ولا ينقذها التباهي بالخلاص من نظام صدام حسين، لأنها لم تشر إلى ما عرفته بعد ذلك من تخبط سياسي وعسكري وارتكابات جرمية في العراق. فكل خططها وسياساتها تهاوت الواحدة بعد الأخرى وصولاً إلى استدعاء بول بريمر في تشرين الثاني نوفمبر الماضي إلى واشنطن ليعود بمشروع تسليم السلطة للعراقيين وتحديد تاريخ 30 حزيران يونيو 2004 موعداً لذلك بعد أن كانت أميركا دخلت معارك في مجلس الأمن تهرباً من تحديد مواعيد قريبة أو التقيد بها. ثم لم يتطرق إلى ما واجهته من احراجات وصعوبات وخسائر مادية ومعنوية بسبب مقاومة مسلحة ما زالت في حال تصاعد، كما بسبب ألوان من المقاومات السلمية شيعية وسنية وتركمانية، وبعض الكردية كما إسلامية ووطنية وديموقراطية ويسارية وعروبية، وفي المقدمة، ما ينطلق من المساجد في كل يوم جمعة أسبوعياً. ولعل الأسوأ على أميركا انسداد الأفق العراقي أمام ايجادها لمتعاونين يمثلون شيئاً معتبراً في المكوّن العراقي يمكن الثقة بتسليم السلطة إليهم. وبكلمة، لم يجرؤ باول أن يواجه ورطة أميركا في العراق. ولولا حرص المرء، كل الحرص، على حاجة الشعب العراقي إلى الخلاص بأسرع ما يمكن من الاحتلال الأميركي وارتكاباته، لتمنى على أميركا أن تغوص في طنها ومأزقها واستنزافها في العراق أمداً أطول، لسنتين أو أكثر، كما كان يخطط صقور البنتاغون. وفلسطينياً، تجاهلت مقالة باول كل ما جرى من اخفاقات للسياسات الأميركية، سواء من جهة تصفية الانتفاضة والمقاومة وصمود الشعب الفلسطيني، أم من زاوية استبعاد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وتكريس قيادة فلسطينية بديلة، أم من ناحية الهجمة الأميركية، وبقيادة الرئيس جورج بوش شخصياً، في قمتي شرم الشيخ والعقبة لتحقيق ولو انجاز واحد من "خريطة الطريق". فبدلاً من أن يُشار إلى كل هذه الاخفاقات، عاد إلى التأكيد على أن أميركا مصممة بالتعاون مع روسيا وأوروبا والأمم المتحدة على المضي إلى أمام ب"خريطة الطريق". وباختصار، لم يعترف أن "خريطة الطريق" عادت إلى الرف وتراجع زخم "التصميم الأميركي"، ولم يتحقق شيء مما تريده أميركا في الساحة الفلسطينية. على أن من المهم أن يُقرأ الوضع الفلسطيني من جانب آخر، وهو فشل سياسات استراتيجية وتكتيكية شارون - بوش العسكرية والأمنية والعقابية الجماعية في فرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني، ومن ثم الانتقال إلى الحل السياسي النهائي وفرضه على العرب والمسلمين، وفقاً للمنظور الليكودي، وما فوق الليكودي الأميركي متطرفو الإدارة الأميركية للقضية الفلسطينية. وهذا ما أقر به، وبصورة خارجة على المألوف، موشي يعالون رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، حين أعلن عدم جدوى سياسات شارون للحل العسكري. ومثله اعتراف الجنرالات الأربعة السابقين في ال"شين بيت" و"الشاباك"، بأن إسرائيل ذاهبة إلى كارثة إذا استمر الحال الراهن. وهذا ما يؤكده، بصورة قاطعة أيضاً، انتقال حكومة شارون إلى استراتيجية الجدار والحل المنفرد. فشارون الآن، الذي جاء قبل ثلاث سنوات ليقضي على المقاومة والانتفاضة بمئة يوم، تحول بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001 إلى استراتيجية اجتياح المناطق وفرض الحل العسكري - الأمني مباشرة، جنباً إلى جنب مع فرض القيادة الفلسطينية البديل والحل السياسي النهائي، يجد نفسه يقتل من أجل القتل ويدمّر من أجل التدمير، حتى يتجنب الاعتراف بالهزيمة، كالثور الهائج الجريح يزيد هيجانه قبل أن تنهار قواه. وهذا الذي يفسر سعيه المحموم لبناء الجدار وتحدي العالم، وتصعيد القتل والتدمير كما حدث الأسبوع الفائت في قصبة نابلس، ومن قبلها جريمة رفح. على أن هذه الخطة الأخيرة، رغم طابعها التراجعي قياساً بما سبقها، تشكل كارثة جديدة على الأرض والمياه والقدس والحدود وما حولها. لأن شارون، بعد الارتداد من طرف واحد إلى ما وراء الجدار، بما يشبه، من زاوية من الزوايا، الارتداد إلى ما وراء الخط الأزرق في لبنان، سيحاول أن يُكرس أمراً واقعاً جديداً يشمل القدس وما اغتصب من أراضٍ ومياه وحدود. ولعل قرار مضاعفة الاستيطان في الجولان يدخل ضمن هذا التطور كذلك. الأمر الذي يعني، من جهة أخرى، انهيار كل المراهنات الأميركية - الإسرائيلية السابقة على فرض تسوية سياسية تصفي القضية الفلسطينية، وتدمج إسرائيل في المنطقة من موقع الهيمنة. لأن ما سيحدث عندئذ سيكون عوداً إلى التأزيم على كل المستويات. ومن هنا أصبح من الضروري أن يوحد الموقف الفلسطيني لإحباط المشروع الكارثي الجديد ليس بتقديم التنازلات المجانية الواهمة وإنما بتحويل الجدار إلى مأزق إسرائيلي وعالمي لشارون وبوش. ولا يكون هذا إلا بمواصلة الانتفاضة والمقاومة وكل اشكال النضال السلمي ضد الجدار. ومن ثم تحويله إلى انشوطة حول رقبة شارون. فالجدار مقتل سياسي لشارون عالمياً، وربما، داخلياً إسرائيلياً، إذا ما شُدد النضال ضده، وسوّت أبواب التنازلات تحت ضغوطه وابتزازه. ولكن شرط هذا أن يكون مناسبة إلى إعادة التضامن العربي لمناصرة شعب فلسطين في هذا الكفاح، والخروج العربي من حال العجز الذي لا مسوّغ له غير سوء التقدير لموازين القوى عالمياً واقليمياً وفلسطينياً، والمبالغة الشديدة بالخوف من أميركا بلا اعتدال واتزان. فأميركا اليوم، مع مطلع العام الجديد 2004، أضعف منها مع مطلع 2003، وأمامها أفق مسدود في العراق وتورط وراء شارون في فلسطين، وأوضاعها العالمية والاقليمية ليست على ما يرام. وبوش سينشغل في معركته الانتخابية، مما يضعف سياسته الخارجية، بالضرورة، ويفرض عليها التناقض مع استراتيجيته المعلنة في أيلول 2002. أما على مستوى الرأي العالمي، فحدث ولا حرج، عما نال سمعة أميركا من أضرار تزيدها ضعفاً وإرباكاً. ومن هنا فإن من يقرأ خطاب كولن باول يسمع معزوفة التصميم والأماني، بعيداً من تحليل الوقائع والاستناد إليها.