يحلّ في "متحف لكسمبورغ" معرض متنقل في أوروبا بالغ الإثارة والعمق، تحت عنوان "صورة الرسام عن المرآة الأوتوبورتريه في القرن العشرين" ويستمر حتى نهاية تموز يوليو 2004 - سيرحل بعدها الى فلورنسا. ويكشف المعرض هذه المرة العلاقة بين تاريخ الفن الفرنسي وايطاليا من خلال الرمز لوحة الجوكندا. ذلك أن فكرته استقاها منظّم العرض من "مجموعة دوقات توسكانيا" التي شكلت متحفها في فلورنسا في القرن العشرين، وذلك من خلال تجميع ميراث أوتوبورتريهات القرنين السابقين. يقول كوميسيير المعرض باسكال بونافو أن المعرض الراهن يستكمل فكرة المجموعة هذه مؤسساً معرضه من مساحة "الأوتوبورتريهات" المنجزة في القرن العشرين والتي تعكس شهادة العصر بخاصة خلال الحربين العالميتين، ومن خلال 150 لوحة تجتمع بصورة استثنائية. لا يقلّ الكتاب المرافق للمعرض أهمية عنه، بخاصة أنه كتاب فلسفي يعالج تعدديات "الذات والأنا" والحوار المستديم بينهما. كتبه الكوميسيير المؤلف والناقد والأستاذ الجامعي. يعتبر رمز فكرة المعرض أسطورة "نارسيس" اليونانية، هي التي تروي كيف سقط هذا الشاب المعجب بجماله في المياه التي عكست صورته، فمات في صورة جماله الروحي والجسدي. تصوّر لوحة الفنان الايطالي "كارافاجيو" هذه الأسطورة في لوحة منجزة عام 1595 ألوان زيتية على قماش وبقياس 112×92سم. لعل اللوحة تمثل مدخل المعرض والبرزخ المتوسط بينه وبين مجموعة توسكانيا المذكورة. قُسّم المعرض الى ستّة أقسام متمايزة تدور في فلك موضوع المعرض لا تخلو من القسر النقدي، وهي: 1 - التشابه وعدم التشابه. 2 - الأقنعة التعبيرية. 3 - التحولات. 4 - المرآة والفوتوغراف. 5 - المحترف والفطرة. 6 - الجسد والمرآة. لكن نقاط الإثارة في المعرض لا تخضع لهذا التقسيم. انفصام لعل أبرز ما فيه هو تركيزه على مرآه الشبه الداخلي الوجداني أو الوجدي الوجودي لدى الفنانين. من هنا تبدو الذات: تعددية انفصامية، تتحاور بصيغة بسيكولوجية اعتكافية زهدية مع ذواتها. هي حال نماذج بيكاسو وبيكون وماسون. الفنان ادوار مونخ يعتبر الذات الرديفة مرآة للموت، هو ما يصوره آندي وارهول في رأسه المتضاعف مع جمجمته. وهو ما يمثل في المعرض هداية الشاعر بودلير عندما يعلن أنه "لا يمكن للفنان أن يتحقق إلا بمضاعفة ذاته وصورته الأنويّه" لا شك في أن الشبه البسيكولوجي الانفصامي متزامن مع بحوث التحليل النفسي، بدليل أن أبرز نماذج المعرض من فيينا ايفون شييل وكليمت عاصرا عالم النفس فرويد، وهما يُعبران عن فكرة "الليبيدو" المنهي عنه اجتماعياً. وهنا نصل الى معنى جديد "للأنا" في "الأوتوبورترية" التي لا تقتصر على الرأس، وانما تمتد الى جسد الفنان، هو الذي تختلط في عُريه المأزوم معالم الذكورة بالأنوثة، وفق صيغة "هيرما أفروديت" اليونانية المتخنثة. يقابلها بصيغة معاصرة هيئة "الترافستي" والتدخل الهورموني في هذا الاختلاط الجيني. أقنعة وهنا تدخل الأقنعة كداعم للأبعاد السحرية والهذيانية والحلمية في "الأوتوبورتريه". هو الميراث اللاواعي أو الحدسي لحساسية. المدرسة السوريالية. يعرض احد الجدران المقولة السوريالية الشهيرة: "أراقب نفسي وهي ترى ذاتي" بمعنى تأمل آلية رؤيا الذات للذات في مرآة الحلم أو الطفولة واللاشعور. بولاكوف الروسي تحتل المدرسة الروسية مكاناً رحباً في العرض من خلال التشديد على لوحة إيريك بولاكوف. هي اللوحة التي أنجزها عن صورة وجهه عام 1968 بصيغة ثلاثية. كل وجه يطمس خصائص سابقة حتى تبدو اللوحة وكأنها ادانة حاسمة للفن "الايديولوجي" الممسوح الشخصية، والذي يعتمد على غيبوبة البصمة الفردية في الابداع لمصلحة المباركة الجماعية. ها هو يعود فيوقّع عمله للمرة الأولى بعد محاولة المؤسسة الثقافية الغاء معنى التوقيع. ثم يحيي ذكرى "مربّح ما لفيتش" المعارض للإلتزام الاجتماعي والسياسي في الفن، يعرّج المعرض في هذه الزاوية على لوحات "التجريديين" 8 عندما يصوّرون بصيغة تشخيصية وجوههم عن المرآة، من أمثال موندريان وشونبرغ وسواهما، ليعود من جديد فيعلن انتصار الصورة التمثيلية أو التعبيرية على التجريد والملصات الاستهلاكية، وذلك من طريق مسرحة الجسد. يتخيل فيه الفنان جسده الذاتي، ليس كما هو عليه، وانما كما تحيكه الذاكرة وما هو محتمل الوجود. نلاحظ في اختيار النماذج وسياق اخراجها "السينوغرافي" سلطة النقد النظري، والأطروحة الفكرية. بخاصة أن الكتاب المرافق يرسّخ هذا التوازن في اشكاليات تاريخ الفن بين المختبر الصباغي الحسّي، والأطروحة الذهنية التنظيرية. يبدو هذا اللقاح الصحّي والمتوازن بين الفكر والبصر من أبرز وجوه أهمية المعرض ونقطة إثارته.