ما إن اعلن رئيس الوزراء العراقي اياد علاوي اتفاق تفكيك الميليشيات التابعة للأحزاب الكردية، قبل ان يعود ليستثنيها من الاتفاق، حتى سارعت القيادات الكردية الى نفي ذلك، مؤكدة انها فوجئت بإعلان علاوي "الذي لم يفاتح أي جهة رسمية في قيادة قوات بيشمركة كردستان في شأن خطط اندماج البيشمركة في الجيش العراقي" بحسب ما ذكر مصدر كردي، رافضاً تسمية البيشمركة ب"الميليشيات"، لأنها "ناضلت وحاربت ضد النظام الديكتاتوري وقدّمت التضحيات الجسيمة وشاركت في تحرير العراق مشاركة فاعلة"، وهي تشكل الآن "قوة نظامية للدفاع عن ارض كردستان وعموم العراق". والبيشمركة التي تضم اكثر من 120 ألف مقاتل عنوان لعدد كبير من المسلحين التابعين لمجموعة متنوعة من التنظيمات الحزبية الكردية، في مقدمها "الحزب الديموقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني". وهي ظهرت الى الوجود في ايلول سبتمبر 1961، عندما ثار الملا مصطفى البارزاني ضد حكومة عبدالكريم قاسم، مطالباً بمعاملة المنطقة الكردية معاملة خاصة والاهتمام بوضعها المتخلف اقتصادياً واجتماعياً وتعليمياً. بيد ان قاسم لم يستجب هذه المطالب المتواضعة، فاستغلت القضية من اطراف كثيرة، ما أدى الى خلق وضع في العراق سهّل كثيراً مجيء حزب البعث الى السلطة في اعقاب انقلاب 8 شباط فبراير 1963 بعد حرب خاضها الجيش العراقي وقوات البارزاني. وشهدت البيشمركة تطورات نوعية بعد التحاق عدد كبير من ضباط الجيش العراقي من الشيوعيين والقاسميين نسبة الى عبدالكريم قاسم بها، فتطورت تشكيلات البيشمركة واتسعت، وبعدما كانت تضم نحو ثلاثة آلاف مقاتل مقسمين الى مجموعات صغيرة يتكون كل منها من 15 إلى 20 مقاتلاً وليس لها مقر ثابت، اصبحت بعد 8 شباط 1963 اكبر وأشمل، ودخلت في عتادها انواع جديدة من الاسلحة المتوسطة، كمدافع الهاون، والرشاشات الثقيلة والقنابل اليدوية، وارتفع عددها من ثلاثة آلاف إلى 15 الف مقاتل. ومع انهيار حكم البعث على خلفية انقلاب 18 تشرين الثاني نوفمبر 1963، بدأت مفاوضات بين السلطة القائمة التي كان على رأسها المشير الركن عبدالسلام عارف والملا مصطفى البارزاني، وتخللتها عمليات قتال استمرت الى ما بعد موت عبدالسلام عارف ربيع عام 1966 وتولى الحكم شقيقه المشير الركن عبدالرحمن عارف الذي كلف الدكتور عبدالرحمن البزاز التوصل الى اتفاق مع الحركة الكردية. وبالفعل صدر بيان 30 حزيران يونيو عام 1966 الذي اعطى المحافظات الكردية نوعاً من اللامركزية في الادارة ينظمه قانون صدر في ما بعد، وبدّل التقسيمات الادارية للعراق من ألوية الى محافظات. وصدرت للمرة الأولى صحيفة في بغداد تنطق باسم الحركة الكردية سميت "التآخي" كان يترأس تحريرها صالح اليوسفي. وتضمن الاتفاق تسريح عناصر البيشمركة واستيعابهم في الشرطة العراقية وفق حاجة وزارة الداخلية. بيد أن السلام لم يستمر طويلاً، اذ سرعان ما أطيح نظام عارف وجاء البعث ثانية ليرفض بيان 30 حزيران بدعوى انه يعطي الاكراد اكثر مما يستحقون. فنشب قتال شرس استمر بين تموز يوليو 1968 و11 آذار مارس 1970 عندما صدر بيان آذار الذي يصر الاكراد على تسميته ب"اتفاقية". وكانت التداخلات الاقليمية والدولية في القضية الكردية واضحة في الجانب السياسي، فيما ظلت غامضة في جانبها العسكري، خصوصاً على صعيد البيشمركة التي شهدت تحولاً نوعياً في تلك الفترة. اذ اصبح القتال يدور على شكل مجموعات كبيرة، وظهرت اسلحة مدفعية ميدان وأجهزة رصد وتشويش ومعدات رؤية ليلية وخرائط ميدان، كما ظهر تشكيل استخباراتي نشط. وعندما استؤنف القتال في 11 آذار 1974، كانت البيشمركة اكتسبت أموراً كثيرة خلال السنوات الأربع التي نص البيان على انها فترة انتقالية تليها مرحلة الحكم الذاتي. وواجه الجيش العراقي للمرة الأولى قوة عسكرية تقترب من الناحية العملية من القوة النظامية، ولم يعد ثمة فارق كبير في نوعية الاسلحة الموجودة لدى الطرفين الا في الطيران. اذ استخدمت قوات البيشمركة الاسلحة الثقيلة بكل انواعها وأشكالها، وتواصلت امداداتها العسكرية من ايران وتضاعفت أعدادها لتصل الى نحو 60 الف مقاتل جرى توزيعهم وفق التشكيلات العسكرية المعروفة، فظهرت الالوية الهيزات والافواج بتاليون والسرايا بل، وأصبحت استراتيجية "الهيزات" قائمة على اساس "مسك" الارض. اي ان اسلوب "اضرب واهرب" تغير الى اسلوب احداث خرق في صفوف القوات المعادية والسيطرة على أراض جديدة. وإزاء ذلك، تحركت الحكومة في ذلك الحين، لقطع الامدادات بقصد خنق البيشمركة وإلحاق الهزيمة بها عبر الاتفاق مع ايران، وهذا ما حصل فعلاً. اذ توصل الطرفان الايرانيوالعراقي إلى اتفاق 1975 أو ما يسمى "اتفاق الجزائر" الذي وقعه صدام حسين وشاه ايران. وقبل ان يجف حبر اتفاق الجزائر، حدث الانهيار الكبير والمفجع في الحركة الكردية، فبدأت "هيزات" البيشمركة بالتسليم تباعاً وفر الملا مصطفى البارزاني ومن معه إلى طهران ومنها إلى اميركا، ليلفظ أنفاسه كمداً وألماً وحرقة، بعدما امضى كل عمره مقاتلاً عنيداً وفارساً قاد البيشمركة. وغابت البيشمركة عن الوجود لسنوات 1975-1978، وبدأ جلال الطالباني ينشط في سورية لملء الفراغ. وكانت العلاقات السورية - العراقية تشهد تدهوراً مريعاً بعد عام الميثاق والتقارب عام 1979 ليبدأ الفراق الدراماتيكي بعد مجزرة المدرسة الحربية التي وجهت الحكومة السورية الاتهام إلى العراق بالمسؤولية عنها. وسرعان ما ظهر على المسرح ادريس البارزاني الذي قتل ليحل محله شقيقه مسعود. ولكن على رغم ذلك، فإن ضعفاً عاماً ظهر في اداء البيشمركة، فعادت من جديد الى الافادة من الاسناد اللوجستي الايراني اثر نشوب الحرب العراقية - الايرانية. بيد انها ظلت في اطار اسلوب "اضرب واهرب" مقدمة الكثير من الضحايا امام جيش قوي وضع في المنطقة الكردية فيلقين: الاول والخامس عدا الفرق والالوية المستقلة. وكان العصر الذهبي للبيشمركة بعد نكستها الاولى في اعقاب اتفاق الجزائر 1975، وبعد احتلال الكويت 1990 وحرب الخليج الثانية 1991 وما لحق بالجيش العراقي من هزيمة نكراء. وعلى رغم ذلك استطاعت فرض هيمنتها وسيطرتها العسكرية على كامل المنطقة الكردية. بيد ان النظام البعثي اضطر الى التخلي عنها عندما أجبر العراق على ايجاد ما سميَ ب"المنطقة الآمنة للعراقيين" ومنها بدأت مرحلة جديدة للبيشمركة شهدت فيها تطورات نوعية لم تصل ذروتها الا بعدما ضغطت اميركا على قياديي الحركة الكردية البارزاني والطالباني لانهاء خلافهما الدموي والدخول في مفاوضات وإزالة كل اسباب العداء. وإزاء ذلك لم يكن من الممكن أن يستمر القتال الشرس بين جناحي البيشمركة. وعلى الاثر انبثقت حكومة في كردستان تضمنت وزارة للبيشمركة تولاها احد اكبر الضباط الاكراد، الفريق بابكر البشدري، الذي يشغل الآن منصب المستشار الاقدم لوزير الدفاع العراقي. وحدثت قفزة كبرى على الصعيد النوعي والكمي في التسعينات من القرن الماضي وبداية القرن الجاري. فعلى صعيد الكم، اصبحت تشكيلات البيشمركة تضم "نشكر" وهي تقابل "فيلق". ويعتقد ان البيشمركة تتكون الآن من ثلاثة "نشكر" يتكون كل منها من اربعة "هيزات" التي اصبحت فرقاً بدلاً من ألوية، فالمجموع يتجاوز 120 الف مقاتل. اما في الجانب النوعي، ففتحت معاهد وكليات عسكرية لتخرج الفنيين والضباط لسد حاجة البيشمركة والشرطة. كما سمح للمرأة بدخول صفوف البيشمركة التي تعتمد اسلوب التطوع. وفي وقت يعترف قادة الحزبين الكرديين بأن البيشمركة ستدمج في الجيش العراقي، الا ان روايات تروج تؤكد ان البيشمركة لن تخرج خارج المنطقة الكردية، وان تشكيلاتها الراهنة لن تتغير.