يستمر صوت أم كلثوم في احتلال الوجدان العربي ولم تطوه أصوات وايقاعات لاحقة، فكأنه في اساس تكوين هذا الوجدان منذ عشرينات القرن الفائت. ولكن، هناك محاولات لرسم مسافة عن صوت كوكب الشرق تسمح بسماعه من بعيد ووعيه باستقلال اساسه التقدير والمحبة. احدث المحاولات عملية لنقل صوت السيدة من ارتجاجات الوجدان الى رصانة "كتاب التاريخ"، تتجلى في احدث المؤلفات وأكثرها مرجعية "أم كلثوم: الأغاني والسيرة الشخصية والفنية"، ثلاثة مجلدات تضم ألف صفحة من القياس الموسوعي في طباعة أنيقة، وفي المجلدين الاول والثاني ثبت بالأغاني وشروح عليها تطاول 90 في المئة من تراث الفنانة الراحلة، وهو ما اتيح جمعه بعد جهد أدى الى العثور على خمس أغان كانت مفقودة، وأغنية سادسة هي "وقفت اودع حبيبي"، نشر المقطع الاول منها عن صوت ملحنها فريد غصن... ويتضمن المجلد الثالث السيرة الشخصية والفنية. ولن ينطوي صوت أم كلثوم الى كتاب التاريخ بسهولة إلا بانطواء مفردات عصر يشكل اطار هذا الصوت: طقس الاستماع والانجذاب، كلام الرومانسية المنساب من دون اعتبار للمكان والزمان، وصوت يبدو جسداً معنوياً ينطلق من جسد مادي، بل ان صوتها يبدو جزءاً من الروح وقد غادر الجسد، وأحياناً كياناً من لحم ودم. وهو اكثر من صوت واحد في تجلياته المختلفة، صوت الانثى وقد غلبتها الرغبة، وصوتها الذاهب الى الرجولة، وصوت الفرد المعزول ما يلبث ان يتحول الى التعبير عن صيغة منتهى الجموع. ومن دون تخطيط مسبق ترسم برامج الهواة في الأقنية الفضائية أفقاً لتجاوز صوت أم كلثوم والاحتفاظ به في آن، وذلك بتقطيع اغانيها الطويلة وأداء كل جزء بطريقة مستقلة، كما فعل المغنون الاوروبيون بالأوبرا فطووا ماضيها وتولوا احياءها بطريقة جديدة. انطلقت فكرة الكتاب الموسوعي من اجتماع عقده مؤلفاه فيكتور سحاب واضع مجلدي الاغاني والياس سحاب السيرة وعبدالله عقيل الناشر وعبدالله الصايغ هاو ومرجع في اعمال أم كلثوم وجورج نحاس مدير مشروع الاصدار - منشورات "موسيقى الشرق" وتوزيع مكتبة بيسان في بيروت. ويعد الناشر عقيل، وهو كويتي، بتنفيذ مشروع متكامل لاحياء التراث الموسيقي العربي بأسلوب ومستوى راقيين، ويعتبر الكتاب الخطوة الاولى على الطريق. سيرة أم كلثوم يربطها الياس سحاب بسير جزئية للكوكبة المحيطة بها من شخصيات داعمة وشعراء وموسيقيين أبو العلا محمد، احمد صبري النجريدي، داود حسني، محمد القصبجي، زكريا احمد، رياض السنباطي، محمد الموجي، كمال الطويل، بليغ حمدي، سيد مكاوي، محمد عبدالوهاب، كما يضع تراث ام كلثوم في سياق النهضة المصرية الحديثة، ويحدد، فنياً، خصائص حنجرتها وأدائها في: الانوثة والذكورة والكلاسيكية، الحدة والليونة، فن الارتجال الغنائي والموسيقي. أما فيكتور سحاب فيثبت كلمات اغاني أم كلثوم بحسب ادائها الصوتي لا بحسب ورودها في دواوين الشعراء ذوي العلاقة، ويرى ان "أحد أهم مسوغات وجود الكتاب ان يقرأه المستمع وهو يستمع الى الاغاني، ليتابع مثلما تابع كاتبه تفصيل الأغاني وتكوينها، وليكتشف مثلما اكتشف الكاتب مواطن العبقرية في التأليف الموسيقي، ومواطن العبقرية في الغناء والتعبير، وكذلك الشعر، وليكتشف مواطن العلاقة بين الشعر واللحن والغناء في التعبير المتكامل". ويقدم فيكتور سحاب ملاحق تشرح مصطلحات عن التأليف الموسيقي والمقامات، كما يضع المقامات والايقاعات المستخدمة على سلم موسيقي في خدمة العازفين المتخصصين. وفي ثبت المؤلف لكل اغنية يورد عنوانها واسمي مؤلفها وملحنها ونوعها مونولوغ، قصيدة، طقطوقة، دور، الخ... وتاريخ صدورها، ومقامها عجم، كورد، راست، الخ... وايقاعها الوحدة الكبيرة، المصمودي الكبير، الخ.... ومدة ادائها، وبحر شعرها إذا كانت بالفصحى. وفي ثبته، مثلاً، لأغنية "انظري" من تأليف أحمد رامي مطلعها: انظري هذي دموع الفرح جالت في عيوني يقول عن الشعر: "يستخدم رامي تجانساً شعرياً عمودياً: انظري، و: اسمعي، و: صارحيني، وكذلك تجانساً شعرياً أفقياً: بادليني بالرضا رضا، و: اسعديني فالقضا قضا". ويقول عن الشكل: "مونولوغ مقيد، لا سيما بإعادة لحن كلمة: انظري، ولازمتها الموسيقية في اول الاغنية، الخ...". ويورد الملاحظات: "في هذا المونولوغ استعرض محمد القصبجي كثيراً من تفكيره المعقد والمركب ومقدرته على صوغ المقامات ... وفي هذه الاغنية لازمة يعزفها القصبجي على عوده منفرداً بعد قولها: فرحان. وهذه نادرة في ألحانه لأم كلثوم، على رغم كونه استاذ العود الأول".