«الاستثمار العالمي»: المستثمرون الدوليون تضاعفوا 10 مرات    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    رئيسة (WAIPA): رؤية 2030 نموذج يحتذى لتحقيق التنمية    سعود بن مشعل يشهد حفل "المساحة الجيولوجية" بمناسبة مرور 25 عامًا    السد والهلال.. «تحدي الكبار»    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    أمطار على مكة وجدة.. «الأرصاد» ل«عكاظ»: تعليق الدراسة من اختصاص «التعليم»    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    إسماعيل رشيد: صوت أصيل يودّع الحياة    من أجل خير البشرية    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    في الشباك    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    قمة مرتقبة تجمع الأهلي والهلال .. في الجولة السادسة من ممتاز الطائرة    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    نائب أمير الشرقية يكرم الفائزين من القطاع الصحي الخاص بجائزة أميز    ألوان الطيف    ضاحية بيروت.. دمار شامل    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    حكايات تُروى لإرث يبقى    جائزة القلم الذهبي تحقق رقماً قياسياً عالمياً بمشاركات من 49 دولة    نقاط شائكة تعصف بهدنة إسرائيل وحزب الله    أهمية قواعد البيانات في البحث الأكاديمي والمعلومات المالية    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    تطوير الموظفين.. دور من ؟    السجن والغرامة ل 6 مواطنين ارتكبوا جريمة احتيالٍ مالي    قصر بعظام الإبل في حوراء أملج    كلنا يا سيادة الرئيس!    القتال على عدة جبهات    معارك أم درمان تفضح صراع الجنرالات    الدكتور ضاري    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    كن مرناً تكسب أكثر    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    صورة العام 2024!    ما قلته وما لم أقله لضيفنا    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    وزير الخارجية يطالب المجتمع الدولي بالتحرك لوقف النار في غزة ولبنان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    أمير الشرقية يستقبل منتسبي «إبصر» ورئيس «ترميم»    الوداد لرعاية الأيتام توقع مذكرة تعاون مع الهيئة العامة للإحصاء    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    الأهل والأقارب أولاً    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محاولة تصنيف للتيارات المتناقضة في خلط الموسيقى العربية وتهجينها
نشر في الحياة يوم 02 - 05 - 2001

يتحرك التأليف الموسيقي العربي المعاصر في تيارات مختلفة، حتى ليختلط الأمر على الكثيرين فلا يعرفون بأي أسلوب وبأي نمط يضعون مؤلفاتهم. هناك من يرى أن التأليف الموسيقي الجادّ يتم عبر التمرس بالقوالب الأوركسترالية مثل السيمفونية والكونشرتو، الباليه والصونات. وهناك من يؤلف سماعياً لآلات التخت العربي، أو يضع تقاسيم. وهناك من لا يعير الأوركسترا أو التخت اهتماماً، وإنما ينقلب نحو الآلات الأوروبية الخفيفة، فيعزف على الغيتار أو الأورغ الكهربائي والآلات الإلكترونية. إننا هنا في صدد وضع تصنيف لتيارات التأليف الموسيقي العربي، ووضع معايير للتفريق بين نوع وآخر.
الواقع أن الحياة الموسيقية العربية المعاصرة إنما تقوم في المدن والعواصم على أربعة تيارات فنية محددة، نرصدها كالآتي:
أولاً: تيار إحياء التراث العربي:
نعني به ذلك النوع من المؤلفات التقليدية التي لا تخرج في استخدامها عن حدود فرقة صغيرة من العازفين لا تتعدى 7 أو 8 عازفين. كفرق الكورال/ سليم سحاب وغيره.
ثانياً: التيار الأوركسترالي:
يدعى "السيمفوني" أىضاً، ويعتمد الفرقة الأوروبية "الأوركسترا السيمفوني"، تلك الفرقة المكونة من عدد ضخم من العازفين. يأتي منتظماً في أربع أسر آلية نفخ خشبي - نفخ نحاسي - ايقاع - وتريات.
ثالثاً: تيار الأغنية العربية المعاصرة:
ذلك النوع من المؤلفات الذي يعتمد على فرقة موسيقية آلية ندعوها "الفرقة المختلطة". أي الفرقة المعتمدة على تزواج عناصر عدة منتزعة من فرق مختلفة.
رابعاً: تيار الأغنية الأوروبية الخفيفة:
هو ذلك النوع من المؤلفات القائم على استيراد نماذج الغناء الأوروبي الخفيف، وإعادة بثها في بلاد أخرى، كالبلاد العربية أو اللاتينية، ومن ثم إضافة اغان بالعربية الى هذه الأغاني الأوروبية، تأتي على نسق الأغنية الأوروبية نفسها. هي فرق تقوم في الآلات الأوروبية الخفيفة كالغيتار والأورغ والساكس والطبول والصنوج الكبيرة.
خامساً: الفرق الموسيقية الشعبية:
من حملة الرباب والأرغول والسمسمية في مصر، والقرب والدفوف في ليبيا، الطنبور والجوزة في العراق.
ولكن، كيف لنا بالتصنيف على هذا النحو؟
هل لنا أن نمسك بالموسيقى العربية الراهنة ونفتتها الى خمسة لا غير - بالتحديد خمسة انواع - ثم ندعي صحة ذلك ودقته؟ الحقيقة أن لدينا فعلاً خمسة انواع من المؤلفات، تضم خمسة انواع من "الجمهور". ونسوق الآن الأسس التي استندنا إليها في ذلك التصنيف:
إن قاعدة الغناء والعزف والدراسة، بل التأليف الموسيقي ذاته، هي الآلات الموسيقية. إنها القاعدة المادية التكنيكية للنشاط الموسيقي في مجمله. هي بمثابة الماكينات للمصانع. أو الاستوديو لفن السينما، أو الفرشاة والألوان للرسام. واذا كان النظر الى الماكينات في أحد المصانع يكفي عادة لمعرفة نشاط هذا المصنع ومنتجاته، فالأمر نفسه مع الآلات الموسيقية، التي تفصح بمجرد النظر إليها عن نوع الألحان التي تصدر.
بل إن الآلات هي معيار المقياس الأول، فكل آلة موسيقية إنما تقوم أساساً على مقاييس رياضية - حسابية دقيقة. بل تصنع الآلات الموسيقية وفقاً لتلك المقاييس التي تتضمن نغمات وأبعاد سلم موسيقي محدد، وبالتالي فكل آلة موسيقية تحتوي على ألحان محددة وتصلح لشعب بعينه دون الآخر.
هناك آلات موسيقية مقامية كآلات العرب وإيران والهند.
وهناك آلات موسيقية سلمية "ماجور/ مينور" كالبيانو تختلف تماماً في كل أبعادها عن آلات العرب. وهناك آلات موسيقية خماسية "بينتاتونيكية" كآلات القبائل البدائية وآلات افريقيا السمراء مثل "الاكسليفون الخشبي القديم"، إن الآلات الموسيقية تحمل على صدرها الكشوف الرياضية والمعايير الحسابية التي تضبط الأنغام المستخدمة كلها.
الآلات الموسيقية هي حقاً معيار القياس الأول وهي القاعدة المادية التي تنطلق منها الألحان، لذلك ينبغي ان نقر أن كل تصنيف للأنواع الموسيقية أو التيارات الموسيقية الكبرى ينبغي أن يأتي وفقاً لنوع الآلات الموسيقية المستخدمة في هذا النوع أو ذاك.
بناء عليه فإننا لو أردنا أن نختار اسماً لنطلقه على أعمال التراث العربي من موشحات وأدوار وقصائد، فإننا نصيب أكبر قدر من الدقة لو اتجهنا صوب الآلات المستخدمة من عود وقانون وناي واخترنا اسماً فيه ذكر لتلك الآلات مثل: موسيقى آلات التخت، بمعنى موسيقى "التراث العربي". وقياساً على ذلك فإن أصلح ما يمكن إطلاقه على الموسيقى السيمفونية هو اسم "الموسيقى الأوركسترالية"، إذ إن هذا النوع يعتمد على آلات الأوركسترا السيمفوني.
والآلات الموسيقية ليست هي القاعدة المادية فحسب، وإنما هي أدوات العمل الموسيقي أيضاً. لذا يصح أن نقول "إن ارتقاء الموسيقى في أحد الأقطار يمضي بالضرورة وفقاً لمستوى تطور الآلات الموسيقية". ولا يخفى على أهل الصناعة الموسيقية أن الخبرة الفنية تتوافر للفنان بقدر تمكنه من إحدى الآلات الموسيقية. وليس لمؤلف أو منشد أن يبرع إلا عبر آلة محددة. فالعازف الماهر هو الصانع والمنتج الموسيقي الأول، سواء في عزفه مؤلفاً أو موزعاً أو مصاحباً للغناء. والحقيقة أن تمكن فنان مثل سيد درويش من آلة العود كان الأساس المادي لظهور مواهبه ونمائها. أضف الى ذلك أن الآلات الموسيقية شأن الماكينات الصناعية تقوم بأعمال تعجز عنها أصابع الإنسان، وهي تؤدي ألحاناً لا يقوى عليها صوت المنشد. فالآلات أقدر على الحركة النشيطة وإنجاز التطور اللحني بسرعة، وتتضمن من النغمات عدداً أكبر بكثير مما لصوت الإنسان. إننا نؤمن أيضاً بأن معلم الموسيقى يصبح ناجحاً بقدر اقترابه وتمكنه من آلة موسيقية، والعكس صحيح. ونتساءل:
ألا يجب اعتماد الآلات أساساً لتصنيف التيارات الموسيقية الكبرى، أينما وجدت؟
الواضح إن لكل تيار موسيقي قاعدة آلية خاصة. لكل تيار قاعدته التي لو تغيرت انقلب فيه كل شيء. والآلات الموسيقية في الواقع لا تتغير إلا بصعوبة بالغة، بل إنها لا تتطور إلا ببطء يثير الدهشة، خصوصاً في البلاد العربية اخيراً.
على سبيل المثال: العود العربي الآني كان ولا يزال محوراً للموسيقى والغناء الليريكي "العاطفي" عند العرب منذ حوالى ألف عام. وآلة الرباب فاقته زمناً، وعمر المزمار ربما تجاوز في مصر الألف الرابعة من الأعوام.المزمار آلة فرعونية.
وبديهي أن القواعد لا تتحرك بسهولة وإلا لانتفى الاستقرار. بينما تتجدد العناصر الموسيقية الأخرى كاللحن والإيقاع بسرعة نسبياً.
هناك إذاً خمس قواعد لخمسة تيارات نرصدها كالآتي:
1- آلات الأوركسترا السيمفوني:
تسربت الى البلدان العربية بعد الحملة الفرنسية على مصر نهاية القرن الثامن عشر، بفعل فرق الأوركسترا الأوروبية الوافدة. وراحت تتشكل فرق أوركسترالية مصرية وعربية بعد مرور أكثر من قرن وربع القرن من الزمان.
2- آلات الفرقة العربية "المختلطة":
وهي الفرقة الراهنة التي بدأت تتشكل في بداية القرن الحالي باختلاط تشكيلة التخت القديمة مع عناصر من الأوركسترا السيمفوني كالفيولين والتشللو. لقد كان التخت الكلاسيكي الخماسي عود، قانون، ناي، دف، طبل أو ما شابهه، مضافاً إليها آلة وترية قوسية يعاني أزمة واضحة في مطلع القرن العشرين، فراح جيل محمد القصبجي ثم محمد عبدالوهاب يدفع إليه بدماء جديدة... من الأوركسترا تارة ومن الفرقة الأوروبية الخفيفة الباند تارة أخرى. لذلك أصبحت الفرقة مختلطة، وهي تلك الفرقة التي صاحبت أغنية القرن العشرين منذ مطلعه.
3- فرقة التخت:
وهي الفرقة العربية الكلاسيكية عود، قانون، ناي، دف أو طبل، ثم أضيف الكمان في نهاية القرن التاسع عشر. وظل التخت قاعدة للنهضة الموسيقية المصرية على امتداد القرن التاسع عشر والربع الأول للعشرين الشيخ المسلوب، محمد عثمان، عبده الحامولي، سلامة حجازي الى أن جاء جيل الأربعة الكبار سيد درويش وزملاؤه من رجال المسرح الغنائي فأحدث مسرحهم هزة في كيان الآلات الوطنية - أي التخت. وأبرز أمثلة على ذلك استخدام سيد درويش نفسه للأوركسترا السيمفوني الأجنبي بقيادة المايسترو الإيطالي كاسيو، وذلك من أجل تقديم "العشرة الطيبة"، "الباروكة"، "شهرزاد". لقد أزاح سيد درويش التخت من أعماله الكبيرة.
وعلى رغم أن رجال المسرح الأربعة سيد درويش، كامل الخلعي، داود حسني، زكريا احمد كانوا يرجعون الى التخت عندما تدفعهم الأغاني، الصغيرة والظروف المادية الى ارتياد المقاهي ودور الأغنياء حيث يقدمون أشكال الأغنية الكلاسيكية من دور وطقطوقة، إلا أن ثورتهم العفوية على التخت في المسرح كانت بعيدة المدى حقاً، إذ بدأ التخت الكلاسيكي الاختلاط بغيره من الآلات بمزيد من السرعة، ما أفضى الى نشأة الفرقة المختلطة تدريجاً. والحقيقة أن التخت لم يتوقف عند حد في اختلاطه، فقد أصبحت فرق اليوم تصطف على المسرح بعشرات من الآلات الأوروبية - وراء المغني، من دون أن نلحظ آلة القانون وسطها!!
وأخذت الفرق المختلطة "المتورمة" في الاكتفاء بآلة واحدة اثنتان في ما ندر من آلات التخت العربي، فتراها تأخذ الناي لتزرعه وسط أعداد كبيرة من التشللو والكونتراباص والأورغ الكهربائي والساكسفون من آلات أوروبا. أما التخت الخماسي العربي فانسحب الى زوايا إحياء التراث مثل كورال سليم سحاب وسامي نصير من فرق إحياء التراث. ويبدو أن تيار إحياء التراث الذي بدأ بجهود الراحل عبدالحليم نويرة وإنشاء فرقة الموسيقى العربية في تشرين الثاني نوفمبر 1967 هو الذي أنقذ التخت الخماسي بتركيبه القديم... من الاختفاء.
4- آلات الفرقة الأوروبية الخفية الباند:
تتشكل من الغيتارات الثلاثة: التينور - الباص الإيقاعي مع الأورغ وطاقم الإيقاع. وقد تضاف آلة كالساكسفون أو البيانو. وتظهر أولى الفرق العربية المقلدة لأوروبا من هذا النوع في حوالى العام 1940 في القاهرة وبيروت ودمشق. أما الآن... فلا يكاد يخلو منها بلد عربي.
5- آلات الفرق الشعبية:
تختلف قليلاً من بلد عربي لآخر. اما القواعد الآلية الأربع الأخرى فهي واحدة تقريباً في كل أقطارنا، باستثناء بعض الفروق في تكوين فرق التخت. وبديهي أن الفرق الشعبية تسكن الريف دون الفرق الأخرى. تسكن الريف وحدها.
خمس قواعد آلية موسيقية: لكل منها برنامجه الفني وقوالبه المتميزة النابعة منها. خمس قواعد يمضي وفقاً لها التأليف الموسيقي العربي في مجمله. ويتحدد مصير المؤلف الموسيقي فور اختياره الآلة الموسيقية المعنية. فإذا اختار المؤلف آلة البيانو لمؤلفاته، لا يمكنه ان يمارس الفن الشعبي، وإذا اختار العود لممارسة التأليف أصبحت هناك صعوبات جمة في التوجه للأوركسترا السيمفوني واستيعاب علوم الأوركسترا من هارموني وتوزيع. فالسيمفونية والأوبرا للأوركسترا السيمفوني، ولا يستطيع التخت حيالهما شيئاً. الروك والفوكس للباند الأوروبي. الموشح والدور للتخت. النشيد والمونولوغ والقصائد للفرق المختلطة. الملاحم والمواويل القصصية والسير الشعبية كسيرة عنترة وأبو زيد والزناتي للفرق الشعبية وحدها. هي خمس قواعد وخمسة أنماط من التأليف والقوالب، وخمسة اشكال من الشعر والنثر... يتشكل منها الوجدان الموسيقي العربي.
والمؤكد أن الفروق بينهما كثيرة وفاصلة، بل عازلة أحياناً، فقد لا يلتقي مؤلف العود مع مؤلف الغيتار، وقد لا يحدث بينهما تماس أبداً.
والتقسيم هنا الى خمس لا ينبغي ان يوحي بأن التيارات الخمسة متساوية في تأثيرها، أو أن لكل منها الأهمية نفسها كأداة للتطور، فالحقيقة أن حياتنا الموسيقية إنما ترتبط أساساً بقاعدتين - هما الأكثر انتشاراً: الفرق الشعبية في الريف، الفرق المختلطة في المدينة. أما تشكيل كالفرقة الخفية الباند فلا يمكن أن تكون له الأهمية نفسها، فذلك النوع من الآلات إنما يحيا سجين فنادق عدة وصالات عدة في قلب المدينة، ولا شك في أن آلات "الباند" من أورغ وغيتار وغيرها هي أدوات الأغنية الأوروبية "الراقصة".
وبعد أن وصلنا الى تصنيف لتيارات التأليف الموسيقي العربي، يقوم على أساس من القواعد الآلية التكنيكية، يبقى أمامنا موضوع أخير نناقشه، وهو: مسألة خلط الآلات الموسيقية، تلك القضية التي أثارت كثرة من الأسئلة، مثال: لماذا يأخذ محمد عبدالوهاب آلة ك"الماندولين" لمصاحبة غنائه؟... ما معنى وجود آلة "الأورغ" في غناء عبدالحليم حافظ وكيف أخذوا "المزمار" من الفرق الشعبية اليومية؟ إنهم لم يتركوا قاعدة آلية موسيقية إلا استعاروا منها!!
الحقيقة أن لاستعارة الآلات الموسيقية عندنا قصة طويلة، تبدأ - ربما - من أيام "سيد درويش" عندما أدخل الشيخ سيد "البيانو" في بعض أغانيه حوالى عام 1920، وتلاه وتوسع فيه محمد عبدالوهاب، عندما أضاف "التشللو" و"الكونتراباص" الى التخت في أنشودته في الليل لما خلي. ولنا أن نتصور مقدار الدهشة التي أثارها "الكونتراباص" بحجمه الضخم في ذلك الوقت المبكر العام 1932. لقد عزف محمد عبدالوهاب بنفسه على آلة الأورغ في لا، مش أنا اللي أبكي العام 1959، عندما لم يجد عازفاً مجيداً للأورغ. وظهر الأكورديون للمرة الأولى في أغانينا العام 1932 في مرّيت على بيت الحبايب، ولم يتردد عبدالوهاب في استعارة آلة البالالايكا من الفرقة الشعبية الروسية الى جانب الماندولين الشعبية الأوروبية في عاشق الروح في فيلم غزل البنات العام 1948... وهكذا، الى أن شاع مبدأ إضافة آلة جديدة الى التخت. وتأكد الخلط مع فناني الجيل الثاني للأغنية الليريكية المصرية: كمال الطويل، محمد الموجي، محمود الشريف، بليغ حمدي. وأصبح وجود الساكسفون وآلات النفخ النحاسية والكلارينيت الى جانب العود والقانون أمراً مألوفاً تماماً.
لا شك في أن تراكم الجهود يحملنا على التفكير ملياً في موضوع "الخلط الآلي" هذا، لا سيما أنه مسلك يميز الفرقة العربية المختلطة بالذات وليس للأوركسترا السيمفوني علاقة بهذا السلوك، ولا للفرق الشعبية أينما كانت. بديهي أن الخلط الآلي أمر لا يعرف الاستقرار، ولا بد أن يكون إجراء موقتاً وتجريبياً، والحقيقة أن الخلط بصفة مستمرة أمر مليء بالتناقضات، فالآلات الموسيقية لا تنفصل عن ألحانها وبيئتها الخاصة، ولا يمكن استعارة آلة كالمزمار من دون الأخذ بشيء من ألحانها، الألحان، التي صنعت الآلة من أجلها يتم وضع مقاييس صناعة الآلة الموسيقية وفقاً للأنغام التي ينبغي ان تصدر منها، هل للرباب ان يصدح ولا نسمع صدى السيرة الهلالية، أو الزناتية؟ كما ان سلخ آلة كالغيتار من فرقة الباند لا يمكن أن يتم إلا بسلخ اجزاء لحنية من الأغنية الأوروبية، وإن جاء ذلك بشكل ملتو وغير مباشر... أو جاء من دون وعي أو قصد.
لا نسعى هنا الى إدانة مبدأ الخلط، وإنما فتح باب النقاش فحسب، فقد يكون التهجين عنصراً ضرورياً للموسيقى العربية المعاصرة، وقد يشير - على العكس من ذلك - الى ارتباك وتوتر في التأليف الموسيقي!!
وما نستطيع ان نؤكده هنا فحسب، أن الخلط او اقتطاع آلة موسيقية من تشكيل آلي مترابط وضمها الى تشكيل آخر يؤدي الى اختلاط المضامين الموسيقية ذاتها. يؤدي الى خلط الأنغام بل المقامات والسلالم والإيقاعات أيضاً. ليس هناك أدنى شك في أن تحريك آلة موسيقية من موضعها يؤدي الى تحريك البناء الموسيقي كله، فالآلة هي قاعدة مادية لأي تأليف موسيقي، وهل احتاج المضمون الفني للموسيقى العربية لكل هذا التبدل؟
وأغرب ما يمكن ملاحظته في هذا الصدد، أن إجراءات الخلط لم تكن تجري بشكل منتظم أو ثابت، فكان من الممكن أن ترى غيتاراً في أنشودة ما، ثم لا تراه في عرض آخر للأنشودة نفسها!! هذا الخلط العشوائي صاحب الموسيقى العربية المعاصرة بفضل كبار أعلامها امثال محمد عبدالوهاب ورياض السنباطي وغيرهما... فهل للتطور الموسيقي أن يمضي على أساس آلي متردد؟! ما علة هذا التناقض؟ هل نقف أمام التطور غير المتجانس حتى في الموسيقى العربية؟ لماذا يطبع ذلك موسيقى الشرق بوجه خاص؟ إذ تحدث أوضاع مشابهة في الأغنية الهندية المعاصرة، وفي تركيا حيث تختلط آلاتهم الوطنية الداخلية بآلات الأوركسترا السيمفوني، ضمن الوصلة الغنائية التركية - المسماة فاصل - Fasil.
أيكون السبب في الخلط هو قدم الآلات الوطنية العربية من عود وقانون وناي، ووقوفنا في عجز أمام متطلبات تطورها؟ أم أنه احتياج لأدوات اخرى لم تتوافر في واقع الصناعة المحلية... بما يشير الى أن مستوى الصناعات الوطنية له ضلع من المسؤولية في ذلك؟
وفي النهاية، إن الخلط بين القواعد الآلية الموسيقية - باستعارة آلات من اوركسترا للتخت، أو من باند للتخت - وأياً كان هذا الخلط، فهو لا ينفي صحة تصنيفنا لأنواع التأليف وفقاً لأنواع التشكيلات الآلية القائمة.
* كاتب مصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.