"قلت خلال حملتي للانتخابات الرئاسية انني سأجلب المسيحيين واليهود فقط الى ادارتي. وتحداني الاعلام: ماذا تعني؟ لن تأتي بالملحدين الى الادارة وكيف تجرؤ على القول ان اولئك المؤمنين بالمبادئ المسيحية - اليهودية اكثر كفاية من الهندوس والمسلمين. جوابي الى هؤلاء ببساطة هو: نعم انهم كذلك". ليس هذا كلام شخص متعصب لا يتمتع بشعبية في الولاياتالمتحدة، بل كلام ماريون غوردون روبرتسون مؤسس وزعيم "التحالف المسيحي"، احدى ركائز اليمين المسيحي المحافظ الذي بات يمثل 18 في المئة من القوة الناخبة في البلاد. لا يقتصر نشاط اليمين الاميركي على المسيحيين المحافظين، بل يتعداه ليشمل كتاباً ومراكز أبحاث ورجال اعمال معادين للضرائب التي يفرضها الديموقراطيون كلما دخلوا البيت الابيض. وشكلت اعتداءات 11 ايلول سبتمبر 2001 دفعة جديدة لهذه القوى التي طالما حذرت من خطر "الاسلام الاصولي". أسس روبرتسون المعروف ب"بات" "الائتلاف المسيحي" عام 1989 إثر فشله في الانتخابات الرئاسية عام 1988 في مواجهة الرئيس السابق جورج بوش الأب. ووضعت هذه الخطوة اطاراً منظماً للتيار المسيحي المحافظ الذي لعب دوراً اساسياً في رسم بعض سياسات ادارة الرئيس السابق رونالد ريغان، خصوصاً في ما يتعلق بحقوق الاجهاض وصناعة الافلام الاباحية. وأحد اهم اهداف هذا التنظيم وأولوياته دعم دولة اسرائيل ومنع قيام دولة فلسطينية في اي شكل من الأشكال. ويقف وراء هذا الدعم ايمان توراتي بأن اقامة دولة لليهود في فلسطين ستسفر عن قدوم المسيح المنتظر الذي يتولى لاحقاً حملة ضدهم لدفعهم الى اعتناق المسيحية! وعلى رغم النيات غير السليمة لهذا الدعم، الا ان الجزء الأخير لا يصب في دائرة اهتمام الدولة العبرية التي تعتبر هذا التيار حليفاً رئيساً في الساحة الاميركية، يفوق اهمية وعدداً اليهود الاميركيين، ويعزز كراهية المسلمين والاسلام في صفوف مسيحيي الولاياتالمتحدة. وتقول روبرتا كومبز احدى قياديي الائتلاف: "المسلمون يكرهوننا لأن دينهم يأمرهم بذلك. الحرب الارهابية على اسرائيل نتيجة مباشرة للتحريض"، داعية "المسيحيين واليهود الى الاتحاد للدفاع عن انفسهم". ولا يقتصر استغلال الدين على الحض على كراهية المسلمين بل يشمل انكاراً لحقوق الفلسطينيين ولوجودهم. ويستخدم روبرتسون في خطبه عادة قصتي "جوشوا وديفيد" التوراتيتين للاستدلال الى ان القدس "كانت ملكاً لليهود قبل ان يسمع أحد بالاسلام". ويشكل اليمين المسيحي العصب الاساس لدعم اليمين الاسرائيلي في الولاياتالمتحدة حيث تفوق درجة الحضور الاسبوعي يوم الأحد في الكنائس 20 مرة تلك الموجودة في بريطانيا 2 في المئة في مقابل 40 في المئة من السكان. كما يفوق تطرف هذه الفئة لمصلحة اسرائيل قدرة الأخيرة على تلبية رغباتهم الجامحة في قتل الفلسطينيين واغتصاب حقوقهم. فعندما طالب الرئيس جورج بوش اسرائيل بإخراج دباباتها من الضفة الغربية في نيسان ابريل عام 2002، تلقى البيت الابيض اكثر من مئة الف رسالة غاضبة من انصار اليمين المسيحي. وتعرض "الائتلاف المسيحي" لانتكاسة بعد انسحاب رالف ريد احد زعمائه الذي قاد التنظيم الى ذروة القوة في مطلع التسعينات نحو مليوني عضو ناشط، ومع تعرضه لضغوط سلطات الضرائب التي شككت في كونه منظمة دينية خيرية. لكن التيار المسيحي اليميني لا يزال يتمتع بقوته الشعبية، فيما يتواصل التحريض على المسلمين على لسان زعمائه مثل رئيس "الغالبية الاخلاقية" جيري فالويل. كتاب اليمين دانيال بايبس كاتب العامود في صحيفة "نيويورك بوست" الشعبية والمدافع دائماً عن اسرائيل هو احد الذين حذروا من خطر "الاسلام الاصولي"، وحصد انذاره المبكر، بتعيينه عضواً في مجلس امناء معهد الولاياتالمتحدة للسلام التابع لوزارة الخارجية الاميركية، ما لاقى معارضة واسعة في صفوف الاميركيين العرب، خصوصاً انه من المعارضين لجميع اتفاقات السلام الموقعة مع الجانب الفلسطيني. ويعدد بايبس في حديث الى "الحياة" المؤشرات التي حدت به الى التحذير من هذا الخطر، بدءاً بالثورة الاسلامية في ايران ومروراً باغتيال السادات وب"احداث العنف التي بدأ يشهدها العالم بعد ذلك". وبايبس من الاصوات النادرة المطالبة بمراقبة المساجد واستهداف المسلمين بالسياسات الامنية دون غيرهم في الولاياتالمتحدة، لأن "من المستحيل تقريباً ان يكون المؤيد للاسلام الراديكالي من غير المسلمين ... لا يمكننا ان نبحث عن مرتكبي جرائم الاغتصاب بين النساء! ولهذا سيكون من غير المجدي ان نبحث عن الاصوليين في صفوف غير المسلمين". وعلى رغم ما قد ينشئه ذلك من حساسية "يتفهمها" بايبس، يرى الاخير ان "من المهم بالنسبة اليّ الا استقل طائرة وأنا اشعر بعدم الامان". ولا يقتصر "أذى" الاسلام الراديكالي على الجانب الامني، بالنسبة الى بايبس، بل يتعداه ليشمل "استهداف العهد الذهبي لليهود الاميركيين"، والذي يتجه نحو الزوال بسبب "صعود الاسلام الاصولي والاجندة الراديكالية الفلسطينية" التي يُصنف الكاتب الراحل ادوارد سعيد من بين عرابيها! ولعل الجانب الاكثر راديكالية في فكر بايبس وأمثاله يكمن في نظرتهم الى تسوية القضية الفلسطينية، اذ يرفض رفضاً تاماً فكرة دولة فلسطينية "على الاقل في العقد او العقدين المقبلين"، ويطالب بدلاً منها ب"هزيمة شاملة" تضع الفلسطينيين امام واقع جديد يسهل فكرة قبولهم بدولة اسرائيل اليهودية. فالادارة الاميركية "أخطأت" عندما اعتبرت ان هناك قبولاً فلسطينياً لدولة اسرائيل، كما ان اعلان الجزائر عام 1988 "غير مقبول" و"أي عمل يسهم في اقناع الفلسطينيين بهذه الدولة مقبول"، بحسب بايبس الذي تعلم العربية في مصر وصنفته صحيفة "وول ستريت جورنال" الواسعة الانتشار ب"معلق معترف به في شؤون الشرق الاوسط". وهذا الانحياز التام للدولة العبرية، يبرره بايبس اميركياً بأن "اسرائيل دولة ديموقراطية، وعندما تكون مثل هذه الدولة في حرب مع أخرى غير ديموقراطية، اتعاطف معها. قد يرتكب افراد اخطاء، لكن نداءات او جهود الديموقراطية هي التي اتفق معها". ويعتبر العراق احد محاور اهتمام اليمين الاميركي، فبايبس مثلاً يطالب بتعيين ديكتاتور ذي "اهواء ديموقراطية" لحكم العراق، تحسباً لانتخابات ستفرز حتماً قيادة معادية للاحتلال الاميركي وطبعاً للدولة العبرية. وتعتبر مراكز الابحاث بمثابة حلقة وصل بين بعض جماعات المصالح والادارة الاميركية، فهذه المعاهد تتولى صنع او رسم السياسات الملائمة لهذه الجماعات. "ذي اميركان انتربرايز" ومعهد واشنطن لسياسات الشرق الادنى يعتبران من اكثر المعاهد تطرفاً لجهة انحيازهما المطلق لاسرائيل. استقبلت "اميركان انتربرايز" الشهر الماضي مجموعة من الصحافيين العرب من بينهم "الحياة"، وذلك في ندوة لثلاثة من صقور المعهد هم: مايكل روبين ورويل مارك غيريخت ومايكل ليدين الصهيوني الملقب ب"مؤشر تغيير الانظمة" للمحافظين الجدد في الادارة الاميركية. وبعدما ألقى المتحدثون الصقور بأفكارهم المؤيدة لاغتيال القادة الفلسطينيين وتغيير الأنظمة في الشرق الاوسط، وصف غيريخت المحلل السابق في وكالة الاستخبارات المركزية سي آي اي الحياة السياسية في مصر ب"المسمومة" وب"مصدر للارهاب" في المنطقة. ورداً على سؤال ل"الحياة" عن شكوك بعض الليبيراليين العرب في نيات الولاياتالمتحدة في اصلاح المنطقة، اجاب ورويل ان "الليبيراليين مثلكم ليسوا نواة للتغيير، بل الاخوان المسلمون هم هذه النواة"، مشيراً الى "بغضهم" للنظام المصري. ويرى مراقبون عرب وأميركيون ان هذا الموقف يعبر عن رغبة هؤلاء المفكرين في ضرب الاستقرار في العالم العربي، الامر الذي يصب في غالبية الأحيان في مصلحة اسرائيل، قبلة هؤلاء الصقور المؤثرين في صنع سياسة الادارة الاميركية في الشرق الاوسط. ويقول ليدين في مقالة نشرتها "ناشيونال ريفيو اون لاين" إن "التدمير الخلاق هو اسمنا الوسط. ننفذه اوتوماتيكياً...آن الأوان مرة أخرى لنصدر الثورة الديموقراطية". وهذا "التدمير الخلاق"، بالنسبة الى ليدين، يأتي لأن "وقت الديبلوماسية شارف على الانتهاء. انه الوقت لإيران حرة وسورية حرة ولبنان حر". معهد "واشنطن لسياسات الشرق الادنى" يعتبر "اليد السياسية للوبي الصهيوني في الكونغرس الاميركي الذي أسسه ورعاه ليروج للمصالح الاسرائيلية" في اطار اوسع ومناسب للترويج اميركياً، اي "السياسة الاكثر ملاءمة للولايات المتحدة"، كما يؤكد اكاديمي عربي مقيم في واشنطن. الى جانب الدراسات والابحاث التي يصدرها هذا المعهد، ينتشر أعضاؤه كالجيش المنظم في وسائل الاعلام والجامعات الاميركية، لإبداء الرأي والقاء المحاضرات بصفتهم "خبراء" في شؤون الشرق الأوسط. احدى هذه المحاضرات في جامعة كولومبيا في نيويورك، كانت تحت عنوان "حزب الله: هل يمكن ان تصبح تنظيمات اسلامية ارهابية ديموقراطية؟" ألقاها "خبير" المعهد في شؤون لبنان آفي جوريش. المحاضرة مجموعة معلومات مغلوطة يلقيها "الخبير" المزعوم بتلاوة رواية عن تأسيس تنظيم حزب الله، لا يأتي فيها اطلاقاً على ذكر الاحتلال الاسرائيلي. "في عام 1982، انفصلت مجموعة عناصر عن حركة امل الشيعية، وأطلقت على نفسها تسمية حركة امل الاسلامية، ثم تحولت هذه المنظمة لاحقاً في العام ذاته الى حزب الله"، يقول جوريش بلغة انكليزية يطعمها أحياناً بلهجة عبرية. يذكر ان "حركة امل الاسلامية" بقيت موجودة ردحاً من الزمن الى ان انضم رئيسها حسين الموسوي وما تبقى من عناصرها الى "حزب الله" العام الماضي. ويتابع كلامه بلهجة مستمدة من افلام العنف الهوليوودية، يحاول من خلالها اظهار خطر هذا التنظيم: "لحزب الله الارهابي خمسة اهداف. ما هي؟ اولاً اقامة دولة اسلامية في لبنان. وثانياً اخراج اسرائيل من لبنان. وثالثاً تدمير دولة اسرائيل ونشر الفكر الاصولي في العالم. وماذا بعد؟". ويعود المتحدث المتحمس ليؤكد مبتسماً: "نسيتم الهدف الأهم: من هو العدو الأساس للاسلام الايراني؟"، ثم يجيب بنفسه: "انها اميركا لما تمثله من مُثُل". ويعيد جوريش صوغ هذا "الهدف" للتشديد على أهميته: "لو دمر حزب الله اسرائيل لا سمح الله. هل سيكتفي؟ طبعاً لا فأميركا هي الهدف الأساس وسيركزون جهودهم لتدميرها". ويبدأ الحاضرون بالنقاش في ما بينهم، يقول احدهم: "جميع العرب يريدون تدمير اسرائيل" ويهمس آخر: "انهم عنصريون"، فيما يقترح طالب "تفجير حسن نصر الله" زعيم "حزب الله". لكن جوريش يجلس مرتاحاً لابلاغه الرسالة، ويعطي الكلام للمنظم أرييل بيري الناشط في "مؤسسة الدفاع عن الديموقراطية اسرائيل في الشرق الاوسط" والذي يقول بدوره: "شكراً لحضوركم، فهذا ما لا نسمعه في صفوف كولومبيا". ويتابع: "رجاء تفضلوا لحضور محاضرة الاسبوع المقبل بعنوان: بيع البشر في السودان"! "عنصريون" و"بائعو بشر" صفتان عربيتان لا يتعلمهما فقط طلاب في كولومبيا بل شريحة واسعة من الاميركيين، استأثر بها اصحاب خبرات مزيفة وموجهة في خدمة الدولة العبرية، او بكلمات بيري: "في خدمة نشر الديموقراطية في الشرق الاوسط"!