تنتشر مسلمات قوية في التفكير العربي حول أوروبا. ويعود انتشارها ورسوخها في اللاوعي العربي الى ماضٍ بعيد والى تجارب حديثة. هذه المسلمات تحتاج الى تغيير أو تعديل. وذلك عبر البدء بتعريف المسلمات بعد اختبار مدى تناسبها مع الواقع الأوروبي الحالي، وقياس ردود الفعل الأوروبية الرسمية والشعبية تجاه القضية الفلسطينية عموماً والانتفاضة بوجه خاص. أولاً: الماضي والدين. أ - يرى العرب أن اليهود يسيطرون على أوروبا وعلى الغرب عموماً. وبالتالي يلعبون دوراً في كبح المواقف الدولية الايجابية من قضايا العرب وفي اتخاذ مواقف ايجابية دائمة من إسرائيل. ويعتقد العرب بحق ان أوروبا تعتبر ان جذرها الحضاري يهودي مسيحي، وهذا الجذر لا يتيح لها اتخاذ مواقف مناهضة لسياسات الدولة العبرية. ب - ويرى العرب أن أوروبا كانت في أساس إنشاء دولة إسرائيل. فوعد بلفور صدر من بريطانيا، ومن فرنسا تزودت إسرائيل بالمفاعل النووي. ومن المانيا النازية جاءت حجة المحرقة. ومن بعد التعويضات الضخمة التي ساهمت في ترسيخ اقدام الدولة العبرية عبر الاستيطان وبناء ترسانات الأسلحة. وأخيراً تعتبر أوروبا أن إسرائيل قاعدتها الديموقراطية المتقدمة في الشرق الأوسط. ج - يرى العرب أن أوروبا مسؤولة عن الحروب الصليبية وتواصل اليوم العداء للاسلام والمسلمين. ويرون انها تسعى اليوم الى قلة انبثاق اقتصاد عربي تام، فهي ساهمت بتدمير العراق المصنع. وتساهم اليوم في الافادة من الحصار المضروب عليه. وستفيد غداً من مشاريع اعادة اعماره. كما انها لا تحترم قيمها وفي طليعتها المبادئ الديموقراطية. والدليل: انتخابات الجزائر عام 1991، ومنع الجبهة الاسلامية للانقاذ من تولي السلطة، وإلغاء نتائج الانتخابات بطلب وبمباركة أوروبيين. ويعتقد العرب من جهة ثانية أن أوروبا ضعيفة سياسياً ولا يمكن الاعتماد عليها. فهي لا تستطيع الوقوف في مواجهة الولاياتالمتحدة في الظروف الحرجة، ولا تنفذ تعهداتها إذا تعارضت مع رغبة واشنطن. والدليل: نداء برلين الذي أصدره الاتحاد الأوروبي للاعتراف بالدولة الفلسطينية فور الاعلان عنها، ومن ثم تراجع أوروبا عن تنفيذ هذا النداء بعد تدخلٍ أميركي. يمكن القول باختصار شديد ان صورة أوروبا في تفكير الرأي العام العربي، شديدة السلبية وتكاد ان تكون مطابقة لصورة الولاياتالمتحدة الأميركية. فهل يُرجى شيء من أوروبا لمصلحة العرب وتأييد انتفاضتهم؟ الاجابة تستدعي اختبار صحة المسلمات المذكورة ودقتها. ثانياً: محاولة نقدية أولية. أ- تنطوي النظرة العربية لأوروبا على الكثير من المبالغة، وخصوصاً في قضية سيطرة اليهود عليها. فهم لا يسيطرون على هذه القارة. وان أرادوا ذلك فأحجامهم الديموغرافية والاقتصادية والسياسية لا تكفي لتحقيق الهدف. أضف الى ذلك وجود عوائق تاريخية منها النظرة المسيحية التقليدية الى اليهود ودورهم في مناهضة المسيح والمسيحية. غير ان الجاليات والطوائف اليهودية نافذة الى حدٍ كبير وتسيطر على مساحاتٍ ضخمة في الحياة العامة الأوروبية، واذا كان نفوذ هذه الجاليات متفاوتاً في أهميته بين بلدان القارة، فإنها تظل قادرة على تأطير وتنظيم التأييد الأوروبي لإسرائيل، إذا اجتمعت اسباب كافية لنشوء سياسات مناهضة للعرب. لكن الجاليات نفسها لا تستطيع ان تقلب الوقائع الأوروبية رأساً على عقب ولا تستطيع حمل دول القارة على انتهاج سياسات متناقضة مع مصالحها وقيمها. ونلاحظ اليوم أن هذه الجاليات لم تتمكن من حمل الرأي العام الأوروبي على التنكر للضحايا الفلسطينيين وتأييد الجلاد الإسرائيلي ما يعني ان اليهود نافذون في أوروبا لكنهم لا يسيطرون عليها، وأن النظرة التبسيطية العربية الى اليهود وهيمنتهم على أوروبا مضرة بالمصالح العربية، وتعيق تدخل العرب ومهاجريهم لتعديل السياسات الأوروبية ودفعها نحو التناسب التام بين مصالح أوروبا في العالم العربي وسياسات أوروبا العربية. ج - لم تعد إسرائيل محمية أوروبية كما كانت خلال مراحل نشوئها الأول، فهي اليوم محمية أميركية حقيقية. لا يعني ذلك أن أوروبا تفرط بوجود إسرائيل، لكنها منافس لأميركا على الصعيد الدولي، ويمكن ان تلعب الورقة العربية في هذه المنافسة. الأمر الذي يوفر للعرب فرصة تحقيق التوازن المطلوب بين مصالحهم مع أوروبا وبين المواقف الأوروبية المفيدة لمصالحهم. د- تتراجع أكثر فأكثر القيم الروحية والصليبية في أوروبا لصالح قيم جديدة حداثوية ومركنتيلية. وتدور هذه القيم حول ثورة المعلوماتية. فالهم الصليبي لا يخيّم على أوروبا كما يظن بعض أصوليينا. وبات علينا ان نفكر خارج مفاهيم القرون الوسطى وقيمها في تعاملنا مع هذه القارة. ه - يعيش في أوروبا اليوم أكثر من 15 مليون عربي ومهاجر مسلم. وهي مضطرة لأن تحسب حساباً لعربها ومسلميها. كما تحسب حساباً ليهودها واقلياتها الأخرى. وعليه ما عاد بوسعها ان تنتهج سياسات مؤيدة حصراً للدولة العبرية. أضف الى ذلك ان صورة العربي تختلف اليوم في أوروبا عن صورته في خمسينات وستينات القرن العشرين. انتهت حرب الجزائر وحروب التحرر من الاستعمار وحرب السويس والحرب الباردة. وبدأ عرب أوروبا يحتلون مواقع متزايدة الأهمية في صفوف النخب. وصارت اصواتهم مسموعة أكثر. ولم يعودوا كلهم عمالاً ومستخدمين. و - اعتمد العرب والفلسطينيون مبادرات كان لها وقعها الايجابي لدى الرأي العام الأوروبي، كإيقاف خطف الطائرات، والكف عن اعمال التفجير والخطف.وادانة الأعمال الإرهابية يتحتم الافادة من هذه المبادرات وهو ما أحسنه الفلسطينيون أكثر من غيرهم. ز - على رغم مضاره الكثيرة سمح اتفاق أوسلو للأوروبيين باتخاذ مواقف جريئة من القضية الفلسطينية. فهو يتناسب مع المزاج الحقوقي الأوروبي. ولا يهدم العالم الذي صنعه الأوروبيون في الشرق الأوسط، ويعود بالصراع العربي - الإسرائيلي الى حل الدولتين الذي وضعه الأوروبيون ويحرصون على تنفيذه وحرصهم على عدم المس بالحدود التي رسموها خلال الحقبة الكولونيالية. هذه المتغيرات تستدعي تشكيل نظرة عربية جديدة الى أوروبا. نظرة تكون مبنية ليس على الماضي وحده وانما أيضاً على الحاضر والمستقبل المنظور. وإذا تأملنا المواقف الأوروبية من القضية الفلسطينية والانتفاضة نرى الأوروبيين يمولون السلطة الفلسطينية ويؤسسون البنية التحتية للدولة العتيدة في غزة والقطاع والقدس، وانهم أصدروا نداء برلين الشهير، ويدينون انتهاكات إسرائيل لحقوق الفلسطينيين. ولا تتحفظ وسائل اعلامهم عن نقل الوحشية الإسرائيلية في العناوين العريضة. فمن وسائل الاعلام الفرنسية خرجت صورة الشهيد محمد الدرة. ومن باريس صدر قرار منع شارون من المحاضرة في تجمع يهودي فرنسي. والاتحاد الأوروبي يرفض نقل سفارات دوله الى القدس. وهو عين مبعوثاً دائماً لقضية الشرق الأوسط. والفاتيكان عين بطريركاً عربياً على القدس للمرة الأولى منذ الحروب الصليبية. ولا يمر شهر دون ان تهاجم الصحف العبرية هذه الدولة الأوروبية أو تلك. أما المواقف الأوروبية الشعبية تجاه القضية الفلسطينية والانتفاضة فتبدو أقل أهمية من المواقف الرسمية. لكنها هي الأخرى تشهد تحولات اساسية. فباستثناء الحركات السياسية المتعاطفة مع إسرائيل، وهي ضئيلة التمثيل، ثمة تغيُّر مهم في مواقف تيارات سياسية كثيرة لصالح القضية الفلسطينية. الأمر الذي أدى الى تغيير صورة الفلسطينيين في أوروبا. فهو لم يعد ارهابياً متعطشاً للدماء، يقتل الأطفال. بل أصبح ضحية يومية، حاضرة بقوة على شاشات التلفزة، خلال الانتفاضتين الأولى ثم الثانية. وصورة الضحية انتقلت من الصف الصهيوني الى الصف العربي. وهذا تطور شديد الأهمية دفع عدداً كبيراً من المثقفين الى التنصل علناً، وللمرة الأولى، من إسرائيل وسياساتها. وبين المتنصلين شخصيات يهودية من الطراز الرفيع، شأن جاك أتالي في فرنسا وودي آلان في الولاياتالمتحدة. ويلاحظ أيضاً أن ردود الفعل السلبية العربية في أوروبا ضد المعابد والمقابر والمباني اليهودية لم تخفف من تعاطف الرأي العام مع الفلسطينيين. وفي ذلك تطور حاسم في مزاج الرأي العام. ففي فرنسا أدى الاعتداء على مقبرة يهودية في بداية التسعينات الى نزول نصف مليون متظاهر الى الشوارع تصدرهم الرئيس فرانسوا ميتران. في حين ان مهاجمة أكثر من 60 موقعاً يهودياً لم يحرك خلال شهر أيلول سبتمبر الماضي سوى 7 آلاف نسمة معظمهم من اليهود المتصلبين. ولا يستدعي هذا المثال تشجيع الاعتداء على المراكز الدينية، فالرأي العام يتفهم ردود الفعل الفورية والعفوية، لكنه يناهضها حتماً إذا ما أصبحت سياسة صريحة ومعلنة. يفصح ما سبق عن حقيقة مزدوجة مفادها ان صورة أوروبا التي تتحدث عنها ادبياتنا ونتناولها في مواقفنا الحماسية، تنتمي الى المرحلة الكولونيالية وتختلف عن صورة أوروبا اليوم. وعلى العرب اليوم الابتعاد عن التيارات العنصرية في أوروبا، وبصورة خاصة الجبهة الوطنية في فرنسا والحركة الاشتراكية الايطالية في ايطاليا، وحزب هيدير الشعبي في النمسا، وحركة جيرونوفسكي في روسيا. والتوجه الى الأوروبيين بخطاب غير ديني. وتشكيل هيئة في أوروبا لدعم الانتفاضة، بما يتناسب مع وسائل التحرك المشروعة في أوروبا وبعيداً عن مهاجمة المراكز الدينية وحصر النضال الفلسطيني في الأراضي المحتلة. واعتماد المنهج الذي اتبعه حزب الله في هذا المجال في جنوبلبنان... الخ. ان أوروبا التي عرفناها خلال الحقبة الاستعمارية لم تعد هي نفسها اليوم. لقد طرأت عليها تغييرات كثيرة ونحن أيضاً لم نعد كما كنا بالأمس. وبسبب هذا التغيّر المزدوج نحتاج الى نظرة عربية مختلفة الى أوروبا تلحظ الفوارق بين الحاضر والماضي وتبني سياسة جديدة. ذلك ان السياسة هي في احد وجوهها لحظ الفوارق وتقديرها والابتعاد عن منهج اللونين الأبيض والأسود. * كاتب لبناني مقيم في باريس.