هل بين القراء من سمع بالأمر الرقم 17، أو يعرف مضمونه؟ السلطة الموقتة للتحالف أصدرت الأمر الرقم 17 الذي يمنح القوات الأميركية حصانة من القضاء العراقي. الواقع ان القانون يمنح قوات التحالف كلها هذه الحصانة، الا ان هذا الواقع لا يلغي ان القوات الأميركية طلبته وأن سلطة أميركية أصدرته، وأن الولاياتالمتحدة رفضت الانضمام الى محكمة جرائم الحرب الدولية، لحماية جنودها من أي ملاحقة قانونية غير أميركية. تذكّرت الأمر الرقم 17 وأنا أتابع فضيحة تعذيب القوات الأميركية وربما البريطانية الأسرى العراقيين، ووجدت ان الموضوع يتجاوز الفضيحة المدوية، فهو قد يبقى معنا في المستقبل. وكان اتفاق 15 تشرين الثاني نوفمبر الماضي الذي نصّ على نقل السلطة الى العراقيين مع نهاية هذا الشهر تضمّن تفاصيل عقد اتفاق أمني بين الولاياتالمتحدة ومجلس الحكم العراقي ينظّم الوجود العسكري الأميركي في البلاد أو وجود قوات التحالف. إلاّ ان آية الله علي السيستاني احتجّ على ذلك وأصرّ ان يكون تفاوض الأميركيين مع حكومة عراقية منتخبة، فطُوِيَ الموضوع في حينه. غير ان الموضوع سيعود عندما تقوم حكومة عراقية منتخبة، وسيصرّ الأميركيون على نصّ من نوع القرار 17، فهم يرفضون ان يكون أفراد القوات المسلحة الأميركية عرضة لأي قانون غير أميركي حتى القانون الدولي. والأميركيون سيفاوضون على قواعد وتسهيلات لقواتهم في العراق. أرجو ان تكون الحكومة العراقية المنتخبة حذرة وواعية. فالأميركيون سيطالبون بكل شيء، وهم في اتفاقهم المماثل مع شاه ايران أعطوا عائلات الجنود الأميركيين حصانة من القضاء، ما يعني انه لو قتل اي جندي مواطناً محلياً، أو صدمه بسيارته وهو مخمور، فهو لا يحاكم إلاّ أمام محكمة أميركية. اليوم أكتفي من الموضوع بفضيحة التعذيب التي صدمت الرأي العام الأميركي والعالمي كما صدمت العرب والمسلمين. وأخشى مع صور التعذيب والقصص الفظيعة المرافقة ان يقوم رأي عام عربي أو مسلم يعتقد ان هذا هو الوجه الحقيقي للولايات المتحدة أو بريطانيا، فالواقع ان التعذيب هو الشذوذ لا القاعدة، وقد دانه الكل، مع محاولة الأقلية المنحطة من عملاء اسرائيل ايجاد الأعذار له، ما سأعود إليه قرب نهاية هذه السطور. الرئيس بوش أعلن عن اشمئزازه العميق من أخبار تعذيب الأسرى، وأقصر اختياراتي هنا على صحف أميركية وبريطانية، ومصادر مباشرة من البلدين، فقد قرأت: - العسكر الأميركيون وفضيحة التعذيب. - التعذيب: عار على أميركا. - التعذيب: الولاياتالمتحدة روّعها الاعتداء على الأسرى العراقيين. - تعذيب الأسرى العراقيين يبدو واسع النطاق. - تقرير عن تعذيب الأسرى يسجّل اعتداءات مستمرّة وغير قانونية. - مقزز: الجنود البريطانيون يعتدون على العراقيين. - الصور تفضح معاملة الأميركيين الأسرى العراقيين. وكانت تفاصيل الأخبار من نوع العناوين، فهي لم تحاول تخفيف الفضيحة، أو إيجاد الأعذار لها، وإنما أعطت صورة مروّعة لا يتصورها عقل انسان متحضّر. مع ذلك، فالفضيحة مثلت بالنسبة إليّ درساً في الصحافة، فالغالبية العظمى تعاملت مع الخبر بإنسانية، ولم تخفِ صدمتها، ولعلّ "الاندبندنت أون صنداي" الأحد الماضي هي أفضل مثل عليها، ولكن كانت هناك أقلية ليكودية منحطّة المثل عليها مجموعة "التلغراف"، مع وجود آخرين. "الدايلي تلغراف" في 30 نيسان أبريل نشرت خبر الفضيحة الذي شغل الصفحة الأولى لكل جريمة مهنية محترمة، في صفحة داخلية صفحة 14 وكان عنوانه: "الولاياتالمتحدة تردّ أو تتصرّف على "تعذيب" أسرى الحرب العراقيين". وأرجو من القارئ ان يلاحظ ان خبر الجريدة ليس تفاصيل التعذيب، بل ان الولاياتالمتحدة قررت ان تتخذ اجراءات، ثم أرجو من القارئ ان يلاحظ ان الجريدة الليكودية وضعت "التعذيب" ضمن هلالين صغيرين، فهي لا تصدقه، وإنما تسجله على ذمة موجّهي الاتهامات، وهؤلاء أصلاً أميركيون. في الثاني من هذا الشهر تفوّقت "الصنداي تلغراف" على نفسها في التغطية المشوهة للفضيحة، ما أرجو ان يكون درساً في أي كلية إعلام عربية. وبدل ان تمتلئ الصحيفة بأخبار التعذيب وصوره، وتحقيقات المراسلين عنه، وجدت فيها خبراً ملأ صفحة خلاصته ان قصي صدام حسين كان يريد إعدام الطيارين الأميركيين الأسرى سنة 1991. ولا بد من انها صدفة تحدث كل يوم، فخبر قد لا يكون صحيحاً عمره 13 سنة لم يجد طريقه الى النشر إلا مع انفجار فضيحة التعذيب. ونشرت الصحيفة مقالاً كتبه أندي ماكناب، وهو ضابط سابق في القوات البريطانية الخاصة أسر ودخل سجن أبو غريب، واختار ان يتحدث عن تفاصيل تعذيبه بملاعق حامية وقلع أسنانه الخلفية. وأحقر من الخبرين السابقين مقابلة مع المدعو سعيد عبد الأمير الذي زعم أنه أرغم على ان يكون "العشماوي" في سجن أبو غريب، ثم حكى تفاصيل التعذيب وفنونه، وكيف كان هناك بين مئة عملية اعدام و150 عملية في الشهر. وما يقول الخبران الأخيران هو ان التعذيب في العراق مورس دائماً ولا داعي للضجّة. كانت هناك أخبار مماثلة أو تحقيقات في "الصنداي تايمز"، حتى ان أندرو ساليفان الذي يكتب من أميركا اختار ان يكتب موضوعاً بعنوان: "مخبوء عن النظر، الوجه النبيل للحرب" وروى قصة بات تيلمان، وهو جندي أميركي قُتل في أفغانستان قبل أسبوع، وكان قبل الجندية لاعب كرة أميركية. طبعاً عمل الجندي ان يَقتل أو يُقتل، الا انني لا أجد شيئاً نبيلاً في أي حرب، وموت تيلمان بالذات لا يخفف شيئاً من فظائع الحرب في العراق وتعذيب الأسرى. وهكذا فأنا أعود الى الأمر الرقم 17 راجياً ان ترفض أي حكومة عراقية منتخبة إعفاء الجنود الأميركيين في العراق من الملاحقة القانونية المحلية. والأفضل ان ترفض وجودهم كلّه.