يكاد طيف فرناندو بسّوا يطغى على الشعر البرتغالي الحديث، وعظمته شاعراً وناثراً تكاد تهيمن على بقية الشعراء البرتغاليين، مع أن بينهم شعراء كباراً وإن لم يبلغوا قامة هذا الشاعر الغريب الذي وقّع قصائده بأسماء عدّة، كانت في حقيقتها أسماء شخصيات عاش الشاعر في كنفها. الشاعر البرتغالي نينو جوديس لجأ الى حيلة السرد والرثاء ليجعل شعره أشبه باليوميات الحميمة، حيث كل أمر يمكن أن يحفز على كتابة القصيدة وأن يشكل حدثاً شعرياً. عالمه يتأرجح بين الحلم والاستيهام، بين الواقع اليومي والبعد الميتافيزيقي، بين الانشغال الواقعي والتجربة الداخلية. شاعر يسائل الذاكرة باستمرار، بحثاً عن "مادة" الماضي والأهواء المفقودة. والذاكرة هذه، هي ذاكرته الشخصية وذاكرة الآخرين والأشياء والعناصر. ولد نينو جوديس في العام 1949 في ميكسيلو هيراغراندي، أنهى دروسه في ليشبونة وتخصص في اللغة الرومانية القديمة. بدءاً من 1969 أصبح واحداً من النقاد الأدبيين في مجلة "أوتامبو وآدمودو" وهي جمعت من حولها التجارب الجديدة المنبثقة من مخاض أيار مايو 1968. انضم الى "الاتحاد البرتغالي للكتّاب" الذي حل محل "التجمع البرتغالي للأدباء" الذي منعه نظام الحاكم سالازار عام 1965. نشاطه النقدي ارتبط خصوصاً بالحداثة والتحديث في البرتغال، وشارك في تحرير مجلات أدبية وشعرية عدة: أورفو، أثينا، كونتامبورانيا وسواها. واهتم أيضاً بالأدب القر - وسطي الايبيري. عاش جوديس في سويسرا من 1985 الى 1991، وعندما عاد الى لشبونة، عمل على نيل شهادة الدكتوراه وأصبح أستاذاً في جامعة لشبونة الجديدة حيث ما برح يدرّس. دواوينه تربو على الخمسة عشر، وحصل على جوائز عدة في البرتغال. وترجمت أعمال كثيرة له الى الفرنسية والاسبانية والايطالية وسواها. أسس في 1996 مجلة "تاباكاريا" الشعرية وهو يشرف على تحريرها. مشهد في شارع في زاوية مقهى، ما كنت تبحث عنه، هو أن تقول القصيدة لك مَن أنت، لماذا تختبئ، ما اسمُ الفتاة التي حدّقت فيك. ولا جواب لديك. الجواب كان على شفتيْ هذه الفتاة التي لم تدرك بصمتك كيف تسائلها، وفي الريح التي تكنس الباحة، حاملة وريقات الشجر والورق. الخريفُ: صورةٌ، صورة حياتك الخاصة، التي لم تُجدْ تجاهلها، حتى تنبثقَ، من حديث عاديّ مع المجهولة، صورةٌ، صورةٌ أخرى للحياة، التي كنت تودّ ألاّ تفقدها، في كلّ لحظة، بين أصابعك والقصائد. ميتافيزيقيا فنجان القهوة أمامه، يشعل سيكارة. لا يبغي أن يعرف شيئاً عن الإلهام، عن قصائد الصدفة، عن المصائر الغامضة كمثل مجرى الأنهر. من المرجّح أنّ الزمان لا يخيفه، وأن الموت ليس، له، أكثر من فكرة بلا حقيقة مرئية، وأنّ عينيه لا تشفّان إلا عن حياة مجرّدة، متزامنةً مع الروح. في أحيان، يفكّر في أن يجيب عن الأسئلة التي تُطرح عليه. لكنه يرجئ هذه اللحظات. يؤثْر الحفاظ على العناد الصامت للحاضر، وكأنه سيدوم، وأن القهوة لم تبرد في الفنجان. ثعبان تفيد الكآبة أنّ الخطّ يحدد كل شيء، من تأثر الوجه حتى الجبل لدى غروب الشمس. سفر هناك أعين لا تنظر إلاّ الى الحلم" وعندما يتبدّد الحلم، تمكث عمياء. هناك جسور لا يعبرها أحدٌ، في الشتاء وما من أحدٍ يحرسها: جسور بلا عقود، مجرّدة كمثل قوس قزح وباردة كمطر الفجر. حقل قمح ناضجٍ، الفتنة الباطلة للمنائر، عندما الصباح يغسل الضبابات الأخيرة، خفقُ أجفانٍ كما الأجنحة: صور أتذكرها تعيد إليّ عينيّ لأبصر بهما مدخل المدينة. قصيدة النهر لا يختبئ تحت الأرض. ولا أعلم إن وجدته الشجرةُ بجذورها، وإن تأمّل الفضاءُ الهاوية العاشقة لليل، إن هيّأت الحياة سريرها في إسمٍ ملطخ بالمرمر. القباب الغامضة في السماء لها عيون زرق، نجوم أضحت مجنونة من جراء عزلتها الجليّة، ثقلُ العدمِ عندما القمر ينبثق من ثغر اللانهائي - ليختبئ في ذراعي/ اللحظة. أهرب من أمام الفجر الذي خطف منك النَفَس" واحفظ لنفْسك الأفكار المستعارة من الشلال الجوفيّ. الحبّ يلتهم عظامك بشراهةِ نمرٍ يرسو في جسمك. امنحه وصالاً جسديّاً، الهمسَ المتهادي للظلال، وذاكرةَ الشفتين التي لا قعر لها. مرثية أيَّ حديقة تقطن المراهقات الخضراوات؟ عندما يغنّين، تغدو أصواتهنّ صافية مثل بلّور الربى، وفي صمت المساء، أيُّ عتمةٍ بيضاء تلفّهنّ؟ تعلّة القصيدة تلاحقهنّ. تمنحهنّ أبدية الدرب الحرجيّة، في الخريف، بين الجذوع التي يحلّ بها البياض. يسمع ضحكاتهنّ، كضحكات العصافير، في حمّى الرحيل. الليل يهبط قبل أوانه. الحقول تخلّت عن صدى المياه، والهمس المبهم لأله. حتى نظرةٌ متنبهةٌ لا تتعرّف، في هذه الأزهار التي وطئها المغيب، على الشفاه التي أسكتها الظل. جزيرة أوفيد هنا، الريح والمطر يتكلمان مع البحر. أصغي اليهما من غير أن أسمع ما يقولان. ولكنْ في القعر حيثما البروق لا تتمكّن من أن تنير الأفق، صوتك يتحدّث مع الظلال، كما في يوم وصولك. ألوان هناك جدار أبيض كلَّ حين أُخرجه من ذاكرتي. ويحسن لي أن أكتب عنه: ويتمزّق، كما لو أنه ورقة. في الخريف، يدلهمّ هذا الجدار. في الشتاء يكسوه الطحلب بجملٍ مبهمة. أعرف أين هو، عندما احتاج الى أن أستند الى ظلّه. غبرة جبسٍ توشح أصابعي. أحبّ أن أرى بياض الجلد، تحت الشمس الحادّة، وأن أقارنه بأبيض الجدار. لكنّ العالم لا يقتصر على شيء في هذي البساطة،/ وأموره لا تتوارى تحت طبقة حبر ضئيلة. الواقع ليس أبيض أبداً، كمثل هذا الجدار: إنّه يكفهرّ في الخريف، ويتغطّى بالطحلب في الشتاء، ولا يفتش عنه أحد في الصيف، عندما المغيب يُشبعه بالحمرة. الصرخة أحياناً يكتم الليل صرخةً في الصمت الذي لا يسبره أحد. يهبط الليل عندما تُسمع صرخة في قاع قبوٍ صامت. الخير والشر يعيشان معاً في قلب الليل حيث صرخ أحدهم. ولكن لا أحد يعلم إن كانت هناك صرخةٌ أو أنّ الليل هو الذي اخترعها. حب القصيدة، تقولين، حيثما الحبّ ينطق بنفسه، مختصراً كل ما يقال في كلمات. ولكن ما الذي يبقى في الكلمات مما عشناه؟ غبرةُ ألفاظٍ، الإيقاعُ الضئيل للنحو، وقوافٍ بلا معنى... قصيدة يومية ذاك الذي يعبر الباحة، صباحاً، والهواء النديّ يصفع وجهه، لا يعلم من أين يأتي الضوء، إذا البرد، جارحاً جفنيه، أشاح بوجهه نحو الأرض" لم يعد يسمع أبداً الهمس الذي تتبادله الغيمات، راكضاً لا يعلم الى أين: هل صوب القاع البعيد حيث كلٌ يضيع، مثل وريقات الخريف الأخير، أم نحو عينيكِ اللتين تبحث عنهما عيناي، مندبقتين بالوحل الذي تركه الليل. شعر من أين يتناهى - الصوت الذي يمزّقنا من الداخل، الذي يجلب المطر الأسود، مطرَ الخريف، ويتوارى بين الضبابات والحقول التي تفترسها الأعشاب؟ كان هنا - هنا في داخلنا، كما لو أنّه وجِد هنا دوماً، ونحن لم نسمعه، كما لو أنّه لم يكلّمنا منذ البدء/هنا، في داخلنا. والآن فيما نبغي سماعه كما لو أننا عرفناه غابراً، أين هو؟ الصوت الذي يرقص ليلاً، في الشتاء، بلا ضوء ولا صدى، بينما يأخذ بيده الخيطَ القاتمَ للأفق. قافية داخلية أولئك الذين يؤثرون الأرض المبهمة في الصيف، لا يعلمون أنّ الحياة لا تمكث، عندما في هذه الأرض، تبقى ناضجةً الثمرةُ التي لا تدوم إلا على الخلفية الجافة للصورة. حجر الحجر يكتب نفسه حول الاسم. مقعد من حجر يصلح مقعداً لهذا الذي يكتب، الحجر، بهذا الاسم. الشفتان لا ترميانه عندما تلفظان: حجر. والحجر لا ينقلبُ في الفم، مثل الكلمة. فروسية أحجب الظلّ الذي يكشفه المساء" يناديني وجيب اللهب صوب سرجك - أيتها الفرس البيضاء على حقل سريري. الترجمة والتقديم: عبده وازن