1 - رجل أعمال بلا قلب تعرّفتُ على أناس عاشوا طويلاً. إنهم أمواتٌ، تقريباً كلهم: من الانتحار، من التّعب، من الخمرة، من ضرورة الحياة هذه التي تُفْنيهمْ. ما الذي تبقّى من حياتهم؟ أيّ نساء يتذكّرون بحنين الاحتضان؟ أيَّ أصدقاء ما زالوا يتحدثون اليهم، أحياناً كما لو أنهم يُوجدون بالقرب منهم؟ مع ذلك، فأنا لا أحسدهم. لقد رافَقْتُهُمْ في ليالي الحانة والأرق حتى نهاية الفجر" لقد أفرغتُ كؤوسَهُمْ، حيث بقايا الخمرة، فقط، لَطَخَت القَعْرَ، استنشقتُ دخان القاعات حيث أصواتُهم تتداخلُ مثل الكراسي في نهاية حفلة. لَمَحتُهُمْ ينصرفون واحداً واحداً، في جفاف الوداعات. وسمعتُ شكاوى اللواتي سرَقُوا منهنّ الحياة. جمعتُ كلماتهنّ من شعْر مُشكَّلٍ بالدموع والصمت. تَعَلَّقْتُ بامتقاع وُجُوههنَّ، سائلاً، عنهُنَّ، عُشَّاقَ الليل المُضيئين. الشمسُ تمسحُ اكتحالَ عيونهنّ" حنينٌ بحريٌّ يتصبَّبُ على أكتافهنَّ العارية. أَحبْبْتهُنَّ دون قول أيِّ شيء، لا عن الحبّ ولا عن مصير الذين أحْبَبْنَ. تعرّفتُ على أُناس عاشوا طويلاً - الذين لم يعرفوا، أبداً، أيَّ شيءٍ عن الحياة نفْسهَا. 2 - الشّاعِرُ يشتغل الآن في الاستيراد والتصدير. يستوردُ المجازات" يُصَدِّرُ الأمثال. يستطيع أن يشتغل لحسابه، وأن يكون من الذين يملأون دفاتر من ورق أزرق مع أعمدة من الحسم والتسليف. وفي الواقع، فإنّ ما يدينُ به، هي الكلماتُ" وما يمتلكه هو هذا النقص في الجُمَل حينما يتّكىءُ على النافذة، في الشتاء، والمطرُ يسَّاقَطُ من الجهة الأخرى. حينها يعتقدُ أنه يستطيعْ استيراد الشمس وتصدير السحاب. يستطيع أن يكون شغَّال الزمن. ولكن، بطريقةٍ ما، وظيفَتُه تَتَشَابَهُ مع وظيفة نَحَّات الحركة. في صخرة اللحظة، إنه ينقشُ كلَّ ما يتجه صوبَ الأبديّة" إنه يُوقفُ حركته التي تتطلّعُ نحو السماء" وفي قسوة الليل، يُثَبّتُ خفْقَ الأجنحة، اللازوردَ، وتوقُفَ الموت الحكيم. 3 - صَانعُ الظِلِّ تحت قدميّ، يمتزجُ الأمواتُ بالأرض. والحجارةُ تتسرّبُ بين العِظام، الرطوبةُ توْشي الأنسجةَ التي تلفُّهَا، مُعجلةً بتفكُّك المعادن. هؤلاء الموتى ما زالوا يتكلمون. ولكني لا أسمعهم، حينما أسيرُ على قُبُورهمْ، وأُفضّلُ أن أتسلّى مع العصافير التي تغنّي، مع الريح التي تُدوِّرُ وُرَيْقَات الخريف. قَدمايَ تستطيعان إذنْ أن تدوساها، وخُطَاي تخنقُ دُموعَها التي تمتزجُ مع هَمْس الرّيح. لكن الذي أسمعه، دائماً، هو هذا الصوت الذي ينبثقُ من صمت الموتى. أحملُهُ في داخلي" أُحَاولُ أنْ أَلْتَقطَهُ بأصابِعِ القصيدة، وأُثَبِّتَهُ في الشّعْرِ كي لا يعود ليضايقني من جديد" ويَهْرُبُ، يَتَسَرَّبُ في الحُفَر، ويختفي بين الجذور الأكثر عُمْقَاً. مع ذلك، لا أعرفُ مَنْ هُمْ هؤلاء الموتى. أنا لا أفعلُ سوى دوْسَهُمْ، حين أعْبُرُ الرَحبات، الأراضي الواسعةَ التي هَجَرَتْهَا القُطعان. مِثْلَ راعي الظّلاَل، أحملُ معي كُلّ أصواتهم، أوْ، فقط، الصوت الأوحد، الصَوْتَ الذي شكَّلَتْهُ يدَاي بِصَبْر الصانع. لم أَعُدْ أعرفُ مَنْ طلبَ منّي هذا العمل. ذات يوم، طلبتْ منّي امرأةٌ ذاتُ عَيْنيْن بَنَفْسَجيَتيْن أن لا أنساها" ومنذ ذلك اليوم وأنا أقومُ بجَمْع الأصوات، وأبحثُ عنْ ذكْرى نَهْدها في وحل الشتاء، وأَتَجَنَّبُ دَوْسَ الأرض، في الليل، حينَ تبدو لي صُورَتُهَا مِنْ خلال هالَة الضباب. ترجمة محمد المزديوي * من مواليد الكارب الغرب في البرتغال. أستاذ في جامعة لشبونة، ويعمل مستشاراً ثقافياً ومديراً لمعهد "كموينس" في باريس. ويعتبر، حالياً، من أكبر الشعراء البرتغاليين.