الجريمة الأميركية الجديدة التي كشفتها صور تعذيب الأسرى العراقيين ليست بنت اللحظة كما تدلل المعلومات التي نستقيها جميعاً من وسائل الإعلام الأميركية التي فضحت تلك الجريمة. بل تعود ممارسات التعذيب تلك إلى أشهر طويلة خلت، وبعضها حدث مباشرة بعد قيام سلطة الاحتلال وسيطرتها على العراق. تطرح هذه المسألة سؤالاً كبيراً أمام وسائل الإعلام العربية، باختلاف وسائطها، التي انخرطت في تغطية الحرب على العراق وما تلاها في شكل مركز وكبير. الإعلام التلفزيوني العربي الذي غطى تلك الحربو وخصوصاً "الجزيرة" و"العربية" وقناة "أبو ظبي" قبيل وخلال الحرب وقبل أن تقلص عملياتها إلى الحد الأدنى وتخرج من المشهد في شكل مؤسف بعد أن كانت صاعدة بنجاح كبير قام بإنجاز تاريخي حقيقي على مستوى الإعلام العربي والعالمي. فللمرة الأولى ربما في تاريخ الإعلام العالمي يتم كسر الاحتكار الغربي للخبر والصورة، وتصبح وسيلة إعلام عالمثالثية هي المصدر الذي تستند إليه وسائل إعلام غربية كثيرة في الحصول على المعلومة والخبر. أهم من ذلك أن الإعلام التلفزيوني العربي ساهم في مساءلة أو محاسبة مشروعات دولية ووضعها تحت ضوء الشك، وهي أريد لها أن تُفرض فوقياً على المنطقة من دون نقاش. وعلى العموم قيل الكثير في إنجازات هذا الإعلام، وكاتب هذه السطور أحد المنافحين عنه في الميادين العربية والدولية، ولا حاجة هنا الى تكراره. لكن ما أنجزته الفضائيات العربية، تحديداً، يجب ألاّ يحجب الرؤية عن رؤية ما لم تنجزه، أو فشلت فيه. ومن أهم ما لم تنجزه حقاً لحد الآن هو فشلها في الكشف عن مسلسل التعذيب الذي كان يتعرض له العراقيون في سجن أبو غريب طوال تلك الأشهر السود الكالحة الماضية. فأين كانت فرق الصحفيين، والمصوريين، والمتعاونين، والمراسلين الميدانيين؟ لماذا لم يتم اكتشاف أو فضح هذا الموضوع الذي صرنا نعرف الآن أن كثيراً جداً من العراقيين كانوا يعرفونه ويتحدثون عنه وكأنه تحصيل حاصل. بل إن بعضاً من مراسلي الجزيرة والعربية أنفسهم أو العاملين معهم كانوا تعرضوا للاعتقال والإهانة والتعذيب لأسابيع عدة، ومع ذلك لم يُفتح الملف كما كان ينبغي. للمرء أن يتوقع أن كثيراً من قصص التعذيب والإهانات كانت تتسرب من السجن عبر من يُطلق سراحهم، أو عبر ألوف العائلات التي كانت تتابع ما يعانيه أبناؤها بصمت ومرارة. فكيف ساد هذا الصمت المطبق ولم يصل إلى شاشات الفضائيات العربية؟ من حق العراقيين والعرب جميعاً أن يحاسبوا هذه الفضائيات على تقصيرها، وأن يطلبوا إجابات شافية. كلنا نعلم أن ظروف العمل الإعلامي العربي بخاصة في العراق بالغة الصعوبة. وأن التضييق على الصحافيين العرب، وبخاصة العاملين في الفضائيات الرئيسة، بلغ ويبلغ حداً فوق التصور أحياناً. وأن سلطة الاحتلال تعتبر هذا الإعلام عدواً لها. لكن هذا لا يسوغ بأي حال التقصير في عدم الكشف عن تلك الفضيحة، خصوصاً أنه كان في الإمكان متابعتها بهدوء ولفترات طويلة وبعيداً عن الضوء، كونها ليست حدثاً لحظياً قد تفوت تغطيته، بل مسلسلاً مستمراً ومتواصلاً. ثمة أكثر من مسألة يثيرها ملف تعذيب الاسرى العراقيين على صعيد تغطية الإعلام الفضائي العربي، وتستوجب وقفة مراجعة من هذا الإعلام. من أهم هذه المسائل ضرورة أن تخرج التغطيات الإخبارية من الأستوديوات المغلقة إلى الميدان أكثر وأكثر. فعوضاً عن المقابلات والبرامج الحوارية المطولة الخلافية والصياحية، هناك حاجة ماسة إلى تطوير فن "الصحافة التمحيصية" أو investigative journalism . وهي الصحافة التي تكون أقرب إلى العمل الاستخباراتي وتستهدف كشف ما تريد السلطات ومراكز القوى اخفاءه. ولنتذكر أن "الصحافة التمحيصية" كانت وراء الإطاحة بريتشارد نيكسون عام 1974، لأنها هي التي كشفت فضيحة ووترغيت وتنصت الجمهوريين على مقر الحزب الديموقراطي بتعليمات من نيكسون نفسه. الإعلام هنا، وهنا فقط، يستحق وصف "السلطة الرابعة"، أي عندما يكشف الأجندات السرية للسلطة السياسية التي تنزع الى الأبواب الخلفية والسرية لتمرير ما لا تستطيع تمريره عبر الأبواب الأمامية وتحت ضوء الشمس. يبدو أن الأوان قد آن للانطلاق نحو مرحلة جديدة في الفضائيات العربية يتم فيها التركيز أكثر على هذا النوع من الصحافة الذي ينقص عالمنا العربي. المراحل الماضية والحالية اتسمت بنوعين من التغطيات ذات العلاقة بالأخبار أو الشؤون العامة. النوع الأول تغطيات المراسلين في الميدان للأحداث الكبرى والجسيمة مثل حرب أفغانستان، حرب العراق، والانتفاضة. وقد نجح ذلك الإعلام في هذا النوع، واستطاع أن يكون موجوداً في قلب الحدث الساخن وينقله بطريقة لا تنقله وسائل الإعلام الغربية. أما النوع الثاني فقد تمثل في التناسل اللافت، وأحياناً الزائد عن الحد، للبرامج الحوارية السياسية التي تعلق على سير الأحداث. وغالباً ما تكون هذه البرامج مناكفات سياسية بين أطراف عدة يحملون وجهات نظر مختلفة ومتناقضة من القضية نفسها المطروحة للنقاش. تفيد هذه البرامج في تقليب المسائل من مختلف الزوايا، لكنها تأكل الكثير من الوقت الحي للشاشة، وأحياناً على حساب أولويات أخرى. في المرحلة الجديدة يجب أن يحتل التقرير الصحافي الميداني موقعاً مركزياً، وما يُقصد هنا هو التقرير الكاشف لشيء جديد، وليس المكرر لذاته أو لما جاء في الأخبار. فهناك كثير من التقارير الإخبارية التي تأتي من "بالميدان" لكنها لا تقدم الشيء الكثير. ولئلا يظل مثل هذا الكلام مهوماً في التنظير والعموميات، فمن المفيد ضرب الأمثلة وطرح بعض القضايا البالغة الأهمية، في المسألة العراقية هنا، والتي ما زالت تفتقر إلى تغطيات صحافية تمحيصية كاشفة. فمثلاً: ما الذي يحدث على جبهة النفط العراقي؟ كيف يُصدر، وكيف يُباع، ومن يشتريه، وما هي الشركات المشرفة عليه في العراق وخارجه، وأين تذهب عوائده وكيف تنفق، وفي أي الأرصدة ينتهي؟ ومثلاً: كيف لا نعرف لحد الآن وبالضبط حقيقة "المقاومة العراقية"؟ من الذي يقاوم، ومن الذي لا يُقاوم، من أين جاؤوا وماذا يريدون، وما هو برنامجهم السياسي؟ ما هي القوى والتنظيمات التي تشتغل على الساحة، من هو الذي يوجه عملياته لقوات الاحتلال ومن الذي يوجهها للعراقيين؟ إذا كان الإعلام العربي الذي هو العنوان الرئيس لكل فصائل تلك المقاومة، حيث يرسل لها أشرطته، وله وسائله للوصول إليها، ويجب أن يكون له بدوره وسائله للوصول إليها، لا يستطيع أن ينقل صورة تفصيلية عن تلك القوى للمشاهد العربي حتى يتبين له المقاوم الحقيقي من المقاوم الزائف والمدمر. فمن ذا الذي في إمكانه القيام بذلك؟ ومثلاً: كيف يفكر السيستاني، وما هي حقيقة مواقفه، وما هي العناصر، أو الأطراف المؤثرة فيه وفي توجهات قراراته؟ ومثلاً: ما هي حقيقة الدور الإسرائيلي الميداني في العراق من ناحية تقديم الخبرات والاستشارات العسكرية حول كيفية مواجهة المقاومة في المناطق المدنية، وكيفية إقامة الحواجز ونقاط التفتيش، وتحت أي غطاء يعمل الإسرائيليون، وكيف؟ ومثلاً: ما هو خط سير الرساميل المالية من وإلى العراق، وأين تذهب، وأين تستثمر، وفي أي المجالات، ومن هم المقاولون وعلى أي الأسس اختيروا، وما هو حجم الاستثمار العربي والعراقي؟ ومثلاً: أين ذهبت الخبرات العراقية في مختلف الميادين: العسكرية، والنووية، والعلمية؟ هل هاجرت، هل قتلت، هل أشتريت، هل تبخرت؟ هذا غيض من فيض مما لا يمكن كشفه عبر البرامج الحوارية وبرامج "فش الغل"، لكنه يحتاج إلى عمل صامت ودؤوب يلملم أجزاء القصة، ويتابع خيوطها بلا كلل، ثم يكشفها رغماً عن أنف من يريد الإبقاء على سريتها. ويحتاج قبل هذا وذاك الى تبني هذا الخط من إدارات الفضائيات قبل غيرها والإيمان به. * باحث فلسطيني - أردني مقيم في بريطانيا.