قبل عامين، حينما صفقت القاعة الرئيسة في قصر مهرجان "كان" بالاجماع لفيلم "العناية الالهية" للفلسطيني ايليا سليمان، كان من الواضح ان التصفيق يعني، في ما يعنيه ان السينما الفلسطينية، كما بات يصفها فنانون من طراز ايليا سليمان وميشال خليفي ومي مصري ورشيد مشهراوي، تجاوزت اخيراً وبالفعل مسارها القديم الذي كان همه الدائم ان يتوغل في الماضي ليحاكمه بادئاً دائماً من الصفر في حركة كانت باتت روتينية وتبدو بلا نهاية. مع أفلام هؤلاء المخرجين وعلى رأسهم، في ذلك الحين، ايليا سليمان، كان لا بد من ان يقول احد ما: ها هم السينمائيون الفلسطينيون يبنون مستقبل سينماهم، وبالتالي مستقبلهم، فيما لا نزال نحاول نحن العرب الآخرين، ان ننسى ماضينا... بلا جدوى. ونسيان الماضي يقوم في هذا المجال على التوقف عن لعبة البدء دائماً من الصفر. في فيلم "باب الشمس" وهو جديد المخرج المصري يسري نصرالله ومأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه للكاتب اللبناني الياس الخوري، يحاكم "البطل" الرئيس فيها، وهو واقع ضحية غيبوبة طويلة، من جانب الآخرين ومنهم صديقه وربيبه خليل وزوجته نهيلة، لأنه كان يدعو دائماً الى البدء من الصفر بعد كل هزيمة او مذبحة. المحاكمة حادة وهي تطاول من خلال تلك الشخصية، يونس، اجيالاً بأكملها: حادة وصائبة في جوهرها، ولكنها غير عادلة على الاطلاق من صانعي الفيلم، لأنهم، هم بدورهم أيضاً يقترفون الخطأ نفسه: يبدأون ايضاً من الصفر... وكأن هذا الفيلم وهذه الرواية يتطلعان الى قول "كل شيء" لأن "احداً" لم يقله من قبل. والمشكلة الأساس هنا هي ان من يريد ان يقول كل شيء، ينتهي به الأمر الى ألا يقول شيئاً. اما المشكلة الأخرى فهي ان كل ما في "باب الشمس" كان قيل من قبل وفي سينما عربية لم تتوقف عن اجترار تاريخها ومحاكمته في لعبة انعكست حتى على المسلسلات التلفزيونية. وذكر المسلسلات التلفزيونية - ولا سيما السورية التاريخية التي تطاول القرن العشرين تحديداً - ليس صدفة هنا. ذلك ان التطويل والحشو في الفيلم يذكِّر حقاً بتلك المسلسلات التي تبدأ... من دون ان تنتهي. نصف قرن من التاريخ "باب الشمس" اذاً، يريد ان يحكي خمسين عاماً من تاريخ فلسطين: نصف قرن تبدأ بزواج يونس - الفتى المجاهد ابن السادسة عشرة، بالطفلة نهيلة - إبنة الثانية عشرة - لتنتهي بموت يونس على سرير غيبوبته، مروراً بضياع فلسطين ومشاهد المنفى واللجوء أجمل ما في الفيلم... قفزاً الى وصول اللاجئين والمقاومين الى لبنان، ومن بينهم يونس، الذي ينفصل بذلك عن زوجته نهيلة وعن طفله الأول منها. لكن يونس ونهيلة - التي تبقى في الداخل - يدبران، طوال فترة من الزمن طويلة أمر لقائهما داخل فلسطين في مغارة يطلقان عليها اسم "باب الشمس"، وعليها سينتهي الفيلم - في شكل لا يخلو من افتعال -. والفيلم ضمن هذا الاطار، يتكوّن على طول ساعاته الأربع والنصف والطويلة - بأي معنى تشاءون - على امتداد قرون من الزمن، يتكوّن من رحلات مكوكية عدة: بين خاص يونس/ نهيلة، وعامّ فلسطين، بين حاضر غيبوبة يونس وماضي حبه لنهيلة: بين أرض الوطن المسلوب، وأرض المنفى التي يقول لنا الفيلم انها لم تكن ودودة كما ينبغي. وهذه الرحلات المكوكية كلها تتم عبر سلسلة من المشاهد الارتجاعية - فلاش باك - التي تروى لنا من خلال مونولوغ طويل يوجهه الطبيب الشاب خليل الى أبيه بالتبني يونس، فيما هذا صريع الكوما وهي لعبة تبدو في فيلم "تكلم معها" لبيدرو ألمودوفار، أكثر فاعلية واقناعاً على أية حال. إذاً، معظم الحكاية يُروى لنا هنا من طريق خليل، الذي تشغل حكايته هو الآخر معظم الجزء الثاني من الفيلم. وإذا كان من الصعب، حقاً، على خيط يربط بين حكاية يونس وحكاية خليل، فإن من المنطقي ان نفكر بأن الخيط لن يكون سوى فلسطين، فهل هذا يكفي كمبرر درامي؟ أين سينما المؤلف سؤال لا يتوقف المتفرج عن طرحه على نفسه، ولا سيما حينما يغيب في تشعبات حكاية يبدو التفاوت فيها واضحاً بقوة بين عمل سينمائي حقيقي - يصل احياناً الى اعلى ذرى الشاعرية، وأحياناً الى مستويات تقنية عالية ندر ان بلغها أي فيلم عربي من قبل -، وبين سيناريو مفكك من الصعب عليه ان يكون مقنعاً. ومن الواضح ان المشكل الأساس هنا يكمن في الثقل الأدبي للعمل ككل. هذا الثقل الذي تجلى في لحظات السرد الطويلة والمملة - من خليل دائماً، ومن نهيلة في مشهد أخير من الفيلم تحاكم فيه زوجها وغيابه في نضاله، غير المجدي، هو المنفي، فيما آثرت هي البقاء في الداخل وعملت مع "اليهود" وتمكنت من ان تربي وتعيل جماعة الاطفال الذين كانت تنجب واحداً منهم، إذ تحمل من زوجها في كل مرة يلتقيان فيها في المغارة -، هذا الثقل كان واضحاً طوال مجرى الفيلم، وضوح ثقل التاريخ الذي أراد النص ان يرويه. وفي يقيننا ان التفاوت الذي نذكره هنا انما يؤكد، من جديد، ان يسري نصرالله هو من طينة السينمائيين المؤلفين - أي الذين لا يحققون افلامهم الا انطلاقاً من نصوص وسيناريوات يكتبونها بأنفسهم "مرسيدس" و"سرقات صيفية" وحتى "صبيان وبنات"، أفلامه القديمة تأتي لتؤكد هذا. لذا كان من غير المنطقي له ان يغوص في ادغال موضوع ليس له... موضوع من الواضح ان ما حمّسه الى الخوض فيه، هو تلك الرغبة التي تخامر عادة، عدداً كبيراً من المبدعين العرب، بتحقيق "ملحمة فلسطين الكبرى"... تماماً كما خامرت دائماً كل الكتّاب العرب رغبة كتابة "تغريبة فلسطين". غير ان هؤلاء، وأولئك فاتهم - للأسف - ان تصوير فلسطين، كتابةً او سينمائياً، لا يمكن ان يكون على شكل عمل اجمالي: فلسطين هي تفاصيل. ما في فلسطين - الذي يفترض ان يشكل مسار العمل، نظرياً - لا تمكن رؤيته - وإبداعه بالتالي - الا من خلال تصورنا لمستقبلها. وأي تصور للمستقبل لا يمكن ان ينبني الا على التفاصيل. وإدراك جوهر هذه التفاصيل وضرورتها، ثم فاعليتها الابداعية لا يتعين عليه، أبداً، ان ينسى استحالة كتابة الملحمة الفلسطينية او تصويرها... وذلك لسبب بسيط هو انها موجودة بالفعل: في عشرات الأعمال التي كتبت من قبل، منذ غسان كنفاني ونبيل خوري الى يحيى يخلف ورشاد أبو شاور، قبل ان تأتي كتابات إميل حبيبي وأشعار محمود درويش لتقول الشيء الآخر: تفاصيل فلسطين ويومياتها الراهنة بصفتها كتابة. وأمام حماقة هذه الأعمال، كماً ونوعاً، كان من الواضح ان كتابة "الملحمة الفلسطينية" لا يمكن ان تكون إلا تجميعاً لمقتطفات من كل تلك الاعمال. والكاتب الياس الخوري صاحب "باب الشمس" فعل هذا - ومهما كان رأي الآخرين وانبهارهم ب"باب الشمس" -: كتب عملاً هو اشبه بأنطولوجيا لكل الادب الروائي - والشعري والسياسي حتى - الذي كتب عن فلسطين من قبل، محققاً مزيجاً موفقاً لكنه يخلو من اصالة ابداعية حقيقية - كانت ميزت اعمالاً اخرى له مثل "الوجوه البيضاء" -. بكلمات اخرى ركب الكاتب "تاريخه" لفلسطين، انطلاقاً من احداث ومشاهد وشخصيات مرت على القارئ اللبيب من قبل - في "حارة النصارى" لنبيل خوري مثلاً، وفي "ما تبقى لكم" لغسان كنفاني وفي اعمال لتوفيق بركات وغيرهم -. وكانت التوليفة ذكية في نصها الادبي... ومريحة لقارئ الرواية الذي كان يمكنه - بحسب رأي ناقد مغربي صديق - ان يقفز عشر صفحات مقابل كل صفحة يقرأها وتستوقفه. تحدٍ مدهش يسري نصرالله، في السيناريو كما في الفيلم، لم يبدُ موفقاً الى هذا الحد: لقد خاض تحدياً مدهشاً. اراد ان يحقق فيلماً ملحمياً طويلاً، انطلاقاً من نص فيه الكثير من البلادة السردية، مقابل لحظات اخرى في منتهى الجمال... والحال ان الحجة "الملحمية" الدائمة التي يلجأ اليها هذا النوع من المشاريع هي "1900" لبرناردو برتولوتشي: تاريخ في خمس ساعات. ولكن اذا كان في امكان يسري نصرالله، كسينمائي، ان يقارن نفسه بمعلم السينما التاريخية الايطالي الكبير، فإن المشكلة هي انه كان في حاجة الى نص سينمائي يضاهي موهبته. ومن هنا كان عليه ان يخضع لواحد من اختيارين: فإما ان يكتب نصاً خاصاً عن فلسطينه الخاصة، كما يفعل عادة كبار المبدعين، وهو بالتأكيد كان قادراً على هذا، وإما ان يأخذ من "باب الشمس" جوهرها فيختصر ويختصر. وهو كان في امكانه ان يختصر بالتأكيد نصف احداث الرواية ونصف ساعات فيلمه، ولا سيما منها تلك التي تعطينا معلومات أولية - ألم يحن الوقت لولادة تاريخ جديد يعيد النظر فيها؟ -، او تلك التي تصور "خيانات" الانظمة مقابل "رغبات الناس البطولية" وهو ما سبق ان شاهدناه وبالتبسيط نفسه في كل الافلام السورية التي حملت تواقيع محمد ملص واسامة محمد وغيرهما... ثم بخاصة تلك الاحداث المقحمة اقحاماً على السرد حكاية شمس التي لا تحمل اي معنى ضمن سياق الفيلم، ثم حكاية زيارة الفنانة الفرنسية الى لبنان... ان كل هذا الزحام ألقى بظله الثقيل على نص كان شديد الازدحام بدوره. غير ان هذا كله كان يمكن ان يمر بسهولة لو كان في خدمته سيناريو مقنع يربط الاحداث حقاً ببعضها بعضاً موفراً لمخرج متميز من طينة يسري نصرالله خامة اولية يمكنه استخدامها بسعادة وهدوء. وفي يقيننا ان هذا كله كان من شأنه ان يجعل لهذا الفيلم مكانة جيدة وكبيرة، ليس فقط في مسار السينما العربية، بل ايضاً في مسار السينما التاريخية. اما بالنسبة الى الشكل الذي اتى عليه، وعلى رغم لحظات سينمائية في غاية الروعة تكشف عن تطور كبير في لغة صاحب "مرسيدس"، فإن "باب الشمس"، بدا وكأنه يجهل التطور الكبير الذي طرأ، ليس فقط على مواضيع السينما الفلسطينية، بل ايضاً على لغتها منذ "عرس الجليل" وصولاً الى "العناية الالهية" مروراً ب"حيفا" و"أطفال جبل النار" و"عرس رنا" وغيرها. فهل نخلص من هذا الى ان الفيلم كما جاء في شكله النهائي اضاع جهوداً كبيرة كان يمكن ان تحقق فيلماً كبيراً؟ الى حد ما اجل. فمن ادارة الممثلين - وبخاصة في تحريك ريم تركي وحلا عمران شمس وخليل - الى تصوير سمير بهزان الذي يضاهي أي تصوير اوروبي مبدع، الى اختيارات يسري نصرالله اللغوية، امامنا هنا عمل فني كبير... لكنه يعجز في جوهره عن ان يتجاوز ما كانت قالته قبله بعقود افلام "فلسطينية" اخرى، طاولت هي بدورها التاريخ لتحاكمه وعلى رأسها "كفرقاسم" لبرهان علوية و"المخدوعون" لتوفيق صالح. وفي يقيننا اننا حاكمنا هذا التاريخ في السينما والأدب حتى حدود جلْد الذات المقيتة... وبات علينا ان نحاكم نظرتنا الى التاريخ ومحاكمتنا له. وهو امر كان يمكن نصرالله ان يتنطح اليه، ملحمياً حتى، لو انه قدم لنا فلسطينه الخاصة، اي فلسطين كل واحد منا... وفهم الدرس الاول الذي اتى يعلمنا اياه: لم يعد من الضروري لنا ان نبدأ دائماً من الصفر.