«يا أنت.. كيف أحكي لك أو معك أو عنك»؟ من هذه الجدلية المركبة والمربكة ينطلق فيلم «باب الشمس» بمحوريته السردية وقصصه المتشعبة ليشرح كيفية تحول الذاكرة إلى ما يشبه الوطن الدائم من خلال علاقة الإنسان بماض لم يمض! إلى درجة أن يتحول عند الفلسطينيين إلى زمن مؤجل يحكي آلاف القصص عن الحرب والحب، عن الموت والحياة، الوطن والمنفى، وعن الرحيل والعودة، يحكيها جميعا ضمن إطار تاريخي بصري تدور حبكته في الذات الإنسانية، ومواجهتها مع الذوات الأخر في الزمن الواقعي والمتخيل. عبر تلك المسافة الضيقة بين عالمي الواقع والمتخيل؛ يعيد فيلم «باب الشمس» تشكيل تاريخ ملحمي بذاته بحيث يصبح أقرب إلى قصيدة سيمفونية، أو وثيقة أنثروبولوجية توثق القضية الفلسطينية، وسيرة الإنسان الفلسطيني خلال أكثر من 50 عاما، لكن عبر أدوات السرد وممكناته بحيث يصير تناسل الأحلام وتتاليها حلما كبيرا واقعيا يفتت كل العوالم التي تبنى على الخطاب الروائي المتخيل، حين تتحول تفاصيل حياة شخوص الفيلم من كونها سيرة سردية لواحدة أو اثنين من أفراد هذا الشعب إلى تشكيل حالة فسيفسائية تجمع في تركيبتها سيرة الجميع معا من خلال الفرد الواحد. تحطيم الأيقونات يتشكل بناء الفيلم في صيغته التركيبية بين عالمين يتنازعان السرد: الأول روائي يسعى عبر زخم التفاصيل التاريخية المقدمة بصريا إلى تشكيل صورة ملحمية لحياة أبطاله، والثاني وثائقي يدمج ما بين الحدث، وبين ردود الأفعال عليه ليقود المشاهد إلى أعماق الذات البشرية، وتقام الحبكة الروائية في الفيلم وجزأيه من قصة «يونس» وحبه ل«نهيلة» وحربه ضد الإنجليز ثم الصهاينة، واغترابه، وزياراته السرية إلى قريته يرويها «الدكتور خليل» الذي يعتبره بمثابة أب له. و«من الأول» كما كان يردد يونس بعد كل نكبة تصيب الشعب الفلسطيني، ومن هذه القصة تتوالد وتتقاطع آلاف القصص التي تكون في مجموعها التغريبة الفلسطينية التي تنتهي بالفيلم إلى توريث الابن «خليل» تركة أبيه «يونس» بعد مقتل حبيبة خليل «شمس». ويدور المبنى السردي للفيلم ليخلق شيئا من المطابقة بين الراوي والمروي عنه، أي بين الدكتور خليل وبين يونس المسجى في غيبوبة تنتهي بموته. وهنا تكمن الحبكة الدرامية الأساسية المنقولة تبعا للمبنى الروائي ذاته الموجود في الرواية الأصل التي أخذ عنها الفيلم كون كاتب الرواية إلياس خوري اشترك بنفسه في كتابة الفيلم. فخليل هو ذاته يونس ولكن مصاغ بلغة الحاضر، ولهذا ينتهي الفيلم ببداية أخرى يعبر عنها توجه خليل متسللا إلى الجليل وإلى «مغارة باب الشمس» كما كان يفعل يونس. تلعب فلسفة الصورة والبناء السردي في الفيلم والرواية على كسر أيقونتي البطل الأسطوري، والضحية الضعيفة من خلال التركيز على أنسنة الفلسطيني، والإيقاعات الشخصية لأفراد الحكاية، وكل ما يتصل بذلك من مشاعر وأحاسيس وهواجس تساوي بين الحب والوطن، كما يركز السرد على تمثيل المرأة التي تختزل القضية الفلسطينية ومراحلها في كل الشخوص النسائية «نهيلة، شمس، أم حسن، شاهينة..». أما من حيث التقنية السينمائية، فيسجل للمخرج المصري يسري نصرالله الجهد والتحضير الذي استنزف أربعة أعوام، وعبقريته في الإمساك بمفاتيح الصورة وقفزاتها الزمنية «أمام– خلف» عبر المزج بين اللقطات القصيرة السريعة، وبين اللقطات الطويلة في انسيابية سلسة تنتج مادة بصرية جزلة، كما لجأ في بعض المَشاهد إلى تثبيت الكادر بضع ثوان لإتاحة فرصة للتأمل وإثارة الخيال وخلق إحساس بالترقب والحيرة والغموض، وكذلك التقنية العالية في الموسيقى والمؤثرات الصوتية والأزياء. وهذه ربما واحدة من أهم ميزات الإنتاج المشترك وتمويلاته الضخمة. فالفيلم إنتاج أوروبي مشترك، لم تشارك فيه سوى جهة عربية واحدة هي قناة «إم–2» المغربية رغم كونه يتحدث عن القضية الفلسطينية، وهو ما يندرج ضمن أطر الصراع بشكلها الثقافي الموجه، وشكلا من كسر السيطرة الهوليوودية على الإنتاجات الضخمة. فيلم «باب الشمس» هو قصة القصص، ووثيقة بصرية جديدة لرؤية الإنسان الفلسطيني مبنية على تقويض مفهوم العلاقة بالتاريخ من خلال متواليات قصصية. فالقصة تفتح على قصة، والحكاية تنجب حكاية تروى أكثر من مرة، وبطرق مختلفة، وباختصار هو سيرة الشخص الفرد في حياته التي تشكل حركة التاريخ .