العمامة السوداء غير المستقرة على رأس السيد مقتدى الصدر، تمسك بجسم الشاب وتمتص بعضاً من الاضطراب الذي يشكل العلامة الأولى التي يمكن ان يبعثها مقتدى في نفس رائيه. انه شاب غير ممسك زمامه. انطباع يمكن ان تولده مقابلة قصيرة مع وارث المرجعية الصدرية. هناك في النجف، وفي ذلك الزقاق الضيق القريب من الصحن العلوي، مكتب صغير تتوزع حوله غرف يجلس فيها عشرات المريدين يتوسطهم شيخ من تلامذة والد مقتدى، السيد محمد محمد صادق الصدر. اما الغرفة النواة فيتزاحم فيها مئات المريدين المنتظرين ان يمد لهم السيد يده التي لشدة رخاوتها تجعلك انت الذي مددت يداً مشدودة ومنقبضة حائراً بما عليك ان تفعله بها. يشيح الشاب بوجهه كلما حاولت، انت محدثه الغريب الآتي من بلاد بعيدة، ان تثبت نظرك في عينيه. ستشعر ان الأمر يتعدى خجل شاب في عمره. شاب وجد نفسه بين ليلة وضحاها في مواجهة حشد هائل من المريدين، ومن المرجح ان مقتدى لم يعد نفسه لهذا الوضع. الجمل التي تخرج من فمه غير مكتملة، ويعوزها الكثير من الانسجام حتى تؤدي ما يحاول قوله. هذا الأمر لا ينسجم مع وظيفة الشاب المعمم الذي من المفترض انه آتٍ من تجارب يشكل الكلام فيها وظيفة واسلوب عيش. فأصحاب العمائم في العراق رجال مفوهون على نحو لم يبلغه غيرهم، لكن مقتدى متعثر في هذا المجال واستعاراته اللغوية الشفهية غريبة عن متوسط الكلام في العراق. انه الابن الرابع للسيد محمد محمد صادق الصدر، اما شقيقاه الكبيران، مؤمل ومصطفى، فقتلا مع والدهما عندما اغتاله النظام العراقي عام 1999، وبقي حياً من الأبناء الذكور للصدر الثاني الصدر الأول بحسب التعريف العراقي هو السيد محمد باقر الصدر ابناه مرتضى ومقتدى. وفي التاريخ الحديث للعراق غالباً ما يؤرخ للسياسة بالدم، اذ افتتح والد مقتدى تصديه للشأن العام عندما استلم جثتي ابني عمته السيد محمد باقر الصدر وشقيقته بنت الهدى اللذين اعدمهما النظام في ثمانينات القرن الفائت. حادثة استلام الجثث هذه تروى في العراق ويقصد منها شيء يشبه استلام العباءة عندما تنتقل الزعامة العشائرية الى وريث جديد. فعلى رغم ان لبلوغ المرجعية في العراق شروطاً علمية وحوزوية، لكن توافر شروط اخرى مثل الانتماء الى عائلة تملك تاريخاً في هذا المجال يبدد مصاعب كثيرة في وجه الساعين الى التصدي لها. وبالنسبة للسيد محمد محمد صادق الصدر ابن تلك العائلة الخارجة الى العراق من مدينة الكاظمية، والمجاورة لمرقد الامام الكاظم التي يفصلها عن بغداد نهر دجلة وجسر عملاق وقبله بمسافة قصيرة جامع ابو حنيفة النعمان في ساحة الأعظمية، فإن تذكير المؤمنين بنسبه "الصريح والواضح في انتسابه الى اهل البيت وصولاً الى الأمام موسى بن جعفر" امر يتكرر في اكثر من خطبة، الى ان يقول: "ما بين ابي وجدي موسى بن جعفر آثاري كلهم ما بين زاهد وعابد وعالم". "في منزل السيد محمد محمد صادق الصدر ثلاث من بنات السيد محمد باقر الصدر"، هذه العبارة عندما تسمعها في العراق فإن القصد من قولها تعزيز حقيقة انتقال الزعامة الصدرية الى الصدر الثاني والد مقتدى، اذ زوّج السيد محمد ابنائه الثلاثة، مصطفى ومؤمل ومقتدى، لبنات السيد محمد باقر، فأضاف بذلك شرعية اخرى الى زعامته، كان باشرها عندما استلم جثث ابن عمته وشقيقته. لكن لواقعة التزويج هذه وجهاً آخر، فهؤلاء اليتيمات اللواتي فُجعن باعدام والدهن وعمتهن كان عليهن ايضاً ان يفجعن بمقتل ازواجهن عندما اقدم النظام على اغتيال الصدر الثاني وولديه، واذا قمنا بتعداد الأيتام والأرامل الذين صار على مقتدى ايواؤهم ورعايتهم في منزله، بين والدته واشقائه وابنائهم وزوجاتهم، وشقيقته التي فجعت ايضاً باغتيال زوجها، فإن الصورة ستُظهر مأساة صدرية وعراقية من نوع خاص، يبدو انها اصابت شقيق مقتدى الأكبر والوحيد الذي بقي على قيد الحياة وهو السيد مرتضى الذي "انزوى" وانقطع عن الاحتكاك بالناس. وفيما يقول مناصرو الصدر عنه انه منصرف الى دروسه الدينية يؤكد آخرون يمتون الى العائلة بصلة ان الرجل اصيب بانتكاسة جراء المآسي المتعاقبة على العائلة. اما مقتدى الذي يؤكد مناصروه نجاته من المأساة ووقوفه نهار دفن والده كال"أسد" بين المعزين، فإن لهذا التوكيد دلالة مفرطة على حجم المخاوف التي اثيرت حول وضعه من تلامذة والده ومناصريه. فالشاب لم يكن بلغ الخامسة والعشرين عام 1999 حين قتل النظام والده وشقيقيه، وهو ايضاً صغير الأبناء واكثرهم شعوراً بغياب الوالد والأشقاء الكبار، وبمعنى آخر اكثرهم يتماً. وقد يكون من الصعب على شاب هذه ظروفه ان ينجو من وضع كهذا، خصوصاً انه ابن عائلة دينية لطالما كبر ابناؤها في ظل آبائهم وتحت رعايتهم الحثيثة، فالأب في هذا النوع من العائلات هو الصورة الوحيدة للرجل، وغيابه على هذا النحو المأسوي لا يمر من دون آثار. هذه الوقائع ليست احداثاً حصلت في الماضي. فوالد مقتدى اغتيل عام 1999، اي قبل اقل من خمس سنوات، ثم ان الأموات في العراق يستمرون في اشعار المحيطين بهم بموتهم الى عقود طويلة وربما الى قرون. وما يجري هذه الأيام في النجف ومدن الجنوب العراقي لا بد انه يمت بصلة ما الى تلك الوقائع. فمقتدى لم يبق اضطرابه في اطار غياب الانسجام عن الجمل التي ينطقها، انما نقله الى ادائه السياسي، الى ان صرنا وفي اليوم الواحد نسمع عن بيانات يطلقها، يدعو في بعضها الى جهاد الأميركيين وقتالهم، وفي بعضها الآخر يعلن استعداده للتفاوض والهدنة. طبعاً قد يكون من التسرع رد ذلك فقط الى شخصية مقتدى، اذ ثمة تشابه بين حاله هذه وبين حال قاعدته المتذررة في المدن الشيعية كافة. هذه القاعدة المترجرجة بين علاقتها بمرجعية والد الصدر الخلافية، وبين صلتها بالمرجعية الدينية التقليدية المتمثلة بالسيد علي السيستاني، والتي تصلها الفتاوى والاشارات مشوشة ومن اكثر من جهة، كفيلة بتعزيز حال عدم الانسجام الذي يتسم به اداء تيار "الحوزة الناطقة" الذي يتزعمه الصدر. والمعروف ان السيد محمد محمد صادق الصدر خرج على نخبوية الحوزة الدينية في العراق وعلى وظيفتها التقليدية وباشر علاقة مع العشائر العراقية اتاحت له صلات واسعة بأبناء العشائر تتعدى صلة المراجع الآخرين، وربما صارت قضية كتاب "فقه العشائر" الذي توج علاقة والد مقتدى بهؤلاء المريدين، من الأمور التي اشير اليها اكثر من مرة في سياق الحديث عن تيار الصدر اليوم. لكن الأحداث الأخيرة كشفت وجوهاً اخرى، وسمحت بتقص يبتعد قليلاً عن الاستنتاجات الأولى. ففي وقت يجتمع وجهاء عشائر مدينة الثورة في بغداد في مكتب "السيد الشهيد" ويبرز بعضهم وكالات شرعية كان السيد محمد الصدر منحهم اياها ليمثلوه في فض النزاعات وتحصيل الحقوق، كان سادات عشائر النجف يوجهون رسالة الى جيش المهدي يطلبون منه فيها مغادرة المدينة وتسليمها الى الشرطة العراقية والى ابناء العشائر النجفية. انه تفصيل جوهري في محاولة فهم القاعدة السياسية والاجتماعية لتيار الصدر. ويفسر مسؤول العلاقات الخارجية لتيار الصدر الشيخ حسن الزرقاوي في لقاء مع "الحياة" إقدام سادات عشائر النجف على هذا الطلب بأن "ابناء النجف وعشائرها هم من التجار المتضررين من حال الحرب مع الأميركيين، لكننا نتمتع بدعم كبير من العشائر المقيمة في محيط النجف، ولهذا نراهم يناشدون عناصر جيش المهدي الذين هم من خارج المدينة الخروج من النجف وتسليم اسلحتهم الى ابنائها"، اما زهير وهو من ابناء المدينة فيقول: "ان عشائر النجف تقيم علاقات متينة مع المرجعية التقليدية، في حين يتمتع تيار الصدر بدعم من العشائر النازحة الى المدينة من مدن اقصى الجنوب وتحديداً من محافظتي العمارة والبصرة، وهؤلاء نزحوا الى النجف على فترات خصوصاً بعدما منعهم النظام السابق من النزوح الى بغداد". وتتكرر هذه المعادلة في بغداد، لكن على نحو اوسع. فأبناء مدينتي الصدر والشعلة من العشائر الفقيرة النازحة الى بغداد من مدن اقصى الجنوب. ووسط هؤلاء يتسع تيار الصدر ويقوى. اما ابناء منطقتي الكاظمية والكرادة فهم من الشيعة المستقرين في بغداد منذ قرن على الأقل، ووسط هؤلاء البغداديين يضعف تيار مقتدى ويتلاشى. قلق النازحين واضطرابهم والنتائج المترتبة عن انسلاخهم عن عشائرهم ومحاولتهم صياغة لحمة عشائرية متصلة ومنقطعة في آن عن اللحمة العشائرية الأولى، يشكل مادة العنف الأولى ولكن ليست الوحيدة التي تغذي احداث الجنوب العراقي اليوم. انه اليتم ايضاً، يتم جماعي تماهى مع يتم مقتدى، بعدما كان وجد في السيد محمد محمد صادق الصدر والداً يستعيض فيه عن العشيرة التي صدر عنها وغادرها لظروف الحرب او الفقر. اذاً القضية بدأت مع والد مقتدى الذي افرج عنه النظام العراقي عام 1992 بعدما سجنه عام 1985 على خلفية القرابة التي تربطه بمحمد باقر الصدر. ولكن عام 1992 شهد حدثاً آخر في العراق تمثل بوفاة السيد ابو القاسم الخوئي مرجع الشيعة في العراق والعالم، وما اعقب وفاته من اضطراب في المرجعية، اذ ثمة من يربط بين حادثتي وفاة الخوئي والافراج عن الصدر، ففي ذلك الوقت برز ثلاثة مراجع جميعهم من اصول فارسية وهم السبزواري الذي توفي بعدها بشكل طبيعي، والغروي والبروجردي اللذان اغتيلا عامي 1996 و1997، ثم تلاهما في المرجعية السيد علي السيستاني الذي اعتكف في منزله ولم يخرج منه حتى يومنا هذا. وفي هذا الوقت، اي بين 1992 و1999، كان السيد محمد صادق الصدر يؤسس لمرجعية جديدة على العراقيين، لا تستمد شرعيتها من الانقطاع في القراءة والتأليف والتعليم، وانما اولاً من الاتصال بالناس وتعززها بنقاء الأصل وزهد الأجداد. اشارات كثيرة اطلقها السيد محمد الصدر ويختلف العراقيون اليوم على تفسيرها. فهو كان يكرر في خطبه ان اميركا واسرائيل ستقومان بقتله قريباً، وكان يطلق من المنابر شعاره الشهير "لا لا اميركا... لا لا اسرائيل"، وفي حين يربط انصاره اليوم بين شعاره هذا وبين حربهم على الأميركيين ويشيرون الى ان صدام حسين كان اداة اغتياله بأوامر من اميركا، يرى معارضون لتياره من الشيعة ان شعاره هذا كان خطباً لود النظام الذي كان في ذلك الوقت في ذروة ازمته وحصاره من جانب الأميركيين. الأمر نفسه يتكرر في قضية صلاة الجمعة التي اطلقها محمد الصدر والتي لا يعتقد الشيعة بوجوبها في ظل حاكم غير عادل. ففي عام 1997 باشر والد مقتدى صلاة الجمعة في مسجد الكوفة وطلب من تلامذته في المحافظات والمدن العراقية الأخرى اقامة هذه الصلاة، ويقول مناصروه اليوم ان هذه الصلاة كانت مناسبة للتنديد بالنظام في حين يكرر المعارضون الشيعة الكثر لتيار الصدر ان اقامة هذه الصلاة كانت بمثابة اعطاء شرعية لنظام صدام حسين وذلك لاعتقاد الشيعة ان اقامتها تعني بالضرورة اننا نعيش في ظل حاكم عادل. ولكن وفي هذا الوقت ايضاً بدأ الصدر بتوسيع شبكة مدارسه ومكاتبه مستفيداً من توسع قاعدة مقلديه من ابناء العشائر المتصدعة والمتذررة، وايضاً من بروز نزعة عراقية بضرورة تعريب الحوزة وتقليد مراجع من اصول عربية، بعدما جددت الحرب العراقية - الايرانية مشاعر الشيعة العرب. قتل النظام السابق السيد محمد محمد صادق الصدر بعدما شعر ان نفوذه بدأ يشكل حالة يصعب ضبطها في المستقبل. في النجف وعلى مقربة من الصحن العلوي تعرضت سيارة السيد لكمين اودى به وبولديه. مقتدى لم يكن في حينها بين ركاب السيارة. خصوم الشاب يقولون اليوم ان والده لم يكن شعر بنضجه، ولهذا لم يكن يصطحبه معه. اما انصاره فيقولون ان مقتدى ارتدى العمامة عام 1988، فإذا كان صحيحاً ما يقوله هؤلاء ايضاً انه من مواليد 1974، فيكون اعتمر العمامة قبل ان يبلغ الرابعة عشرة، واذا اضفنا ذلك الى ما يوصف به ابناء هذا النوع من العائلات لجهة هشاشة يفاعتهم ووقوعهم في آتون الألتحاق بالأب النموذج والأب المطلق، فإن ذلك يعيق بلا شك نمواً وكِبراً بمعزل عن حياة الوالد، الذي ومن قبره يستمر في تغذية الخيال وتوجيه السلوك. ولكن اين مقتدى اليوم من والده، وما هو موقعه وطموحاته كابن للعائلة الصدرية انتهت اليه زعامتها؟ بعد اغتيال والده لا تثبت الروايات ان الشاب تصدى لما كان والده تصدى له. حكايات قصيرة ومن دون دلالة يرويها القريبون منه عن حياته في الفترة بين مقتل والده وسقوط النظام في العراق. اذ تلقى الشاب التعازي في مكتب الوالد في زقاق الحمائر في النجف، وفي اليوم الثاني اقفلت الاستخبارات العراقية هذا المكتب، وحوصر السيد مقتدى بسيارات الأمن ترافقه اينما ذهب بحجة حمايته، وترافق ذلك مع حملة اغتيالات شملت عدداً من وكلاء محمد الصدر وطلابه في المناطق العراقية المختلفة. وفي هذا الوقت يبدو ان مجموعة من طلاب الصدر الثاني تولت الاشراف على شبكة مدارسه ومقلديه بالتنسيق مع السيد كاظم الحائري المقيم في قم والذي كان الصدر اوصى مقلديه باتباعه. هؤلاء الطلاب هم ستة اشخاص سيشكلون بعد سقوط النظام العراقي المجلس الذي يتولى ادارة تيار الصدر في العراق، وربما فاقت ادوار بعضهم دور مقتدى بما يجري اليوم في العراق، ومن بين هؤلاء الشيخ قيس الخزعلي وهو اليوم الناطق الرسمي باسم جيش المهدي والشيخ جابر الخفاجي قاضي المحكمة الشرعية التابعة ل"الحوزة الناطقة" والشيخ مصطفى اليعقوبي والسيد محمد الطباطبائي والسيد رياض النوري وهو نسيب آل الصدر ومن النافذين في جيش المهدي. قيادة يعوزها الكثير من شروط القيادة لقاعدة على هذا القدر من الاضطراب لا بد ان تنتج مأزقاً من النوع الذي تقع النجف في آتونه اليوم. فهؤلاء المشايخ لا عباءة مرجعية تضمهم اليوم، الحائري يقول انهم لا يمتون اليه بصلة سياسية، والسيستاني يتنصل من اي علاقة له بهم، ولكن، ومن جهة اخرى، تنسج ايران علاقة بهم ثم تعود وتتركهم في العراء، ثم يعود السيستاني فيلوّح بهم خلال مفاوضته في قضية الدستور لكنه لا يكمل ذلك الى الأخير متذكراً على الأرجح عداءهم الضمني والعميق للمرجعية التقليدية. يستولون على المدن فتتخلى هذه عنهم، ويعلن معظم القوى الشيعية براءته منهم. لكن ابناء العشائر المتصدعة الملتحقين بتيار الصدر وبجيش المهدي يضاعفون من حنقهم على "اهلهم"، تماماً كما يضاعف اليتيم حنقه على اعمامه الذين اهملوا رعايته. انهم ايتام الصدر وايتام النظام البائد وايتام المرجعية، في بلد يشكل الأيتام فيه غالبية السكان. يقول احد مساعدي مقتدى الصدر ان هذا الأخير قضى نحو ستة عشر عاماً في الدراسة الحوزوية وهذا ما اهله للخوض في دروس الخارج، وهي المرحلة التي تسبق التصدي للمرجعية، وانه تتلمذ على الشيخ اسحاق الفياض. هذا الأمر يشكك فيه الكثير من العراقيين، لكن انصار مقتدى يستعجلونه "المرجعية" لشعورهم انها حصنهم في هذا العراء الذي يعيشون فيه.