بعدما تناولت الحلقة الثانية السعي الحثيث لكل من النظام العراقي والسيد محمد صادق الصدر لامتلاك النفوذ في اوساط عشائر مدينة الثورة، والذي ادى الى النهاية المأسوية للسيد وولديه، تتناول حلقة اليوم الارث السياسي الذي خلفه الصدر لنجله الوحيد الذي بقي على قيد الحياة، مقتدى، والاتجاهات الرئيسة لحركته. ازدحام المراجعين في مكتب مقتدى الصدر في النجف يبلغ ذروته في الحادية عشرة صباحاً، فهو الموعد الذي يفتح فيه الباب امام من يرغب بالدخول. انه مكتب الحوزة العلمية "الناطقة" في النجف، وهو عبارة عن دار ضيقة تتوزع حولها الغرف التي يجلس فيها على ارائك مشايخ شبان تغص غرفهم بالمراجعين الذين يدورون حول غرف المشايخ لينتهوا في نهاية دورتهم امام الغرفة الكبيرة المخصصة للصدر الابن. انه شاب يختلف مؤيدوه الكثر مع معارضيه الكثر على عمره. فالمؤيدون يقولون ان عمره 31 فيما يؤكد معارضوه انه لم يتجاوز ال25. وجوهر هذا الاختلاف ان المؤيدين يدركون ان الزعامة الدينية لا يمكنها ان تستقيم في النجف من دون بلوغ عمرٍ يتيح انهاء مراحل دراسية لم تبلغها المرجعيات الأخرى الا على ابواب الشيخوخة، وبالنسبة الى المعارضين فإن عمره الصغير لا يؤهله لما هو عليه الآن. تتفاوت شخصية الشاب بين خجل ونكوص، وبين احتراف في مواجهة المراجعين بجسم متنصلٍ ويدٍ تعطى للمصافحين كي يتصرفوا بها كما يشاؤون. الوجه دائماً هائم، ومتفلت، وهو كمعظم صوره المنتشرة في منطقة الثورة، مطرق ومبعد صفحة الوجه عن النظر المباشر. قد لا تنسجم مُداراة السيد الصغير لخجله وإطراقه وجهه، مع تلك السمعة التي لحقت بتياره من جراء اتهام عناصر منه بقتل السيد عبدالمجيد الخوئي، لكن ثمة ماكينة مشايخ كبيرة تعمل حوله وتوجه المراجعين للتعامل معه متجاوزين حداثة سنه. انها الماكينة المكتب الشرعي ل"الحوزة الناطقة"، اعضاؤها طلاب سابقون للسيد محمد صادق الصدر، وهم على رغم انهم يفوقون مقتدى عمراً وربما علماً، لكنهم يقدمونه على انفسهم، وهو امر غريب الى حد ما عن تقاليد الحوزة النجفية التي يعتبر العمر والدرجة العلمية محددين رئيسين في شعائر تبادل التحيات ولعب الأدوار. اما المراجعون فتراوح مراجعاتهم بين الاتيان بمسحوق عصير جديد للسؤال عن صلاحية شربه وبين عرض المشكلات الزوجية. وهذه الطريقة في العلاقة مع جمهور المؤمنين هي امتداد لنوع العلاقة التي تربط والده بجمهور مقلديه. نعم نعم للحوزة لمقتدى الصدر او لمكتب السيد الشهيد شبكة واسعة من الحسينيات والمساجد في مدينة الثورة. تشكل هذه الشبكة مراكز استقطاب لمنخرطين قديمين وجدد في حركة الصدر، ويطلق هؤلاء على انفسهم تسميات مختلفة، منها انهم من مكتب السيد الشهيد، او ابناء الحوزة الناطقة او الفاعلة. وهم اكثر من نوع وفئة، من بينهم "الغوغاء" الذين قتلوا السيد عبدالمجيد الخوئي نجل المرجع الديني السيد أبو القاسم الخوئي، ومن بينهم ايضاً طلاب في الحوزة الدينية. ويقول عدد من اهالي بغداد ان من بين المنخرطين في حركة الصدر بعثيين سابقين كانوا في الدرجات السفلى من السلّم الحزبي. انهم يشكلون عامية الشيعة العراقيين مع ما تتضمن العامية عادة من خليط متحمسين ومتسلقين. والمادة التي بين ايدي هؤلاء لا شك في انها مادة انفجارية، فهم محل شكوى الكثير من العراقيين ومن القوى السياسية الشيعية وغير الشيعية على حد سواء. اخبار كثيرة يتناقلها العراقيون عن قيام انصار "الحوزة الناطقة" بالطلب من النساء في بغداد التزام العباءة، وإرسالهم تهديدات الى دور السينما ومحال بيع الأشرطة الموسيقية في مدينة الثورة، هذا بالنسبة الى الممارسة اليومية، اما على مستوى الاعتقاد، فالخطاب الجاهز الذي يواجهونك به مملوء بالاشارات الدالة الى خلافات واسعة مع المراجع الدينية والأحزاب الشيعية الأخرى. خلافات تصل الى حد نفي اي شرعية لأي مركز قوى آخر. فيقول المسؤول الاعلامي في مكتب الصدر الثاني الشيخ محمود الشحماني: "السيد الشهيد عندما يقول: نعم نعم يا ربي نعم نعم للمهدي نعم نعم للحوزة. يقصد بالحوزة الحوزة الناطقة. وبما ان الحوزة واحدة فلا وجود لأي حوزة اخرى غير ناطقة"، ويلفت الى ان السيد علي السيستاني لم يخرج بعد الى الناس، في اشارة الى صمته وامتناعه عن لعب دور المرجع الذي من المفترض، وبحسب قناعات "الصدريين" الجدد، ان يشمل مختلف نواحي الحياة السياسية وغير السياسية. ومآخذ "الصدريين" على السيستاني ستصطدم في ما لو امتثل لدعواهم بالخروج الى الناس والحكم فيهم، بتلك الحساسية الحادة التي تكتنف علاقة القاعدة الصدرية مع اي مرجعية غير عراقية الأصل. ومن هنا، فإن عدم انسجام واضح في الخطاب الصدري يمكن رصده بسهولة في الجملة الأولى التي يسمعونك اياها. فمقتدى كرر ل"الحياة" اكثر من مرة ان حساسية السيستاني التي تعوق تصديه للمرجعية العملانية هي انه من اصول غير عراقية. ويضمر هذا الكلام موافقة على امتناع السيستاني عن الخوض في الشأن العام، على قدر ما يضمر انتقاداً وشكوكاً باستحالة المرجعية في العراق على غير العراقيين. ولكن امام الصدر الابن معضلة اخرى تتمثل في ان والده اوصى بتقليد المرجع الإيراني الأصل كاظم الحائري، واذا اراد مقتدى محاكاة مشاعر مؤيديه، فإن ذلك سيضعه امام خيارات صعبة بين وصية الوالد وما تعنيه من تحويل للإرث السياسي والمرجعي الى زعامة دينية نجفية تعود بأصولها الى ايران، او التمسك بالزعامة الزمنية في انتظار التصدي للمرجعية الدينية، وهذا ما يبدو ان مقتدى في صدده. فالحائري الذي ارسل الى النجف شقيقه ليمثله لم يلق على ما يبدو ترحيباً كبيراً من مكتب الصدر الثاني، لا بل ان مقتدى الصدر نفسه لمح في لقائه مع "الحياة" الى ان عدم عودة الحائري نفسه الى النجف ستؤدي الى ابتعاد مريديه عنه، في اشارة واضحة الى عدم الاعتراف بمكتب الحائري المستحدث في النجف. ويبدو ان ظاهرة مقتدى الصدر تشغل حيزاً كبيراً من اهتمام القوى الشيعية في العراق، اذ تشعر هذه القوى ان تيار الصدر قوة غامضة وواسعة، ويتحدث قادة الأحزاب الدينية عنها بصفتها جديدة وغريبة عن تقاليد العمل الحوزوي. قد تسمع اصواتاً من هذا النوع عندما تلتقي مسؤولين في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، او في حزب الدعوة بجناحيه. ثم ان هناك حراكاً في اتجاه مختلف داخل تيار الصدر نفسه، فهذا هو الشيخ محمد اليعقوبي، وهو احدى ركائز تيار الصدر، يعلن خلافه مع مقتدى ويؤسس حزباً يطلق عليه اسم حزب "الفضيلة الاسلامي". ويقول قريبون من اليعقوبي ان الهدف من تأسيس الحزب ايجاد اطار تنظيمي لهذا التيار الواسع، ثم تحديد العلاقة وتوضيحها مع السيد الحائري. ويبدو ان تيار اليعقوبي اكثر قرباً وتقبلاً لمرجعية الحائري من مقتدى الصدر والقاعدة الأوسع التي ما زال يمثلها. صورة صغيرة للخميني على مدخل جامع المحسن في مدينة الثورة كتبت لافتة كبيرة لتهنئة السيد مقتدى بعودته من زيارة جده الأمام الرضا في مدينة مشهد الايرانية، وهي الزيارة التي استمرت اكثر من اسبوع وقيل في بغداد ان الايرانيين ألزموا مقتدى تمديدها بهدف محاولة استمالته. مسجد المحسن هو المسجد الوحيد الذي تقام فيه صلاة الجمعة في الثورة. الصلاة داخل المسجد للنساء، اما الرجال فيتجمع آلاف منهم امام ساحة المسجد مصطحبين معهم سجادات الصلاة، ويبدأون بالتوافد قبل الصلاة بساعات لحجز اماكن لهم قريبة من الإمام الخطيب الذي يتولى نقل ما يحدده له مكتب السيد الشهيد الثاني في النجف. ويتولى تنظيم صفوف المصلين شبان وضعوا على قمصانهم بطاقات كتبت عليها عبارة "مكتب السيد الشهيد - الحوزة الناطقة"، مذيلة بأسمائهم. باعة يتجولون بصور الصدر الثاني وكتيباته وأطفال يبيعون الصحيفة التي تصدرها "الحوزة الناطقة"، وعلى الجدار الخارجي للمسجد صور الصدر الأب والابن، والى جوارها وضعت صور المراجع الشيعية الأخرى كالخوئي والسيستاني، وبينها صورة صغيرة للخميني، ولكن لا اثر لصورة الخامنئي. الشباب هم السواد الأعظم من المصلين، ربما كان هذا بسبب الحر الشديد خارج المسجد، ولكن ايضاً حركة الصدر حركة شبابية في الدرجة الأولى، اذ يبدو ان كهول الشيعة في الثورة وشيوخها وعجائزها أميل الى تقليد السيستاني الذي ورث مقلدي الخوئي. طبعاً يبقى هذا الكلام نسبياً وغير دقيق في ظل غياب اي تقديرات حقيقية لوزن اي مرجعية في العراق هذه الأيام. وتيار الصدر على رغم عمومه وتفشيه في مدينة الثورة، يبقى تياراً غير راسخ ومهدد في ظل هشاشة زعامته وانقساماتها وعدم وضوح هوية المرجعية. وهذا الأمر يرشح هذا التيار للتحول الى قوة غوغاء على قدر ما يرشحه للتلاشي والذوبان. ويمكنك اثناء تجولك في مدينة الثورة ملاحظة قيام مناصري الصدر بتنظيم السير وحماية المرافق العامة، ولكن ستسمع ايضاً بعمليات تصفيات واسعة قام بها هؤلاء بحق مناصرين للنظام السابق. ستجد من يحدثك عن ان البضائع والأغراض التي نهبت من كل المرافق العامة والتي طلبت "الحوزة الناطقة" من مواطني الثورة اعادتها الى الجوامع والحسينيات، وهذا ما فعله الكثير من المواطنين، هي الآن ملك للحوزة. حوّل مقتدى الصدر الجوامع والحسينيات في مدينة الثورة الى مراكز نفوذ له ونقل اليها عدداً من الخدمات والوظائف التي لم يكن مألوفاً ان تُناط بهذه المواقع. فأجبر مناصروه مثلاً عدداً من قوافل المساعدات المتجهة الى مركز الهلال الأحمر العراقي على التوجه الى الثورة وأفرغت حمولاتها في الجوامع والحسينيات التابعة لمكتب الصدر، ووزعت من هناك على الناس. كذلك استدعى مكتب الصدر اطباء كانت دمرت او نهبت المستوصفات التي يعملون فيها، الى الحسينيات التي تحولت الى مستوصفات بديلة بعدما اعيدت اليها المعدات المسروقة من المستوصفات. كل ذلك ينسجم مع ذلك الربط الذي يقيمه الفقه الصدري بين الحوزة وبين الحياة اليومية للناس، والذي يضمر سعياً حثيثاً الى التصدي لمهمات القيادة السياسية، خلافاً لما درجت عليه الحوزة النجفية لجهة حرصها على البقاء في منأى عن الخوض في انقسامات الناس وتوزعهم السياسي والجغرافي، خصوصاً ان الحوزة النجفية كانت موئلاً لمراجع من خارج العراق، وهي لم تكن يوماً على هذا القدر من العراقية. ومن علامات الرغبة الملحة في تعميم القيم الدينية، شروع انصار الصدر بتغيير اسماء الشوارع والمناطق، فيستبدل باسم مدينة الثورة الذي اطلقه عبدالكريم قاسم على المنطقة اسم مدينة الصدر ويحل اسم المهدي مكان اسم ابو النواس على الشارع الشهير الذي يحاذي دجلة والذي يعتبر من علامات بغداد، وكذلك يطلق اسم الإمام الرضا على منطقة واسعة من بغداد لمناسبة زيارة مقتدى لمقام الإمام الرضا في مشهد. ولعل من اشد علامات الرغبة في احتكار السياسة لدى تيار الصدر تلك التظاهرة التي اطلقها مناصرون للمكتب من مدينة الثورة الى حي كرادة مريم حيث يقيم الحاكم المدني الأميركي في قصر الرئيس المخلوع صدام حسين، وهدفت الى المطالبة بأن تعطى الحوزة العلمية الناطقة الحق دون غيرها باختيار الحكومة والموافقة على اعضائها. يجمع اهالي بغداد على ان مدينة الثورة من اكثر مناطق المدينة امناً بالنسبة الى الأميركيين، اذ لم تُنفذ عملية واحدة ضدهم منذ دخولهم بغداد. وتبدو الدوريات الأميركية في الثورة اقل حذراً على رغم تلك العلاقة المعقدة التي تربط المنطقة بالأميركيين. ثم ان الأخبار متفاوتة جداً عن علاقة مقتدى بالقيادة الأميركية، فيلاحظ المراقبون في بغداد ان مدينة الثورة لم تشهد مداهمات فعلية من قوات التحالف، ويتوقفون ايضاً امام حقيقة عدم معاقبة قاتلي السيد عبدالمجيد الخوئي. ولكن يبدو ان الصدر كان يطمح الى ما هو اكثر. ففي وقت كان يؤكد ل"الحياة" رفضه لقاء الأميركيين، كان يحمل عليهم بسبب عدم السماح لموظفين عينتهم الحوزة الناطقة لادارة شؤون الناس بدلاً من ادارات الدولة المنحلة. وأشار الى "ان الأميركيين يمنعوننا من اقتناء السلاح لحفظ الأمن، ويحتكرون الموارد المالية للدولة، ما يجعلنا عاجزين عن الإنفاق على الخدمات العامة". ويبدو ان اشارة مقتدى الى الموارد المالية مرتبطة بقيام مكاتب الصدر بصرف مرتبات لشبان تولوا تسيير بعض الأعمال في منطقة الثورة وغيرها. ويبدو ان مكاتب الصدر تطمح الى مزيد من الأدوار في هذا السياق، علماً ان كلاماً كثيراً تم تداوله عن قيام بعض الحسينيات ببيع مسروقات اعيدت اليها بهدف صرف رواتب لناشطيها. يقول الشيخ الشحماني انه في مكتب "السيد الشهيد" منذ حياة السيد وهو الآن الناطق الرسمي باسم المكتب وإمام الجمعة في مسجد الأمين في منطقة الرضا في بغداد: "درست الفقه على ايدي السيد مصطفى الصدر والسيد جعفر الصدر، وأدرس الآن على يد السيد مقتدى الذي يعطي دروساً في كتاب الأصول". ويؤكد الشحماني ان مقتدى الصدر هو الآن في مرحلة دروس الخارج، اي انه على ابواب الاجتهاد. ويقسم ان الخبر الذي بث من الكويت عن قيام مناصري "الحوزة الناطقة" في النجف بحصار منزل السيد السيستاني ومنعه من الخروج من منزله، غير صحيح، وانه ذهب بنفسه الى منزل السيستاني عند سماعه الخبر فلم يجد اثراً لأي من مناصري الصدر، علماً ان الشحماني عندما يلفظ اسم السيستاني لا يُسبقه بكلمة سيد في معظم الأحيان، ولهذا الأمر دلالات كبيرة، خصوصاً في النجف التي يأتي اليها الناس لنيل الألقاب، والتي يحرص اهلها على ان يسبق اسم المرجع فيها مراتبه وأوصافه، اما اللقب الذي يمليه النسب فهو بديهي اكثر من الاسم. التنابذ مع إيران لا يلغي التشابه يلقي الشيخ علي البيضاني دروساً في علم التفسير في مسجد الرسول في مدينة الثورة، وهو احد مراكز مؤيدي مقتدى الصدر. البيضاني العائد من قم منذ اكثر من سنتين قضاهما في السجن، بعدما امضى عشر سنوات يدرس في حوزة قم. يقول الشيخ الذي تحلق تلامذته حوله انه يقلد السيد علي الخامنئي، ويعلن صراحة امام طلابه الصدريين الغاضبين من كلامه ان من الواجب الشرعي ان يتبع العراق المرجعية الإيرانية، وبالتالي يجب الاندماج بإيران. البيضاني يدعم كلامه بحقيقة ان السيد محمد صادق الصدر يؤمن بالولاية العامة للفقيه، واذا كان الخلاف على هوية المرجع فالاسلام لا يميز بين عربي وأعجمي. كلام استاذ علم التفسير في المسجد اثار غضب طلابه الذين يكنون للعمامة احتراماً منعهم من الاعتراض المباشر. ولكن وبأصوات خفيضة راحوا يقولون انه مجرد مدرس وان آراءه لا تمثل شيئاً. وراحوا يتحدثون عن المرجعية العراقية التي لا يقبلون غيرها، وحين سئلوا عن مرجعية السيد كاظم الحائري التي اوصى الصدر الثاني باتباعها من بعده، تعددت الأجوبة بين اعتبار بعضهم الحائري نجفياً على رغم اصوله الايرانية، وآخرين قالوا انهم مستمرون في تقليد السيد محمد صادق الصدر وانهم يستفتون الحائري في القضايا التي لم يفت الصدر فيها. حارس الجامع بدوره راح يقترب ويبتعد باأرتباك عندما شرع الشيخ في حديثه، وأخذ يتمتم كلاماً فُهم منه ان الشيخ مجرد مدرس استقدمته "الحوزة الناطقة" بسبب فقره وحاجته الى الراتب الضئيل الذي يتقاضاه. الحارس كان اكثر جرأة من الطلاب في اعلان استيائه من الشيخ الذي اجابه انه يتكلم عن الولاية العامة التي اجازها "الشهيد الثاني". الطلاب الذين تفرقوا من حول الشيخ خرج بعضهم للوضوء بذبول وخيبة، وفيما كانت المروحة الكهربائية العتيقة تحدث صوتاً من دون ان تحرك الهواء، راح آخرون يرفعون اصواتهم وهم يؤدون الصلاة، في اشارة احتجاج على الجلبة التي يحدثها المتكلمون. وفي هذا الوقت اختلط اشتحان النفوس بالحرارة الشديدة فأفرزت الأجسام موادها، وضاق المسجد برواده القليلين فكان لا بد من الخروج. لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، فدليلنا في الثورة وهو شاب جامعي يدرس في كلية السياحة قال انه سيتولى امر هذا الشيخ، وان الدعوة لأن يكون العراق تابعاً لايران لا تخلو من عمالة. واشار الشاب الى ان الايرانيين ارسلوا عشرات من نوع هذا الشيخ بهدف "استتباعنا". وفي وقت لاحق عرفنا ان شقيق دليلنا كان قتل خلال الحرب العراقية - الإيرانية. كلام استاذ علم التفسير ومقلد الخامنئي في مسجد الرسول في الثورة لا يشكل خروجاً جوهرياً عن الدعاوى الصدرية في العراق، على رغم العداء الكبير الذي تكنه القاعدة الصدرية لأي دور ايراني في العراق، وعلى رغم الاشارات التي يطلقها مقتدى لجهة عراقية المرجعية. التنابذ وعدم التوافق لا يلغي التشابه الذي يمتد ليشمل الممارسات اليومية. ويبدو ان حركة الصدر اتسعت خلال الفورة الأولى وبعد سقوط النظام مباشرة لعدد من راكبي الموجات الذين لم يكونوا بعيدين من النظام، خصوصاً ان مناعة هذا التيار ليست كبيرة حيال هؤلاء. ف"الشهيد الثاني" كان يعيش في العراق وهو كما مساعدوه يدركون ان اقامة علاقة ما مع النظام وأجهزته امر ربما لا مفر منه. ولكن ايضاً بين المنتمين الى تيار الصدر، عتاة المتضررين من النظام، ومضطَهدون وأبناء معدومين، وفقراء الثورة وطبقاتها الدنيا. كل هؤلاء هم الآن ايتام محمد صادق الصدر الذي لم يبلغ وريثه عمراً يؤهله لوراثة المرجعية. اما الوصي، اي السيد كاظم الحائري الذي يراهن "عقلاء" الشيعة والحوزة على عودته لترشيد الورثة وتحديد الحصص، فثمة اقوال متناقضة عن احتمال عودته او عدمها، ويقول متابعون للوضع الشيعي في العراق ان هذه العودة لو حصلت فهي لن تخلف ارتياحاً في اوساط مقلدي محمد صادق الصدر المستمرين في تقليده، والمنتظرين خروج مقتدى متصدياً للمرجعية. غداً حلقة رابعة عن النجف.