في الكتاب الأول الذي تُصدره سلسلة "المحاولات النقدية" التابعة لمجلة "ورشة الرواية"، يكتب عشرون روائياً وناقداً للإجابة عن سؤال: "الرواية لأجل أي شي؟"*. ليس السؤال جديداً، إلا أن اعادة طرحه، هذه المرة، تكتسي أهمية من خلال الدور الذي تضطلع به مجلة "ورشة الرواية" منذ عشر سنوات، ومن خلال خلفية الخصومة الجدالية بينها وبين المتشيِّعين لجنس "التخييل الذاتي" الذي تعاظم شأنه في السنوات العشر الأخيرة بفرنسا. وقد حددت المجلة لنفسها أهدافاً أساسية تتوخى الوفاء لمبدأ النقد المخصب للفن والرواية، وإبراز قيمة النصوص السردية الجميلة لحمايتها من الإهمال والثرثرة وذلك بترابُط مع التنظير للرواية في زمن التحولات المتسارعة بالغة التعقيد. وهذا المشروع لا يقتصر على فرنسا بل يتخذ من ثقافة أوروبا أفقاً لإحياء حوار متعدد الأصوات حول التراث الروائي للقارة وإعادة النظر في بعض المقولات الطاغية مثل "ما بعد الحداثة" والتخييل الذاتي... وهذا السؤال عن غائية الرواية يأتي أيضاً في سياق الرد على مَنْ يُنظّرون لموت الرواية لأنها تغرق في الحكايات التفصيلية ولا ترتقي الى التعبير عن المطلق، على نحو ما كتب رولان بارت في مطلع حياته النقدية وقبل أن يغير رأيه ويسعى بدوره الى كتابة رواية لم تكتمل. وخلال الفترة الأخيرة، يتردّد الرأي نفسه نتيجة للافراط في انتاج الرواية، إذ يصدر أكثر من 600 رواية كل سنة في فرنسا وحدها، وتأتي النصوص متشابهة وخالية من السمات التي توفر للرواية المتعة وتحريك الفكر والوجدان. من هنا فإن الآراء الواردة في هذا الكتاب تسعى الى الدفاع عن الرواية استناداً الى خصائص أفرزها تاريخ كتابتها، وانطلاقاً من أن شكلها المرِن المستوعب لأشكال تعبيرية أخرى قادر على أن يتجدَّد ويصمد اذا تخلى الروائيون عن استعارة أشكال جاهزة وحرصوا على ملاءمة "الحاجة الى الرواية" باحتياجات الناس المتغيرة بحسب الأزمنة والعصور. غائية الرواية يرى فيليب ميراي ان على الرواية ان تستوعب العصر الذي يحتويها حتى تتمكن من التقاط ملامحه وتجلياته. وما يطالعنا اليوم هو تحول مذهل: فالتاريخ أمسى تخييلاً والواقع غدا لغزاً مملوءاً بالمفاجآت، وكل ذلك لأنه لم تعد هناك تعارضات ولا صراعات جذرية، وما نشاهده هو اختلافات أو تحاربٌ بين الحداثي والحداثي، بين الايجابي والايجابي في ظل تضاعف dڈdoublement القيم وغياب الضد... من ثم لم تعد الرواية ملتصقة بمنطق التاريخ، كما كانت عند نشأتها، وهذا الطلاق بينها وبين التاريخ يدعو الرواية الى ان تستجلي وتميز ما لم يكن ممكن الوجود في أي عصر آخر، حتى تتمكن من كتابة فصول جديدة لتاريخ الفرد الانساني داخل هذا السديم المجنون... بعبارة ثانية، فإن ما يجب أن تتوخاه الرواية، هو طرح السؤال الأساسي: "ما هو الكائن البشري اليوم؟". ويجيب الناقد توماس بافيل أن غاية الرواية - من خلال استقراء تاريخها هي أن تلتقط فردية الفرد عبر مبادئ ومنظورات مختلفة تبعاً لإدراك مكانته داخل العالم. وتُفيد مسيرة الرواية بأن الفرد جرب مواقف متباينة تجاه العالم تمثلت في إسقاط المثل الأخلاقي على ما هو خارج الذات، وفي انتشاء السريرة وسيلة لإيجاد روابط بين الناس، ثم الانغراس في البيئة لتحقيق التواصل، لكن مطاف الرواية انتهى، في الأزمنة الحديثة الى قطيعة جديدة تنصب مسافة شاسعة بين الانسان الفرد والعالم. على ضوء ذلك، أخذت الرواية اليوم، تهتم بنوع جديد من الأفراد لا صلة لهم بعمقهم الخاص لأنهم لا يستشعرون أن لهم دوراً في هذا العالم، على نحو ما نجد في روايات جورج بيريك وميلان كوندرا اللذين يصوران الفرد المفرغ من جوهره والمستعد لارتداء أقنعة تلتصق بوجهه. لأجل ذلك، فإن مهمة الرواية اليوم هي أن تُمسرح لغز الفرد المتجدد. ومن الإجابات اللافتة، مقالة الروائي والناقد بيير لوباب بعنوان "شكل صامت للخطاب"، فهو لا يعتبر الرواية جنساً أدبياً وإنما شكل للخطاب لا يمكن أن نخضعه لقراءة داروينية تُسجد "تطور" الأشكال والمضامين. عكس ذلك، يُبرز لوباب ثورة أخرى تمَّت داخل أوروبا وأثرت بعمق في الرواية، في الانتقال من المسموع الى المقروء. هذا التحوُّل هو ما منح الرواية وضعها المهيمن قياساً الى بقية الأجناس الأدبية. وانتصار الرواية كخطاب صامت تحقق بعد صراع طويل مع بقية الأجناس: الشعر، الملحمة، الحكاية، المسرح... في القرن الثامن عشر، بانتشار التعليم والكتاب، بات خطاب الرواية قادراً على ممارسة سلطة تتعذّر مراقبتها لأن القراءة تضمن الوحدة والصمت والابتعاد عن العالم الخارجي وتخلق فضاء داخلياً بمنجى من الضغوط الاجتماعية، داخله تتوالد بحرية المعتقدات والأفكار والمشاعر. لكن السلطة العامة الحريصة على المراقبة، ابتدعت الصحافة لتحدّ من سلطة الرواية، فهي أيضاً كتابة صامتة ومن خلالها يمكن إقناع القارئ وربطه بالجماعة لأن الصحافة تستعير من الرواية طرائق السرد والحبكة والتشويق، فكأن "الصحافي ينتج رواية حقيقية، والروائي يبدع صحافة المخيلة". والى اليوم، نلاحظ هذا الالتباس الذي يجعل بعض الصحافيين الروائيين يكتبون نصوصاً قائمة على الثرثرة والمحاكاة وتوظيف الموضوعات الرائجة. من ثم فإن على الرواية أن تتمسك بتطوير شكل خطابها الذي يستطيع أن يضع القارئ في مواجهة صامتة تنقل اليه معرفة مجردة عن صفات القوة والاعتقاد... ويتناول دونيس وتروالد فكرة الشكل الصامت من زاوية أخرى، لأنه يلاحظ ان الروائي، اليوم، محاصر بالضوضاء والشعارات والإعلانات وخطابات وسائط الإعلام المتناسلة، ومن ثم عليه أن يوجد مسافة بينه وبين العالم حتى يتمكن من الحفاظ على حد أدنى من وعيه وحسه النقدي. ذلك ان الاشكالية التي يواجهها الروائي، راهناً، هي ان السلطة الحاكمة تسعى الى أن تُوهم الناس بأن الكلمات غير مجدية وأنها مجرد وسيلة لإرضاء رغبة الاستهلاك بكيفية مبتذلة، ولهذا فهي تريد أن تختزل الكلمات الى مادة للتواصل السريع... ومن ثمّ، على الروائي أن يبتدع شكلاً جديداً للصمت عبر إيجاد مسافة تفصله عن الواقع المزعوم المفروض من لدن المجتمع الوسائطي. لا مناص من أن تكون الرواية "حَيَدَاناً" في حد ذاتها، والروايات التي احتفظ بها التاريخ هي التي تجنّبت ان تكون مجرد تعليقات وكانت بمثابة قطيعة مع اللغة السائدة: "على الروائي أن يُبدع باستمرار ليكون ملائماً لعصره، لا ليُحاكي عصره وإنما ليُعارضه". وفي بقية المقالات التي لا تستطيع استعراض تفاصيلها، تطالعنا ثلاثة تصورات تتقاطع أو تتكامل، يمكن تلخيصها على هذا النحو: أ - الرواية هي حنين "نوستالجي" الى الاكتمال، فهي في مسيرتها وتحولاتها، لم تستقر قط عند شكل معين، بل تظل منبعثة من رمادها بلبوسات وتشكيلات متعددة. لعلها ماتت أكثر من مرة، إلا أنها سرعان ما تعاود الانبعاث، يحدوها الأمل في الاقتراب من الاكتمال على شاكلة الإنسان "المجبول ناقصاً" والمتطلع دوماً الى الكمال. ب - والرواية أيضاً طاقة تُسعفنا على الاستمرار في الحياة لأنها تُضيء مسرح الظلال المخيف الذي نتخبط داخله. هي الطوبى المتبقية لنا بعد أن انهارت الأحلام والايديولوجيات. انها بمثابة دين لأنها تعدنا بحياة خالدة تعلو على ما هو فان. ج - الرواية هي لأجل إعادة المضمون والقوة لموضوعة "التجربة البشرية" التي يُلخص اختفاؤها جزءاً كبيراً من مشكلات الرواية راهناً. لتكن كتابة الرواية، إذاً، ضد تيار مجتمع نرجسي متلهف على أن يعكس صورته في مرايا كُتُبٍ تُبقيه سادراً في وهم دوامه. الرواية هي ضد اغراءات التسلية الخالصة والبلادة المنتصرة للمعرفة السطحية أو لتخييل ذاتي لا ينفتح على الكونيّ وعلى الإحساس بثقل التاريخ والذاكرة. كثيرة هي الأفكار والإشارات اللماحة الواردة في هذا الكتاب الذي لا يُراد له أن يكون بياناً وإنما هو تعبير عن ضرورة طرح الأسئلة الأولية وإبراز الاتفاق والاختلاف من منظور الفكر النقدي والرصيد الإبداعي. وأظن أن مثل هذه الإضاءات تتيح للرواية أن تواجه تاريخها ومعضلاتها، وأن تسجل الانتقادات الموجهة ضد الاستسهال والتقوقع النرجسي والتجديد الشكلاني المفصول عن التجربة الحياتية وعن الوعي بما يتهدد القيم الانسانية، بل والوجود البشري. ان الروائي المطالب دوماً بالمغامرة والتجديد لا يستطيع أن ينسى أن نصوصه هي - في نهاية التحليل - بحث عن معنى التاريخ أو لا معناه، وعن تحولات الفرد وسط سديم يؤججه العنف وطغيان الأقوياء، وفي الآن نفسه تُعتبر نصوصه تشخيصاً لهذاالتاريخ من خلال تجربة الروائي ورؤيته الى الحياة. * Le roman pour quoi faire? ed. Flammarion - 2004 LصAtelier du roman.