انها تجربة فريدة ربما لم تحدث لكاتب آخر على مستوى العالم، حيث يقوم غونتر غراس منذ عام 1978 وحتى الآن بدعوة مترجميه الى كل لغات العالم إلى لقاء سنوي تتولاه دار النشر الخاصة به. استمر هذا اللقاء الذي تحول إلى تقليد حتى بعد انتقال حق نشر أعماله من دار نشر لويشتر هاند إلى دار شتايدل. إن بعض المترجمين مات وانضم إلى اللقاء مترجمون جدد، وما بدأ حكاية خيالية قبل 25 سنة اكتسب شكل هيئة حقيقية ماثلة، وبقي حتى اليوم ذا صبغة خيالية. هدف اللقاء تدارس مشكلات ترجمة نتاجه الأدبي إلى لغات العالم. من خلال لقاءات حميمة، تجرى في حانة أو مطعم أو مكان عام. مما يقيم علاقة إنسانية بين الكاتب ومترجميه. عن نفسي افتقدت المتعة في قراءة غراس، سواء قبل نوبل - 1999 - أو بعدها، وهي مشكلة سببها جفاف الكتابة الألمانية. توماس مان وهيرمان هيسه، ثمة حالة من عقلنة العالم في هذا الأدب. تحويل الكون إلى عقل خالص، لم يخرج على هذا سوى: أريك ماريا ريمارك خاصة في رائعته: "كل شيء هادئ في الميدان الغربي". وبرشت في روايته الوحيدة وقصصه وأشعاره وليس مسرحه. بعض مترجمي غراس يشير إلى هذه الصعوبات في التعامل مع أدبه. بل أن مترجمي ثلاث دول: كوريا - الصين - اليابان، يقولون بوضوح أنه لولا أفلمة بعض رواياته ما تحققت حالة من الاهتمام به، حتى في أوساط المثقفين في بلدانهم. عموماً عدم وجود المتعة في ما يكتبه غراس، يمكن أن يعلق على شماعة المترجم. يقول الإنسان لنفسه ربما كان السبب هو الترجمة، التي نقول عنها في بعض الأحيان انها خيانة للنص، على رغم ما يقوم به المترجمون من خدمة جليلة للتفاهم الإنساني على مستوى البشرية. غراس يسمي مترجميه أسرتي الكبيرة. ويدعوهم في كل لقاء إلى خرق قواعد لغاتهم والسعي إلى ابتكار الصيغ الملائمة لمعاني ما يرد في نصوص رواياته وقصائده. الكتاب الصادر أخيراً عن مركز الدراسات والبحوث اليمني - صنعاء 2004 - ويترأسه شاعر اليمن عبدالعزيز المقالح - "سمكة موسى تتحدث بلغات عديدة: مترجمو غراس يروون". هو الكتاب الذي قام على تحريره بالألمانية هيلموت فرينلغهاس ونشرته دار شتايدل غوتنج 2002 وترجمة علي يحيى منصور كان النتاج الطبيعى لفكرة اللقاء الدوري بين غراس ومترجميه، وكان غراس قد زار اليمن في كانون الأول ديسمبر 2002 لحضور ندوة. ويبدو أن غراس قد وقع في غرام اليمن سبقه مورافيا ونجيب محفوظ، فعاد إليها اخيراً لحضور لقاء الرواية العربية والألمانية. لا بد من ملاحظة أنه لم يزر أي دولة عربية أخرى سوى اليمن. وأول الاكتشافات التي نخرج بها من الكتاب، أننا لا نعرف كل نتاج غراس. وأن ما ترجم منه إلى اللغة العربية متناثر. لغراس في الرواية والقصة: مشية السرطان / طبل الصفيح وهي أشهر أعماله عندنا / سنوات الخمول / من يوميات حلزون / مئويتي: قال المترجمون أنها رواية، وإن كانت قد قدمت في ترجمتها العربية باعتبارها سيرة أو مذكرات شخصية / حقل فسيح / الجرذة / نذير الشؤم / قط وفأر / من يوميات قوقعة / تخدير موضعي / ثلاثية وانتسينج / خشب ميت / وله في اللسان وهو مختارات من الكتابات السياسية. وله فى الكتابة المسرحية. عشرون دقيقة حتى بوفالو / العامة تجرب الثورة / قبل ذلك / وله من المجموعات الشعرية: فضائل الدجاج البري 56 / مثلث الاستدارة - 60 / مستجوبون60. إن غراس - كما يقول مترجموه - أبرز كاتب ألماني معاصر، تقرأ رواياته في خارج ألمانيا، كما أنه المؤلف الألماني - الوحيد - الذي له مترجمون عالميون دائمون، إضافة إلى دور نشر ثابتة لمؤلفاته في أكثر من ثلاثين بلداً. وهو الوحيد الذي يحافظ على جمع شمل دور النشر الأجنبية، ومراجعيه ومترجميه الأجانب، ويتناقش مع مترجميه لدرجة أنه أخرج طقم أسنانه من فمه وأراه للمترجمين. ويطبخ لهم بنفسه في بيته. ويحيى معهم حياته العادية، يحولهم من مترجمين إلى أصدقاء. أما زيارات غراس لهذه الدول الأكثر من ثلاثين فقد نظمها جميعها معهد غوتة في تلك البلدان، الذي يشكل الذراع الثقافي الخارجي لألمانيا في العالم كله، أنه تجربة ثقافية ألمانية من الصعب تكرارها في بلد آخر وأي حضارة أخرى، فالمركز يحمل اسم مرجعية في الأدب الألماني. صاحب العمل الذي يمكن أن يرمز به لكل ما كتب في هذا الأدب: فاوست، ويحاول المركز أن يبدو على مسافة من الدولة الألمانية. كان من الطبيعي أن أبدأ القراءة من المترجم العربي المشارك في هذه اللقاءات، على رغم أن شهادته هي العاشرة بين الشهادات. أن حسين الموزاني الذي يكتب تحت اسمه: بغداد، العراق وكولونيا. ويبدو أن حركته الجغرافية مرتبطة بدار الجمل. وهي الدار التي قدمت افضل ترجمات لغراس من الألمانية مباشرة. حسين الموزاني يقول إن ترجمة أعمال غراس لا تعني سوى شيء واحد وهو تحويل حشيش مزدهر إلى تبن يابس، وعلى رغم ذلك يقبل كثر من المترجمين على ترجمة تلك الأعمال، لأنها صعبة ومفعمة بالمغامرة ومثيرة، كما أنها قبل كل شيء جزء من الهوية الأدبية الألمانية الحديثة. غراس لم يحظ بالترجمة إلى العربية إلا في السنوات القليلة الماضية، وحالياً يقوم مترجمون عدة - ثلاثة بالتحديد - بالعمل متزامنين على ترجمة أعماله، لتعويض ما فات القارئ العربي، ولكن بنتائج كارثية احياناً، يقرر حسين الموزاني انه ما ان نزلت ترجمته لرواية "طبل الصفيح" إلى الأسواق العربية حتى خرجت إلى جانبها ترجمتان آخريان. واحدة من الفرنسية والأخرى من الأنكليزية. وليست هاتان الترجمتان سوى قراءتين مشوبتين بأخطاء فاحشة، والعجيب أن الترجمتين أنجزهما طبيبان. والترجمة تفسير للنص وغالباً ما يحدد هذا التفسير غموض معنى التعبير الأصلي بمعنى واحد. كما تتعرض الإيحاءات وتداعيات المعاني إلى الخلط وحين يجرؤ مترجم على ترجمة نص فقد سناه أثناء الترجمة الأولى إلى لغة ثالثة، فذلك بالتأكيد مغامرة. ومن ضحايا المغامرة أسماء الأماكن والشوارع والأحياء والأنهار. يقول الموزاني عن أسلوب غراس إنه يعج بالتعبيرات الخاصة العاصية على المترجم، والتي تبدو مفتوحة للتأويل ما يضع المشاق في طريق المترجم. بل إن طبيعة اللغة الألمانية وخصوصاً الكلمات المركبة فيها تعد العقبة الجوهرية أمام الترجمة. يقدم حسين صورة لغراس الذي أصبح الضمير الأخلاقي للأمة الألمانية وموقفه الثابت ضد كل ما يمس كرامة الإنسان، وإدانته للزحف الأميركي على العراق ورفض إبادة الروس للشيشان وخرق حقوق الإنسان في ألمانيا. وإن كان مترجم غراس الأميركي هنري هايم يقدم رؤية اخرى لغراس. فإن كانت ألمانيا تفتقد شخصية المثقف الذي يقحم نفسه ويصبح المفسر غير المحترف لأحداث السياسة اليومية، فإن هذا النمط يبدو نادراً بين الكتّاب الأميركيين. جون ابدايك يقول إنه لا يهتم سوى بجزء من الإدارة وهي مؤسسة البريد التى توصل له مستحقاته من المكافآت. وأهم ما يورده المترجم الأميركي أن غراس يعتبر نفسه تلميذاً للفنون العربية في الأندلس. لم يجر الكلام عن ترجمة غراس عبر لغة ثالثة سوى في الحالة العربية فقط. والمترجمون كان اهتمامهم موجهاً إلى لغة غراس فقط. لم يتطرق أحد لبناء رواياته ولا عوالمه ويبدو أن هذا ينطلق من اهتمامه هو شخصياً باللغة. فهو الذي يقول لمترجمته الإيطالية برونا بيانتشي: إن الأدب يتكون من اختلاقات منحرفة عن اللغة الطبيعية الرسمية واليومية والمحكية والمكتوبة. فالشجاعة لخرق اللغة تعني عندئذ شجاعة نحو الأمانة. الأدب عبارة عن تقنية بالدرجة الأولى. لدرجة أن المترجمة تعلق على هذه الجملة بقولها: إن الشجاعة التي يطالبنا بها هي الشجاعة والجرأة على الإساءة الى لغته بغرض البقاء أمينة للغته! مساكين هم المترجمون. لا يوجد في هذه الشهادات كلام عن قيمته كشاعر ولا ككاتب مسرحي. أعرف أن أصحاب الشهادات ليسوا نقاداً. ولكن عملية المعايشة للنص لترجمته أعمق أثراً من قراءة الناقد الأدبي. المترجمون لا يذكرون الأرقام التي تطبع من مؤلفات غراس بلغاتهم، سوى المترجم الصيني هونغيون كاي الذي يقول إن معدل الطباعة لغراس في الصين قبل نوبل كان خمسة آلاف نسخة. وبعد نوبل الرقم هو عشرون ألف نسخة، وهي معدلات ضئيلة إذا ما قورنت ببلايين السكان في الصين. كل مترجم كان يبدأ رحلة الترجمة بعد التعاقد مع دار للنشر. ثم أن هناك جهة ما - تكون في الغالب معهد غوتة - تدعم هذه الترجمة بل ويدعو المركز الكاتب لزيارة البلد الذي ترجم العمل فيه. أي أنه لا بد من حضانة ما حتى لكاتب حصل على نوبل. وها هي جامعة الدول العربية، بدلاً من أن تدخل على خط دعم ترجمة الأدب العربي إلى لغات العالم، تبحث عن خمسة ملايين دولار من أجل مشاركة عربية في مهرجان فرانكفورت الدولي المقبل للكتاب، وإن كانت هذه حكاية أكثر مرارة على القلب وأشد شجناً.