من المؤكد أن اشتراك الثقافة العربية في معرض فرانكفورت - بوصفها ضيف شرف - قد أسهم في توسيع دوائر المعرفة بالثقافة الألمانية، وألقى الضوء على ما تقوم به بعض هيئات هذه الثقافة في تعميق منطلقات الحوار الحضاري، وأخص بالذكر معهد غوته الذي ظل يلعب دوراً قوياً مؤثراً في التقريب بين الثقافتين: العربية والألمانية، ولا يزال يضيف إلى إسهامه بحماسة ودأب يستحقان التقدير والعرفان. ولا شك في أنه بقدر ما ازدادت حركة الترجمة من العربية إلى الألمانية، بواسطة المؤسسات المهتمة والمدركة لمغزى وأهمية أن تغدو الثقافة العربية ضيف الشرف في معرض فرانكفورت، فإن المؤسسات العربية، الحكومية وغير الحكومية، أخذت تظهر اهتمامها المتزايد بعمليات الانتقال من العربية إلى الألمانية، وبالعكس. ويكفيني - في التدليل على ذلك - ما أخذت تبديه الصحافة العربية من اهتمام بالموضوع. ومثال ذلك جريدة "أخبار الأدب" القاهرية عبر أعدادها الثلاثة الأخيرة، بصفتها عينة انتقائية. ففي عدد الأحد الموافق التاسع عشر من أيلول سبتمبر نشرت الجريدة عن مفاجأة المشاركة العربية في معرض فرانكفورت، وهي الإعلان عن صندوق عربي لدعم الترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية. وهي خطوة يمكن أن تكون نعمة أو نقمة في ما يقول جمال الغيطاني، نعمة إذا روعيت الحيدة والموضوعية والنزاهة في هدف الصندوق وأعماله واختيار القائمين عليه، ونقمة إذا تم تسييره بمنطق المجاملة ودعم المقربين. وعادت الجريدة نفسها إلى القضايا المتعلقة بالحضور في معرض فرانكفورت، في العدد التالي، طارحة إجابة كاشفة قدمها عبده عبود عن السؤال: كيف يقرأوننا هناك؟ وكيف يتجلى الأدب العربي الحديث في عيون ألمانية؟ وهي إجابة تحمل الكثير من المعلومات عن المترجمين الألمان والعرب، خصوصاً الأدباء العرب الذين يكتبون باللغتين: العربية والألمانية، مع إشارة إلى أهمية دورهم في نقل الأدب العربي إلى اللغة الألمانية. ولم تكتف الجريدة بذلك بل خصصت ملحقها "البستان" للأدباء العرب الذين يكتبون بالألمانية والذين تركوا أقطارهم العربية مهاجرين، أو منفيين طوعاً أو كرهاً، ليستقروا في ألمانيا، ويتعلموا لغتها التي سرعان ما أصبحت وسيلتهم للإسهام في أدبها. وتولى الملحق التعريف بعادل قراشولي ورفيق شامي من سورية، وعبداللطيف بلفلاح من المغرب، وكوثر التابعي من تونس، وخالد المعالي وحسين الموزاني من العراق، ونشرت مختارات من إبداعاتهم مترجمة عن اللغة الألمانية. وأحسبها المرة الأولى التي تهتم فيها مطبوعة عربية بنشر أدب المهجر الألماني بلغته. وقد أعاد هذا الاهتمام إلى الأذهان الجدل الساخن حول ظاهرة الكتَّاب العرب الذين يكتبون بغير العربية، ويطلق عليهم أحياناً اسم الكتاب الفرانكفونيين أمثال الطاهر بن جلون، وكاتب ياسين، وآسيا جبار، وأمين معلوف... إلخ وأحياناً أخرى الأنغلوفونيين أمثال أهداف سويف، وليلى أبو العلا، وغيرهما. وكان السؤال المتكرر: هل يحسب أمثال هؤلاء الكتَّاب والكاتبات على أصلهم العربي، وهويتهم العربية التي تظل ناطقة في كتاباتهم حتى باللغة الأجنبية، أم يحسبون على الآداب التي أخذوا يكتبون بلغاتها؟ ويلتقي المثقفون التقليديون على الإجابة الساذجة التي تختزل القومية في اللغة، وينفون عن هؤلاء الكتاب هوياتهم العربية، حتى لو تردد بعضهم في أمر كاتب من طراز إدوارد سعيد، لكن سرعان ما يزول هذا التردد فيغدو إدوارد سعيد أميركياً، محروماً من هويته التي جسّد وجودها الرحب وأكدّ حضورها الإبداعي أكثر مما يفعل المتعصبون للغة العربية بمعناها الإيديولوجي الذي يجعل منها مرادف الهوية وعلامتها. أما المثقفون غير التقليديين فيتوسعون بمفهوم الهوية بما لا يقصره على اللغة وحدها، مؤكدين أن المنفى يشمل المكان واللغة على السواء، وأنه إذا كان الحضور في منفى المكان لا ينفي الهوية التي تظل انتماء وشعوراً وقيماً مستقرة وحنيناً إلى أصل، حتى وإن تباعد المنبع ومكان الأصل، فإن منفي اللغة لا ينفي الهوية بالقدر نفسه، ذلك أن الهوية لا يمكن اختزالها في اللغة وحدها على رغم أهميتها، وإنما تتسع لما يجاوز اللغة ويتجسد في نوع الرؤية وكيفية الشعور وعلاقات التناول وزوايا النظر. ولذلك فإن إسهام المهاجرين أو المنفيين العرب في الأقطار الأجنبية لا يقل أهمية عن إسهام غير المهاجرين أو المنفيين من المقيمين في أوطانهم. ومن المؤكد أن الأدب العربي المعاصر يزهو بكتابة آسيا جبار، وأمين معلوف، والطاهر بن جلون، وأهداف سويف، وليلى أبو العلا، وعادل قراشولي، وحسين الموزاني، وغيرهم من الكتاب والكاتبات الذين يكتبون بالفرنسية أو الإنكليزية أو الألمانية أو غيرها من اللغات الأوروبية التي اقتحمتها الأقلام العربية لتتسع بها وفيها بمدى الرؤى العربية التي يتجسّد بها معنى التنوع الخلاق. وقد أحسنت "أخبار الأدب" صنعاً بأن ترجمت مختارات لعادل قراشولي، وحسين الموزاني، وخالد المعالي، وكوثر التابعي، وفؤاد عواد، وقدّمت لمحة من إبداعهم للقارئ العربي الذي لا بد من أن يزداد ثراء وجدانياً وفكرياً بقراءتهم، تماماً كما ازداد ثراء بترجمة الطاهر بن جلون وأهداف سويف وليلى أبو العلا وأمين معلوف وإدوارد سعيد، وغيرهم من الكتاب والكاتبات الذين أصبحوا فخراً للثقافة العربية وصوتها الصاعد الواعد الناطق بلغات العالم الذي لا يزال أغلبه يرى فينا أشباه بن لادن، وفي ثقافتنا ثقافة للإرهاب. وليس من الغريب أن يعود الجدال حول هوية الكتابة، من حيث اختزالها في اللغة المكتوب بها، فما زالت بعض الأفكار القومية لا تخلو من ثبات جامد، وتختزل حضور الهوية في اللغة، نافية هذه الهوية عن أي كاتب وكاتبة يكتبان بغير لغتهما الأم لظروف عدة، تجاوز اختياراتهما الذاتية الأولى في كثير من الأحيان. وبدل أن يسعى دعاة هذه الأفكار إلى معرفة ما يقوله نقاد أدب اللغات التي يكتب فيها العرب المهاجرون أو المنفيون، وهم الذين أثروا تأصيل كتابة المنفى، والوقوف عند الثراء اللغوي الذي أضافه المنفيون إلى اللغات التي استعاروها تعبيراً عن هوياتهم وقضاياهم ومواقفهم في كل لغة، نجدهم يتخذون الموقف نفسه الذي يتخذه الأصوليون الذين يُخرجون من الدين كل من يخالفهم في الرأي أو الاجتهاد أو التأويل. وأتصور أن حِدة الجدل التي يرفض بها البعض إدخال أمثال إدوارد سعيد في النقد العربي، أو إدخال الطاهر بن جلون في الأدب العربي، هي بقايا التعصب القومي في صوره وممارساته الجامدة التي أدت - على المستوى السياسي - إلى زيادة الديكتاتورية العسكرية وشبه العسكرية، كما أدت - على المستوى الفكري - إلى خنق حرية الإبداع والتعبير، تحت شعار قمعي مؤداه: كل الحرية للشعب، ولا حرية لأعداء الشعب. وكانت كلمة الشعب تختزل في النخبة الحاكمة التي احتكرت مصادر القوة والثروة في المجتمع، بينما اتسعت عبارة "أعداء الشعب" لكل صوت مختلف. وإذا كان فرض علينا - بعد أن شاهدنا كوارث الديكتاتورية والتعصب، وعانينا آثارها - البحث عن أفق جديد واعد من الفكر القومي، وعن منظور أكثر رحابة من المنظور الضيق، في تحديد معاني الهوية والانتماء، ومن ثم عدم اختزال القومية والهوية في اللغة، وعدم التسوية بين الانتماء والطاعة المطلقة أو الإذعان الكامل، فإن علينا - بالقدر نفسه - أن نتسع بمفهوم الأدب القومي أو الوطني ليجاوز اللغة، ولا يسجن فيها، ويستوعب كتابة المنفى بما يحترم تنوع لغاتها التي لا تتناقض وغاياتها، أو طموحها بأن ينتقل الوطن أو الأمة من وهاد شروط الضرورة إلى ذرى آفاق الحرية. ويبدو أن عادل قراشولي كان يتحدث إلى المترددين في نسبة أدبه إلى العربية، أو الخائفين من الدفاع عن عروبة هذا الأدب بقوله: كثيرون هم من يفهمونني ومن لا يفهمونني كثيرون ... ولا تزال "أخبار الأدب" تواصل قضايا التواصل الثقافي العربي الألماني، فتنشر موضوعاً عن دار نشر "لسان فرلاج" أحدث دار نشر سويسرية لترجمة الأدب العربي إلى الألمانية، وذلك من منظور مغاير للنظرة الاستشراقية المهيمنة على دوائر التلقي. وفي الوقت نفسه، تنشر مختارات شعرية في ملحقها "البستان" بعنوان "نون النسوة بالألمانية". وتضم المختارات أربع عشرة شاعرة ألمانية، تترجم قصائدهن إلى اللغة العربية للمرة الأولى، وينتمين إلى أجيال شعرية مختلفة، وتتباين موضوعاتهن بتباين رؤاهن ومواقفهن. كل هذا يدخل في باب الأصداء الإيجابية لاستضافة الثقافة العربية في معرض فرانكفورت، الأمر الذي يجعل من المشاركة نفسها عملاً مفيداً مهما تعددت سلبياته التي لم نرها بعد في المعرض الذي سيكون قد افتتح، ومضى على افتتاحه أكثر من أسبوع، عند نشر هذا المقال الذي أكتبه قبل سفري بيومين، فإن الأصداء الإيجابية تتسع للمزيد من الظواهر التي تستحق الملاحظة.، فإلى جانب البيبليوغرافيا القيمة التي نشرتها "فكر وفن" تحت عنوان "كشاف تحليلي بالأعمال الأدبية المعاصرة المترجمة من العربية إلى الألمانية" بإشراف شتيفان فايدنر ، أصدر المجلس الأعلى للثقافة، في القاهرة منذ أيام معدودة "بيبليوغرافيا الأعمال العربية المترجمة إلى الألمانية من 1990 إلى 2004". وهي من إعداد منار عمر التي تقوم بالتدريس في قسم اللغة الألمانية في جامعة القاهرة. وكانت البيبليوغرافيا - في صورتها الأولية - إسهامها في مؤتمر "الترجمة وتفاعل الثقافات" الذي عقده المجلس الأعلى للثقافة في أيار مايو الماضي. وتتميز هذه البيبليوغرافيا بأمرين: أولهما أنها تضم أعمالاً وكتَّاباً لم يرد لهم ذكر في بيبليوغرافيا شتيفان فايدنر، كما تضم كتب التراث الأدبي العربي التي ترجمت ما بين 1990 إلى 2004، وتضم أعمالاً لأبي الفرج الأصفهاني، وابن حزم الأندلسي، وأبي حامد الغزالي، وبديع الزمان الهمذاني، وأبي العلاء المعري، وابن عربي، وابن بطوطة، وابن جبير، وابن أياس، وأبي عبدالله محمد النفزاوي. وتبدأ منار عمر تقديمها لعملها بأهمية الترجمة في عملية التفاعل الثقافي، غير غافلة عن الإشارة إلى الدور التحفيزي الذي لعبه حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، مضيفة إلى ذلك الأحداث السياسية المتلاحقة من قيام الانتفاضة الأولى، وحرب الخليج الثانية، وعقد اتفاقية أوسلو، ثم قيام الانتفاضة الثانية، وأحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر وغزو العراق، وكلها أحداث أسهمت في تسليط الضوء على المنطقة العربية، وعززت على نحو غير مباشر الحاجة إلى ترجمة آدابها لمعرفة ما يحدث فيها، وما يدور في عقول أو وجدان الطليعة المبدعة من أديباتها وأدبائها. ولم تكن هذه الحاجة إلى المعرفة موجبة في كل الأحوال، بل اقترنت بالسلب الذي لازم صورة شائهة عن العرب وثقافتهم، حرصت أجهزة الإعلام الغربي المنحازة والصهيونية العالمية على تثبيتها في الأذهان. وأما عن سبب تحديد سنة 1990 نقطة للابتداء، بعد انهيار جدار برلين سنة 1989، وبداية الدولة الألمانية الموحدة سنة 1990، فإنه سبب سياسي ارتبط بعوائق عملية، منها صعوبة الحصول على المصادر الدقيقة لأغلب الترجمات التي حدثت في ألمانياالشرقية، وفي ظل الصداقة التي جمعت بين الدول العربية التقدمية والكتلة الاشتراكية التي انتسبت إليها ألمانياالشرقية. ولا يفوت منار عمر ملاحظة أنه على مدار أربعة عشر عاماً 1990 -2004 تمت ترجمة أقل من مئتين وخمسين عملاً أدبياً عن اللغة العربية، ترجم أكثر من عشرين في المئة منها عام 2004، أي بالتزامن مع استضافة معرض فرانكفورت للثقافة العربية، الأمر الذي يقدِّم دليلاً عملياً أمام بعض الأصوات التي قلَّلَتْ من أهمية المشاركة العربية في فرانكفورت، على أساس من معلومات غير دقيقة. وأتصور أنه إذا لم يكن للمشاركة العربية من فائدة غير تشجيع حركة الترجمة من العربية إلى الألمانية على هذا النحو لكان في ذلك الكفاية للرد على المعترضين على المبادرة التي قام بها غسان سلامة - وزير ثقافة لبنان الأسبق - وصاحب اقتراح المشاركة. والواقع أن ارتفاع معدل الترجمة الذي تذكره منار لا بد من أن يدفعنا، أفراداً وجماعات، مؤسسات حكومية وغير حكومية، إلى المزيد من العمل على تشجيع حركة الترجمة من العربية إلى الألمانية، والعكس، بل تشجيع حركة الترجمة من كل لغة أجنبية وإليها، فمن غير المعقول أن يكون المترجم إلى اللغة الألمانية على مدار أربعة عشر عاماً أقل من مئتين وخمسين عملاً، في حركة لا تخلو من العشوائية والمجاملات أو المبادرات الفردية، وذلك في الوقت الذي تشكل الكتب المترجمة إلى الألمانية بوجه عام ما بين 10 في المئة حوالى 6223 كتاباً عام 2002 إلى 12 في المئة حوالى 7600 كتاباً عام 1999 من إجمالي الإنتاج السنوي للكتب. وتشمل ترجمة الأدب حيزاً كبيراً منها يتراوح ما بين 14 في المئة إلى 16 في المئة من إجمالي الكتب المترجمة سنوياً حوالى 870 إلى 1060 عملاً أدبياً. وبالطبع، تأتي الكتب المترجمة عن الإنكليزية في المرتبة الأولى حوالى 70 في المئة وتليها بفارق كبير ودال الترجمة من الفرنسية حوالى 10 في المئة بينما لا تشكل اللغات غير الأوروبية سنوياً أكثر من 7 إلى 8 في المئة من الأعمال. وهو وضع بائس لو نظرنا إليه من منظور الحلم بأن يكون أدبنا العربي مقروءاً في العالم الناطق بالألمانية.