وأخيراً نجح رهان الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى على حضور الثقافة العربية في "معرض فرانكفورت للكتاب" الذي يُفتتح مساء اليوم الثلثاء برعاية المستشار الألماني غيرهارد شرودر وتُلقى خلال حفلة الافتتاح كلمة كتبها نجيب محفوظ في المناسبة ويلقيها عنه محمد سلماوي علاوة على كلمة موسى والمنجي بوسنيه أمين عام "الألكسو". خاض عمرو موسى هذا "التحدي" والى جانبه فريق كبير من الجامعة العربية والمنظمة، ناهيك بأمين عام الناشرين العرب ابراهيم المعلّم وممثلي وزارات الثقافة العربية، وواجه كل ما ارتفع من أصوات معارضة ومحتجّة وكل ما سُجّل من مواقف نقدية ومآخذ. وطالما ردد موسى جملته الشهيرة "سيحالفنا النجاح لأننا مصممون عليه". طبعاً يصعب الحديث الآن عن نجاح التظاهرة الثقافية العربية الضخمة التي سيشهدها معرض فرانكفورت بدءاً من الليلة، لكن الجو الذي يهيمن على المعرض قبيل افتتاحه يؤكد ان الحضور العربي سيحقق نجاحاً ما وسيطغى على نهارات المعرض ولياليه. والخوف فقط ان تشهد الندوات الكثيرة والقراءات والأمسيات بعضاً من الفوضى في برمجتها وألا يتمكن الجمهور العربي والألماني من متابعتها، اضافة الى عدم اكتمال ترجمة المداخلات والنصوص التي ستلقى بالعربية وخصوصاً النصوص السردية والشعرية وسواها. الكتب العربية التي تناهز الاثني عشر الفاً باتت مصفوفة على الرفوف والطاولات داخل الخيمتين الكبيرتين وفي الرواق "العربي"، وكذلك الكتب العربية المترجمة الى الألمانية وهي قليلة نسبياً والكتيبات الصغيرة... وارتفعت على الجدران ملصقات لا تحصى عن العالم العربي وثقافاته... "الرهان" نجح إذاً وها هو العالم العربي يحلّ ضيفاً على فرانكفورت وبدأ المدعوون العرب سياسيين ومثقفين وكتّاباً وشعراء وفنانين... يفدون الى الفنادق ويتجاوز عددهم المئتين وهم يمثلون معظم البلدان العربية، حتى تلك التي رفضت المشاركة الرسمية مثل المغرب والجزائر والكويت وليبيا والعراق... ومثقفو هذه الدول غير المشاركة سيحضرون شخصياً وانطلاقاً من مبادرات خاصة وسيشاركون في برنامج المعرض ونشاطاته المختلفة. وقد يكون هذا اللقاء العربي الثقافي الشامل فضاء لا للحوار مع "الآخر" فقط الذي هو الثقافة الغربية، وإنما للحوار العربي - العربي فكرياً وسياسياً وثقافياً وفنياً، اذ نادراً ما يُعقد مثل هذا اللقاء العربي على أرض عربية جامعاً معظم التيارات الثقافية ومتخطياً المتناقضات الكثيرة التي تتخبط فيها الدول العربية. سيكون هذا اللقاء العربي مناسبة لمحاورة المثقفين الألمان وللاحتكاك بالثقافة الألمانية والأمل ان يؤتي هذا اللقاء ثماره ألمانياً وعربياً. وإن كان المعرض فرصة لابراز الهوية الثقافية العربية عالمياً وتقديم صورة بانورامية عن واقع الثقافة العربية على اختلاف مشاربها واشكالها، فهو فرصة مهمة ايضاً ليطلع المثقفون العرب على التحولات الثقافية التي يشهدها الغرب من خلال الانموذج الألماني ثم على الثورة الحديثة التي باتت تعم سوق الكتاب من خلال معرض فرانكفورت الذي يُعد أهم معرض في العالم. هذا المعرض يغطيه إعلامياً نحو عشرة آلاف صحافي وإعلامي من العالم وخلاله تتم أهم الصفقات في حقل الترجمة والنشر وشراء الحقوق... وهو كما يسميه مديره فولكر نويمان "واجهة عرض" يعقد فيه لقاء بين الفكر والمال وبين الكتّاب والناشرين وعبره يظهر حجم الكتب التي ستنشر خلال العام المقبل لا في ألمانيا فحسب بل في العالم كله. هذا المعرض هو بمثابة سوق عالمية للكتاب، تتسع مساحته نحو مئة وسبعين الف متر ويحضره من الناشرين ما يقارب مئة وثمانين الفاً. اما الكتب المعروضة فيه فيبلغ عددها زهاء ثلاثمئة وخمسين الفاً موزعة بين الكتب المقروءة والكتب السمعية والالكترونية. اما دور النشر فيبلغ عددها ستة آلاف وستمئة دار من مئة وعشرة بلدان. ترى أي صورة سيكوّن الجمهور الألماني عن الثقافة العربية من خلال المعرض؟ ثم ما تراها تكون صورة الثقافة العربية ازاء الثقافات العالمية؟ مثل هذه الاسئلة يصعب ان يُجاب عليها ما دامت الثقافة العربية شبه مجهولة عالمياً في شكل عام أو ان معرفتها عالمياً هي معرفة جزئية ومقتصرة على بعض الأسماء والظواهر، على رغم العلاقة القديمة التي قامت بين الغرب والشرق بدءاً من النزعة الاستعمارية والحركة الاستشراقية وانتهاء بما تشهد الاسواق الغربية من كتب عربية حديثة مترجمة الى لغات شتى،ومن نشاطات تقام في عاصمة عالمية وأخرى. فقبل ان يحوز نجيب محفوظ جائزة نوبل في 1988 لم تكن ألمانيا تعرف عن الأدب العربي الا القليل. ولكنّ خلال السنوات الاخيرة راح بعض المستعربين والمترجمين يختارون اعمالاً روائية حديثة بغية ترجمتها وتعريف القارئ الألماني بالأدب العربي الحديث. لكن حركة الترجمة هذه تفتقد الى المزيد من المستعربين والمترجمين من اجل ان تنهض وتوازي حركات الترجمة الاخرى. ولكن لم يغب عن جوّ الترجمات الألمانية ذلك الميل الى الأدب الذي يعني القارئ الألماني ويسليه ويمنحه فكرة عن البيئات العربية والمجتمعات. وقد لا تمثل الروايات المترجمة الى الألمانية حقيقة الأدب العربي وتحولاته، فالمترجمون والناشرون يسعون الى نوع من الأدب "الاكزوتيكي" الذي يهمّ القراء ويسهم في بيع الكتب المترجمة. هكذا غابت عن حقل الترجمة اسماء أدبية كبيرة في العالم العربي وخطيئتها انها كتبت أدباً حقيقياً ولم تسعَ الى كتابة أدب يعني القارئ الغربي ويتوجّه إليه. وهذا الأمر ينسحب على معظم الترجمات الى اللغات الغربية. تغيير الصورة ثمة سؤال يطرح بإلحاح: هل يكفي ان يطلّ العالم العربي عبر معرض فرانكفورت كي يتمكن من تغيير الصورة السلبية و"المشوّهة" التي راجت عنه في الغرب بعد حادث الحادي عشر من ايلول سبتمبر؟ هذا ما تطمح اليه الدول العربية في معظمها ساعية الى إقناع الغرب ان بن لادن ليس الا أنموذجاً عربياً واهياً وظلامياً وأن العالم العربي لا يصنع الارهاب بل الحضارة والثقافة والأدب والفن. هذه الغاية النبيلة قد يتمكن الحضور العربي في المعرض من ترويجها، لكنّ الصورة السلبية تحتاج الى مرحلة زمنية غير قصيرة كي تختفي وتذوب وتحلّ محلها صورة ايجابية في الذاكرة الغربية. واللافت ان السوق الألمانية مثل اي سوق غربية تعج بما لا يحصى من كتب عن العالم العربي والاسلامي والكثير منها يركز على ظاهرة بن لادن والارهاب... فيما كان ينبغي ان يعمل العرب على ترجمة كتب عربية تدحض ما ينشر عن العالم العربي من كتب سلبية. وما دام الكلام يتناول الترجمة من العربية الى الألمانية فإن من الممكن القول ان العرب فقدوا مناسبة ثمينة كانت ستتيح لهم المزيد من فرص الترجمة الى الألمانية. وكان من المنتظر ان يترجم الى الألمانية نحو مئة كتاب لكنّ العرب - كتّاباً وناشرين وإداريين - لم يتمكنوا الا من ترجمة قرابة عشرين كتاباً الى الألمانية. فالمشرفون على هذا المشروع تأخروا كثيراً ولم يحوّلوا المشروع نفسه مشروعاً مشتركاً بينهم وبين الألمان. وهكذا خسر الأدباء والمفكرون العرب وكذلك القراء الألمان فرصة لا تتكرر. اما الكتب التي ترجمت حديثاً ومعظمها من الروايات ولأدباء مصريين فهي لا تمثل واقع الأدب العربي المعاصر. وقد تُشكر مصر على حماستها لمعرض فرانكفورت وقد وجدت فيه مناسبة ملائمة لتقديم ثقافتها عالمياً، على رغم ان الذين سيحضرون لا يمثلون الا ناحية من الثقافة المصرية وبعضهم من "الموالين" وليسوا من المعارضين علاوة على المستقلّين الذين لا علاقة لهم بالسلطة. ندوات كثيرة ولقاءات ومعارض وأمسيات لا تحصى... ومثلما سيحضر كثيرون من المفكرين والكتّاب والشعراء والفنانين العرب سيغيب كثيرون ايضاً. وقد يكون هذا طبيعياً لأن من المستحيل ان يحضر الجميع. ولكن من المفروض ان يكون التمثيل عادلاً وألا يخضع للعلاقات "الرسمية" او الخاصة وللاعتبارات الطائفية والعرقية وسواها. وقد يسأل سائل: هل يمكن ان تغيب شخصيات مهمة مثل: محمد آركون وعبدالكبير الخطيبي وعبداللطيف اللعبي وأنسي الحاج وعبدالله العروي ومحمد عابد الجابري والطاهر وطار وسواهم وسواهم...؟ ثم ماذا عن الجيل الذي أعقب الرواد في الفكر والشعر والرواية؟ هل يمثل الذين سيحضرون الاجيال المتعددة؟ الأسماء الغائبة كثيرة ولا مجال لذكرها... وكم كان من اللازم ان تعقد ندوة حول المفكر المصري الكبير عبدالرحمن بدوي وحول ترجماته الكثيرة من الألمانية، فهذا المفكر كان بحق صلة وصل بين الثقافة العربية والثقافة الألمانية وسواها. واذا كان دعي جمع من الروائيين والشعراء الجدد الى المشاركة أفلم يكن جديراً ان تقام ندوات حول الرواية العربية الجديدة والشعر العربي الجديد تطرح من خلالها الاسماء الحقيقية والقضايا الراهنة والتحولات؟ وهكذا عوض ان يتكلم الضيف - روائياً أو شاعراً - عن نفسه ويقرأ من نتاجه فهو كان ليتكلم عن رفاق جيله وخصائصهم - اضافة الى كلامه عن تجربته الشخصية! ليس من الممكن ان نحمّل اللجان التي أشرفت على تنظيم الندوات واللقاءات اكثر مما تستطيع ان تحمل، خصوصاً ان التظاهرة هي عربية شبه شاملة. وهذا الامر حفز وزير الثقافة المغربي على الاعتراض وعلى رفض المشاركة. وربما هذا ايضاً ما دفع الطاهر بن جلون على كتابه مقالة هجائية في مجلة "دي زايت" الألمانية وسمى فيها الحضور العربي ب"سيرك العرب في فرانكفورت". وقد لا يكون الطاهر بن جلون محقاً هو الذي سيشارك في برنامج المعرض. ومثله فعل ايضاً الكاتب الألماني، السوري الأصل، رفيق شامي هاجياً الثقافة العربية في صحيفة "شتارن". ورفيق شامي روائي معروف جداً في ألمانيا والغرب ولكنه مجهول عربياً ولم تترجم له اي رواية الى العربية حتى الآن. وقد يكون المعرض مناسبة كي يتعرّف الأدباء العرب ببعض الأدباء العرب المهاجرين الى ألمانيا والذين يكتبون بالألمانية من أمثال: رفيق شامي وعادل قرشولي وسليمان توفيق السوريي الأصل وحسين الموزاني العراقي الأصل وكوثر التابعي التونسية الأصل... قد تعبّر عناوين الندوات التي ستعقد خلال المعرض ويشارك فيها مفكرون وكتّاب عرب عن الكثير من القضايا والهموم التي تشغل الثقافة العربية الراهنة. وحاول المسؤولون عن الندوات ان يوسّعوا أفقها بغية طرح الشؤون التي تحتاج الى نقاش فعلي، ومن هذه العناوين: حوار الثقافتين العربية والألمانية، اتجاهات الفكر العربي المعاصر، مستقبل المجتمع العربي في عالم متغير، العولمة وأثرها على العالم العربي، الثقافة العربية الاسلامية وقضايا التقدم، سوء الفهم المتبادل بين العالم العربي وأوروبا، الأدب النسائي في العالم العربي، الحوار بين الأجيال، التسامح في الثقافة العربية، حركة الترجمة من العربية، صورة الآخر في الرواية العربية المعاصرة، المسرح العربي والتيارات المسرحية العالمية المعاصرة، الهويات المزدوجة للعرب في الغرب... وختاماً لا بدّ من طرح السؤال: هل سينجح العرب في تقديم صورة حقيقية عن ثقافتهم الراهنة؟ لعلّ الجواب تؤكده المشاركة العربية في معرض فرانكفورت نفسه. و يكفي ان يلتقي العرب جميعاً للمرة الأولى تحت شعار "الكتاب"!