رجال الأعمال بدأوا ينافسون "كبار" المثقفين في المؤتمرات "المهمة" والندوات المنعقدة حول مشاريع الإصلاح الديموقراطي. وصارت هذه اللقاءات لا تكتسي جدّيةً إلا برجال الأعمال المشاركين فيها، وبخطوط وحظوظ "الاصلاح الاقتصادي" الذي يبدون هم الأدرى بشعابه من بين الساعين الى الاصلاح الديموقراطي. وقد اصبح محسوساً، وإن بشيء من الغموض، ان "التنافس الحر"، مبدأ رجال الاعمال المعلَن، هو مستقبل الاسواق والديموقراطيات. هذه الحركة، هذه "المبادرات"، على حد قول بعضهم، كان ينقصها من يسمّيها، من يعطيها عنواناً" وقد جاء هذا على لسان ناشطين في حقوق الانسان، بمناسبة إنشاء مجلس لنشاطهم، وقوامه اننا الآن، وفي هذا المسعى الديموقراطي بالذات، إنما نحن في صدد "الانتقال من الاشتراكية الى الديموقراطية". وهذه صيغة ليست طبعا من إختراع الناشطين الحقوقيين، بل كانت عائمة في العقول، على شكل شذر من هنا وهنالك... كأنها واحدة من البديهيات في البلدان العربية ذات "الإشتراكية" التي اعتمدت لبلوغها "طريق التطور اللارأسمالي". اما الآن، فقد تأطّرت ضمن صيغة بسيطة وسهلة، قابلة للشيوع المركّز، لتستقر هكذا آمنة سالمة، من غير سؤال واحد عن قدر العبثية والالتباس اللذين تختزنهما. فأن تقول لمواطن شبّ على هذه "الاشتراكية" بأنك الآن في صدد "الانتقال من الاشتراكية الى الديموقراطية"، فذاك ينطوي على إفتراض بأنه انما الآن هو في ظل نظام اشتراكي. أي، بالمعنى الذي تبنّته هذه "الاشتراكية"، ان الدولة ما زالت تقوم بتشغيل المجتمع والانفاق عليه. وهذا ما لم يعد قائماً طبعاً، بل الى تضاؤل سنة بعد اخرى إلا في الاعلام، حيث تنفق الدولة بسخاء على خدمة صناعة العقول المطلوبة. اما باقي سمات هذا العهد، الذي هو في سبيله الى "الانتقال من الاشتراكية الى الديموقراطية"، من فساد وضرائب إعتباطية وبطالة مقنّعة اعلى من صريحة وفقر وانخفاض معدلات نمو، مما لا طاقة لنا بالتمعّن فيه، فكل هذا يُصنّف بحسب صاحب التصنيف: إما انه "نتيجة الاشتراكية"، وإما انه "الاشتراكية نفسها". والفرق ليس كبيرا. لذلك ففي الحالتين، صيغة هذا الانتقال الخاص من الاشتراكية الى الديموقراطية لا يتم ايضاح معنى "الاشتراكية" الذي يُقصد، إلا بالتضاد مع الديموقراطية. وهناك ما هو أفدح: فهذه الصيغة، محمولة على أكتاف اصحاب الحركة نحو الديموقراطية من "مفكرين" ورجال أعمال، تبدو كأنها تودّ الايحاء بشيء ما: بأن هذه المشكلات "الاشتراكية" من تعثّر الخصخصة، والتخبّط والبطالة والفساد، وهي معروفة للجميع، سوف تحلّها الديموقراطية التي هم في صدد السعي اليها الآن. وبعد ذلك يسمع المواطن عبر الأثير ان دولته هي من بين الدول الشارعة بالاصلاحات الديموقراطية والمقتنعة بها. فينظر من حوله واذا بمشكلات العهد "الاشتراكي" الى تفاقم. فكما لم يكن يعرف بأنه يعيش في ظل نظام اشتراكي، كذلك فهو لا يعرف الآن أننا سوف ننتقل الى الديموقراطية... إلا على التلفاز. كان عهد فصار آخر، بل تأخر في تحوله الى آخر. كان يجب من زمان ان ينتقل من الاشتراكية الى الديموقراطية، من يد البيروقراطية الى أيادي اصحاب "الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص". وهذه شراكة تحتاج الى ديموقراطيتها، الى القوانين الموحّدة مع السوق العالمي الذي أتت منه، او طامحة الى الانخراط فيه. واذا ما حصل ان نجحت هذه الشراكة، وحلّت علينا الديموقراطية البديلة عن الاشتراكية، فسوف نسير على خُطى القارة السوداء التي سبقتنا: تلازم برامج البنك والصندوق الدوليَين، مع اجراءات ديموقراطية من تداول سلطة وتعدد احزاب. والنتيجة كانت فقرها وامراضها ومجاعاتها وخراب بيئتها. ونحن لسنا افضل من افريقيا السوداء، بل هي أسرع منا في فهم الزمن. فهل نتصور حالنا بعدما نكون أُبلغنا بانتقالنا الى الديموقراطية وشُرّعت أبواب إعادة الهيكلة والخصخصة عندنا وصارت مشروعة؟ هل نتصور كم سوف يُقال، كما قيل عن الاشتراكية، بأن الديموقراطية ليست مكسبا سهلا، وبأنها، مثل الوطن، تحتاج الى تضحيات... وهذه المرة ايضا كما في التضحيات السابقة، نبذلها بحماس وأمل، أو هكذا على الاقل يتصور مريدو الديموقراطية كبديل عن الاشتراكية؟ انها أثمان الديموقراطية الباهظة، والتي سوف ندفعها بصفتها إنقاذا لحياة مجتمعاتنا المقبلة. والحال ان الديموقراطية، مثل الاشتراكية، طوبى دائمة النقصان عند التحقّق. ليست هناك ديموقراطية نموذجية ولا اشتراكية مثالية. ومع ذلك فان الطوبيين مطلوبتان معاً: ليس الواحدة دون الاخرى، وليس الواحدة على حساب الاخرى. فالفقر والبطالة، مثل التسلّط والاستبداد، ليسا إثما اخلاقيا فحسب، بل هما خلَل تنظيمي، فشل في الاسلوب او الاداء، ثغرة خطيرة، حرمان من شيء. حرمان وقسر. عنف بالكمون. تصوروا اخيراً أن الاتحاد السوفياتي هو الآن القوة العظمى الوحيدة في الكون بعد تنهيار الولاياتالمتحدة... ماذا تكون ساعتئذ شعارات المرحلة "المركزية"، غير "الانتقال من الديموقراطية الى الاشتراكية"؟ وماذا نفعل بها؟