عقد في مدريد بين الثامن والتاسع من شباط فبراير الجاري اجتماع "المجلس القيادي" لحركة الاشتراكية الدولية في مدريد. وهو الاجتماع الأول للمجلس الذي يلتئم منذ تشرين الأول أكتوبر 2003 تاريخ عقد المؤتمر ال22 للحركة في مدينة ساو باولو البرازيلية بمشاركة 160 حزباً إشتراكياً وعمّالياً واشتراكياً ديموقراطياً من أرجاء العالم. اكتسب الاجتماع الأخير أهمية خاصة لأسباب عدة منها أنه جاء مباشرة بعد "المنتدى الاجتماعي العالمي" الذي ازدادت مشاركة الاحزاب الاشتراكية في أعماله هذه السنة مقارنة بما كانت عليه في السنوات الثلاث الماضية، مع ما يعنيه ذلك من صعود تيارات داخل هذه الأحزاب تقترب من قوى وحركات اجتماعية على يسارها وتدعو الى عدم إغفال قضاياها معارضة بذلك الاتجاهات الوسطية لأحزابها. ومنها أيضاً أنه يأتي في ظل أزمات تصيب الكثير من الأحزاب المنضوية في الاشتراكية الدولية، لا سيما تلك الحاكمة في بلدانها حزب العمال البريطاني والحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني وحزب الشغيلة البرازيلي. كما أنه يأتي قبيل انطلاق عجلة الانتخابات التشريعية والمحلية في الكثير من الدول الأوروبية إسبانيا وفرنسا وإيطاليا على وجه الخصوص حيث الأحزاب الاشتراكية خارج السلطة وفي حال تراجع. كما أن الاجتماع جاء في ظل تصاعد التوترات السياسية والاقتصادية في العالم، وفي ظل استمرار الانقسامات الأوروبية حول العلاقات الدولية التي ترجمت في تحالف بعض الدول حيث يحكم منضوون في الاشتراكية الدولية مع الولاياتالمتحدة الأميركية في "حربها على الإرهاب" وفي اجتياحها العراق. وفي مقابل هذه الظروف، ما الاتجاهات التي تتفاعل داخل الاشتراكية الدولية، وكيف عبر عنها البيان الصادر عن اجتماع مدريد والمستند الى إعلان ساو باولو؟ ثلاثة تيارات رئيسة تتنافس منذ سنوات تيارات عدة داخل حركة الاشتراكية الدولية وتتصارع بأفكارها وبرامجها وتحالفاتها. ويمكن القول إن اتجاهات ثلاثة باتت الأبرز اليوم، وإن كانت غير متشكلة على أساس كتل يتماهى كل المنضوين فيها سياسياً واقتصادياً: - الأول الذي يمثل المدرسة الاشتراكية "التقليدية" يدعو الى مواجهة النيوليبرالية والمحافظة على حضور الدولة في الحقلين الاقتصادي والاجتماعي وفرض ضرائب على الشركات والمعاملات المالية والمصرفية ومواجهة البطالة والبحث بعمق أكثر في سياسات الاندماج الاجتماعي. - الثاني يتشكل من الاحزاب الاشتراكية الديموقراطية أو الاجتماعية الديموقراطية، ويطرح قضايا العدالة الاجتماعية بناء على التجارب التاريخية للاشتراكيين الديموقراطيين لا سيما في الدول الاسكندينافية والشمال أوروبية حيث حكموا طويلاً، ويطالب بالتوفيق بين دور الدولة في الاقتصاد والاجتماع تراجع من دون انسحاب وبين سياسات خصخصة واجب اتباعها لتنشيط الاقتصاد وتوفير قدرته على المنافسة في ظل العولمة. - الاتجاه الثالث ويطلق على نفسه تسمية "الخط الثالث" ويمثله خصوصاً زعيم حزب العمال البريطاني توني بلير وحليفاه الايطالي ماسيمو داليما والألماني غيرهارد شرودر، يطالب بإنهاء صيغة "دولة الرعاية" وتقليص حجم القطاع العام والسير قدماً في عمليات الخصخصة، في مقابل الإبقاء على معدلات ضرائب متوسطة وعلى سياسات اجتماعية تحمي الأكثر تضرراً من نتائج ما يسمى "الإصلاحات" الاقتصادية. تختلف إذاً هذه الاتجاهات حول دور الدولة ومقدار تدخلها في تأمين الخدمات والتعويضات والضمانات الاجتماعية للمواطنين، وحول السياسات المالية والضريبية التي ترافق ذلك وأولوية مواجهة عجز الموازنات وتثبيت الفوائد على الودائع المصرفية في مقابل أولويات التوظيف وخلق فرص العمل وتحديد سياسات الأجور والإبقاء على نسبة مرتفعة للإنفاق الاجتماعي من الموازنات العامة. وينعكس ذلك على علاقات الأحزاب والتيارات السياسية المنضوية ضمن الاتجاهات الثلاثة بالحركات النقابية طبقاً لخلفيات النقابات وارتباطاتها في الكثير من الأحيان بقوى على يسار الاشتراكيين. وينبغي ألا يغفل من العرض المذكور التباين في وجهات النظر حول الكثير من القضايا داخل كل اتجاه من الاتجاهات الثلاثة وفي صفوف أحزابه وقواه، وهذا أمر يتطلب إعادة تشكيل خريطة القوى باستمرار للتدقيق في المستجد فيها. وإضافة الى قضية الاتجاهات هذه، من المفيد التطرق أيضاً الى قضية الحضور الاشتراكي العالمثالثي الذي يتطور داخل حركة الاشتراكية الدولية منذ سنوات، مع ما يعنيه ذلك من وجود بنود في معظم بيانات الحركة تركز على هموم الجنوب، وعلى الصراعات الدائرة فيه، وبخاصة الصراع العربي - الاسرائيلي. والملاحظ هنا أن التأثير الاسرائيلي الذي كان كبيراً في الاشتراكيين الأوروبيين في العقود السابقة تراجع نسبياً في السنوات الأخيرة نتيجة اقتراب القواعد الشعبية لبعض الاشتراكيين من الموقف الفلسطيني تحديداً منذ بداية الانتفاضة الثانية عام 2000. عدالة اجتماعية وعالم متعدد الأقطاب وتوزعت بنود البيان الاسباني الصادر اثر المؤتمر الأخير على محاور عدة، أكد بعضها تقدم الاتجاه الأول الذي عرضنا على الاتجاهين الآخرين، وشكّل بعضها الآخر منبراً لصوت اشتراكيي الجنوب وحلفائهم. وبين أبرز بنود هذا البيان: 1- النضال من أجل إقامة عالم آمن وديموقراطي وحل النزاعات الدائرة حالياً في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا. أما في الشرق الأوسط، فالأولوية هي لوقف "العنف بين الفلسطينيين والاسرائيليين وإقامة دولة فلسطينية على أساس حدود العام 1967" من جهة، ونقل السلطة الى العراقيين وتشكيل قوة متعددة تحت إشراف الأممالمتحدة بمشاركة دول إسلامية للإشراف على الأمن وإعادة الإعمار "ووضع دستور لدولة عراقية فيديرالية تحترم حقوق النساء والأقليات". 2- تعزيز دور الأممالمتحدة والبحث في سبل إصلاح مجلس الأمن وصناعة القرار فيه، وبناء عالم متعدد الأقطاب، "ومواجهة الإرهاب على أساس عدم تفرد دولة بمهمات مكافحته أو استخدام الترويع والعنف لقهره". 3- العمل لبناء "الحكم الصالح" على الصعيد الدولي من خلال إقران العدالة الاجتماعية بالديموقراطية، واعتماد سياسات تنمية بشرية "تجيب عن احتياجات الحاضر من دون التأثير في الموارد وفي حق الأجيال القادمة فيها". 4- اعتبار العولمة مملوءة بالإنجازات العلمية والاقتصادية وثورة في المعلوماتية والقدرة على التواصل، لكن نتائجها موزّعة على نحو غير متوازن تجعل الكثير من آثارها سلبية على البشر في أكثر دول العالم، ما يستدعي: أ- العمل لإصلاح المؤسسات الدولية الثلاث: البنك الدولي وصندوق النقد ومنظمة التجارة لجهة جعل آليات اتخاذ القرارات أكثر شفافية وديموقراطية ولجهة تغيير السياسات المعتمدة حيث أثبتت عدم جدواها. ب- المطالبة بإلغاء الديون الخارجية للدول الأكثر فقراً والأكثر مديونية بالترافق مع إقامة أجهزة رقابية للتأكد من "إحداث إصلاحات في هذه الدول تكافح الفساد وتدفع باتجاه بناء الحكم الصالح". ج- المطالبة باستحداث صندوق دولي لتمويل برامج مكافحة الفقر في العالم، يتغذى من ضرائب توضع على عمليات تجارة الأسلحة، وعلى أرباح الشركات المتعددة الجنسية، وعلى المعاملات المصرفية والمالية المختلفة، وعلى الدول التي تنبعث فيها الغازات الملوثة بمعدلات أعلى من تلك المعتمدة أو المقبولة وفق المعاهدات الدولية. 5- إحترام حقوق الإنسان وتعزيز قيمة العمل وانخراط المرأة فيه، واعتبار الفقر مسيئاً ومهيناًً للكرامة الانسانية، والنظر الى الحقوق الثقافية بصفتها جزءاً لا يتجزأ من حقوق الانسان، وإيلاء قضايا الاندماج والتعليم وحقوق اللاجئين والمهاجرين اهتماماً استثنائياً. 6- حماية البيئة واعتماد السياسات المحافظة على التوازن الإيكولوجي. وتشكل هذه البنود مهمات حددتها حركة الاشتراكية الدولية لنفسها. ومع أنه يمكن إعمال النقد في بعضها والسؤال عن سبل تحقيقه، او اعتبار بعضها الآخر مجرد اعلان نيات لم تلتزم بتطبيقه أو حتى السعي لتطبيقه الأحزاب الاشتراكية الموجودة سابقاً أو راهناً في السلطة، إلا أن إصدارها والتشديد عليها مرة جديدة وبعد شهور فقط من إعلان ساو باولو يظهر أن ضغطاً داخلياً يرفع من سقف المواقف التي تعلنها الحركة والتي تحاول من خلالها إعادة كسب شريحة من القوى اليسارية انتقدت توجهاتها الوسطية والتسووية السابقة مع العلم أن أصحاب هذه التوجهات الوسطية دافعوا أكثر من مرة عن واقعيتهم وعن رفعهم شعارات ممكن تحقيقها وقياس آثارها. فهل تتمكن "الاشتراكية الدولية" من استقطاب قوى إضافية إليها وتحقيق بعض ما تسعى إليه ولعب أدوار أكثر أهمية على صعيد السياسات والعلاقات الدولية والضغط على بعض الحكومات والمؤسسات لتعديل برامجها وتغيير مواقفها؟ الإجابة صعبة، لكن المهم ربما هو المحاولة. وما لا يقل أهمية هو انخراط الاشتراكيين والتقدميين العرب أكثر في هذه الحركة أو في التعاون معها خدمة لقضاياهم وتلاقياً مع قضايا "رفاقهم" في أنحاء العالم. * كاتب لبناني.