يمر هذا العام ثمانون عاماً على قيام أول حزب شيوعي مصري، تاريخ خروجه منشقاً عن الحزب الاشتراكي المصري الذي تأسس العام 1921، والذي كان مزيجاً من الأفكار الاشتراكية المتأثرة بالفابية البريطانية، وما كان يسمى بالاشتراكية العلمية في اشارة الى الماركسية التي نتجت عن الدولية الثالثة، وأخيراً الفكر الاشتراكي الديموقراطي الذي تمخضت عنه الدولية الثانية، ومن جهة القاعدة كان معتمداً على مزيج من المثقفين المتأثرين بالفكر الاشتراكي الغربي، والنقابيين الذين تمرسوا في العمل النقابي العمالي منذ تأسيس النقابات العمالية في مصر في نهايات القرن التاسع عشر، ومن جهة التكوين الوطني مثّل الحزب ايضاً مزيجاً من المصريين والأجانب والمتمصرين وكان منهم سلامة موسى وحسني العرابي وروزنتال. في ضوء ما تقدم، تعرض الحزب الاشتراكي المصري سريعاً - وخلال حوالى عام من تأسيسه - لانشقاق مهم، إذ خرجت منه مجموعة من أعضائه مهمة كماً وكيفاً ممن كانوا متبنيين الفكر الماركسي وأسسوا أول حزب شيوعي مصري، ما أثر عليه سلبياً. ومرّ وقت ليس بالقليل حتى ظهر حزب اشتراكي آخر على قدر من القوة والوزن ليضمن وجوداً مؤثراً في العمل السياسي المصري، وهو الحزب الاشتراكي الذي نشأ عقب الحرب العالمية الثانية عبر تحول حزب "مصر الفتاة" بقيادة احمد حسين من اتجاه قومي - اسلامي الى اتجاه اشتراكي. إلا أن ما يمكن تسميته بالتجربة الاشتراكية في مصر جاء في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وبدأت بتبني شعارات تتسم بقدر من الغموض مثل الديموقراطية الاشتراكية التعاونية في الخمسينات، ثم التأثر بالمفهوم اليوغوسلافي التيتوي، واخيراً الانتقال رسمياً الى تبني الاشتراكية عبر قوانين تموز يوليو بمرحلتيها في 1961 و1964 وما تخلل تلك الفترة من عام 1962 من تبني ميثاق العمل الوطني كوثيقة نظرية تكرس الخيار الاشتراكي، وأعقب ذلك من اقامة الاتحاد الاشتراكي العربي كتنظيم سياسي وشعبي وحيد. وسواء اعتبرنا هذه الموجة من التأميمات ومنح امتيازات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية للطبقة العاملة "اشتراكية" أو "رأسمالية دولة"، وسواء اعتبرنا دافع هذا التحول تعزيز قبضة الدولة السياسية، أو منطلقاً ايديولوجياً، أو انجاز عملية اعادة صياغة للمجتمع المصري SOCIAL ENGINEERING، فمن الثابت أن هذه التجربة كانت الأكثر عمقاً وتأثيراً في تشكيل الثقافة السياسية المصرية ضمن التجارب الاشتراكية كافة، من منطلق شمولية مساسها بكل مناحي الحياة على أرض مصر. وعلى رغم كل الانتقادات التي وجهت اليها بالخلط بين "اشتراكية عربية" احياناً، و"اشتراكية اسلامية" أحياناً اخرى، و"اشتراكية علمية ذات تطبيق عربي" احياناً ثالثة، وعلى رغم الانتقادات التي وجهتها قطاعات من الاشتراكيين والشيوعيين المصريين لتلك التجربة من منطلق انها اساءت الى سمعة الاشتراكية، فالثابت ان اعداداً من هؤلاء انضمت الى مسيرة تلك التجربة منذ النصف الاول من الستينات، ثم دافعت عنها لاحقاً منذ منتصف السبعينات. وجاءت حقبة السبعينات وما تلاها لتشهد تراجعاً واضحاً عن الكثير مما تم تبنيه من اجراءات "اشتراكية" في الستينات، وذهب البعض الى أن عملية المراجعة تلك بدأها الرئيس عبد الناصر نفسه عقب هزيمة 1967، كما ان سياسات اخرى خضعت للتعديل أو التغيير أو التطوير، بحيث اختلف الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي بوضوح اليوم في مصر عما كان عليه قبل ثلاثة عقود. وما يهمنا هنا هو المحصلة الختامية لما بقي من الاشتراكية، ليس على صعيد التشريعات والسياسات اقتصادياً أو اجتماعياً أو سياسياً والتي تعرضت كما ذكرنا - مثلها مثل السُنن كافة - للمراجعة والتعديل والتطوير، وانما على صعيد الثقافة السياسية المصرية، بمعنى البيئة المفاهيمية التي تنهل منها النخبة السياسية المصرية مهما تعددت روافدها، والتي تؤثر بالتالي على الخطاب الفكري والسياسي لهذه النخب وصوغ مطالبها واهدافها. ولا بد من الإقرار بداية انه، بالإضافة الى التأثيرات التي خلفتها تجارب الاشتراكية في مصر منذ العام 1921، فإن تأثيرات لا يمكن تجاهلها هي تلك المرتبطة بمسار الاشتراكية صعوداً وهبوطاً على الصعيدين الدولي والاقليمي، وأخص بالذكر التحولات الاقتصادية التي تمر بها جمهورية الصين الشعبية منذ منتصف الثمانينات نحو تبني اقتصاد السوق وآلياته، وبالطبع ما تعرض له الاتحاد السوفياتي السابق من انهيار وتفكك، وانتهاء الاشتراكية في قلب روسيا وانتهاء الحرب الباردة - وان موقتاً - لمصلحة المعسكر الرأسمالي الغربي. أدت التطورات المحلية والدولية المشار اليها الى تأثير سلبي على اسم الاشتراكية وسمعتها داخل مصر وخارجها، بما في ذلك تغيير احزاب سياسية أسماءها لإزالة تعبير "الاشتراكي" منها، بما فيها احزاب كانت تصنف تقليدياً وتاريخياً في خانة اليسار، كما ان احزاباً وجماعات سياسية اخرى راجعت برامجها السياسية وأزالت الاشارة الى الاشتراكية في بعض الاحيان أو وضعت بديلاً الحديث عن العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وتوفير الخدمات الاساسية وحماية محدودي الدخل وضمان حد ادنى من الحياة الكريمة للشعب، وظهر الأمر نفسه في الخطاب السياسي للقوى السياسية ورموزها، خصوصاً خلال الحملات الانتخابية النيابية وغيرها، حيث بلغ الحرص على تجنب الربط باليسار والاشتراكية درجة تجنب بعض المرشحين خلال جولاتهم في دوائرهم الانتخابية ذكر انتمائهم الفكري والسياسي عندما يكون هذا الاتجاه مرتبطاً بالاشتراكية أو الناصرية أو ما إلى ذلك، ومطالبتهم التيارات أو الاحزاب التي ينتمون اليها بتجنب ابراز الدعم لهم علناً أو من خلال ادواتها الاعلامية، والتركيز على كونهم "مرشحي خدمات"، أي يؤدون خدمات للقاعدة الشعبية التي يسعون الى تمثيلها، وهو سلوك كان يفترض أن يتبعوا عكسه تماماً في ظل مهمة التثقف السياسي المفترض أن تقوم بها النخب السياسية عموماً، وهي مهمة تدعيها لنفسها عادة النخب السياسية المنتمية الى اليسار، وفي ظل دعوة الشخصيات والقوى اليسارية والاشتراكية الى تحويل مسار العمل السياسي والبرلماني من "نواب الخدمات" الى "نواب البرامج السياسية والحزبية والايديولوجية". إلا أن الصورة ليست بالقتامة التي قد يستشفها القارئ من الفقرة السابقة، فعلى رغم الظلال السلبية التي ضربنا امثلة لها في ما سبق، هناك جوانب ايجابية لما تبقى للاشتراكية من أثر وتأثير في الثقافة السياسية المصرية، وتحضرنا أمثلة كثيرة في هذا الاتجاه. فعندما اثيرت مطالب لمراجعة مسائل استقرت في الوجدان السياسي المصري، مثل التراجع عن نسبة ال50 في المئة المقررة للعمال والفلاحين في المجالس الشعبية المنتخبة المحلية والنيابية، أو ما يسمى ب"المساس بالمكاسب الاشتراكية" للفئات الشعبية الكادحة، أو مراجعة الدستور بهدف الغاء تعبير "الاشتراكية" منه، أو مراجعة مجانية التعليم بمراحله كافة، أو خصخصة قناة السويس، كان رد الفعل قوياً وعنيفاً في اتجاه رفض اقتراح تلك المراجعات أو التراجعات أو الأفكار، سواء من جانب ساسة او مثقفين أو اكاديميين أو برلمانيين أو مؤسسات صاعدة تمثل المجتمع المدني، أو حتى دوائر الرأي العام غير المتخصص عموماً. وعكس ذلك في واقع الأمر وعياً سياسياً أخذ في الاعتبار بعض المفاهيم والممارسات الاشتراكية التي ترسخت في فكر النخبة السياسية المصرية منذ زمن ورفض تغييرها، بل إن الحديث عن العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص بشكل أوسع - حتى في صفوف تيارات سياسية محسوبة على اليمين أو الوسط السياسي في مصر، وفي الخطاب السياسي لفصائل منتمية الى الاسلام السياسي - يبرز بدوره تأثر تلك القوى بأفكار اشتراكية الجذور والمنشأ، وان لحقت بها تحولات في المسمى أو في المضمون، أو حتى ادعى كل تيار سياسي انها نشأت أصلاً كتطور طبيعي في سياق الايديولوجية الخاصة به. إلا أن ذلك لا يعني بدوره قداسة مطلقة او جدار تحريم يحيط بالأفكار والاجراءات التي تم تصنيفها تاريخياً في مصر باعتبارها "اشتراكية"، فالثابت أن الوعي السياسي العام في مصر اتصف ايضاً بقدر من المرونة اذا اخذنا في الاعتبار التطورات الدولية والحاجات الوطنية لضمان الاستقلال والحفاظ عليه وتحقيق التنمية وضمان الارتباط بالعصر والاستفادة مما يوفره من فرص ومجابهة ما يفرضه من تحديات لتوفير متطلبات الشعب بكل فئاته. هذه المرونة ربما دفعت الشعب المصري ونخبته السياسية الى تقبل تعديلات في المسار الاقتصادي بدأت منذ منتصف السبعينات وتصاعدت في مراحل تالية وهدفت الى إنهاض الاقتصاد الوطني وتوفير بنية اساسية قوية وفرص عمل تستوعب البطالة والقادمين لسوق العمل، وذلك على رغم ما تضمنته هذه الاجراءات والسياسات من مراجعة معلنة أو ضمنية لما تكرس في الذاكرة السياسية المصرية باعتباره افكاراً وقرارات اشتراكية، وما تبع ذلك من توسيع قاعدة القطاع الخاص على حساب القطاع العام ومراجعة قانون العمل وتحرير السياسات التجارية والمالية والاستثمارية واستبدال التخطيط التأشيري بالتخطيط المركزي، وغير ذلك من اجراءات مثل اطلاق يد اقتصاديات السوق وآليات العرض والطلب وتشجيع الحافز الفردي والمبادرة الخاصة. * كاتب مصري.