يوقظك هاتفك الخلوي صباحاً فلقد ضبطت المنبه فيه ليلاً. يذكّرك أيضاً بعيد ميلاد صديقة أكل الدهر على صداقتها وترك في النفس ذكرى. تتصل بها أو ترسل لها رسالة هاتفية. يسرها فعلك هذا. تشعر بأمان الصداقة التي ولّت، فأنت ما زلت تتذكر عيد ميلادها. قد يذكرها هاتفها أيضاً بعيد ميلادك. لكنها لن تقلل من أهمية الرسالة الهاتفية. ستحفظها نقطة صالحة في سجلك. وما أن يصدر ذلك الصوت المزعج من هاتفك الخلوي حتى تتجه مباشرة نحوه بهدف اكتشاف الموعد المنسي. حفظت، منذ أسبوع، التاريخ والمناسبة في مفكرة هاتفك وطلبت منه أن يذكرك بها قبل الموعد بساعة. كم هو لطيف هاتفك. يريحك. تسأم من أجواء تحيط بك، تنصرف للعبة يحتويها. تسأم مجدداً، تختار لعبة أخرى. تسأم مجدداً، تفتح حواراً عبر الرسائل. تضحك، تفكر، تستخبر. بات في وسعك أن تبقى مرابطاً في مكان لا يروق لك من دون أن تغفو. هو يحميك. هل بني على مقاسك أم أنك فصّلت مقاسك على بنيانه؟ البيضة أم الدجاجة؟ لا يهم. فالثمانمئة وأربعون ألف خط المنتشرة في الأراضي اللبنانية والطبقات الإجتماعية والشرائح العمرية كافة تؤكد أن سؤالاً من هذا النوع ليس مهماً. وعندما تحاول أن تتذكر لحظة لقائك بالصدفة بعابر شارع، تفشل، تركز لتتذكر من كان حينها آخر المتصلين بك، تفتح سجل هاتفك، يقدم لك لحظة الإتصال، تحسب الوقت الضائع وتكون النتيجة: لحظة اللقاء التقريبية. كم هو لطيف هاتفك. هو صادق في حقك. لكن صدقه قد يأتي في غير مصلحتك. فإن كانت رنة هاتفك لم تنتقل بعد إلى عصر "الميلودية"، تضحي متخلفاً عن تطور سبقك. وتكاد تكون متخلفاً إن لم يتحل هاتفك بكاميرا. هل تذكر يوم التقط ربيع صورة لمايا وهي تتمايل على كتف جهاد وكانت تلك الصورة أحد الأسباب الأكثر أساسية في توتر العلاقة بين مايا وفيكتور؟ هل تذكر؟ أم أنك نسيت يوم كنا في الأرز وقررت نورا أن تتنكر في زي "رجل الثلج" وعجز الجميع باستثناء هاتف جمال عن حفظ تلك الصورة في الذاكرة؟ كما أنك لم تنس ما قرأته حول رد الفعل الأول للمواطن عندما يداهمه لص في إحدى الولايات الأميركية: يستل هاتفه الخلوي ويلتقط للص صورة. ولم تكن تلك الحادثة إستثناء. وألقي القبض على اللص... على لصوص. في صباح مشرق، استيقظت والدة ماري متشائمة، فلقد باغتها خلال الليل حلم مزعج. راودتها صورة ابنتها والنيران تطلق عليها من كل حدب وصوب، وعلى رغم ذلك كانت ماري تضحك. ثم، لم تنتبه الوالدة إلى تطور الحلم لكنها وجدت ماري فيه وقد تحولت إلى طلقة نارية تسكن حلم الوالدة. استيقظت متشائمة. استدعت جارتها الخبيرة بشؤون الأحلام، وبالفطرة، فهي تعرف أخبار الجميع وتترجم قلقهم تفسيراً لأحلامهم. سألتها رأيها. ضحكت الجارة وأخبرتها أن عيد ميلاد ابنتها الوشيك سيحمل لها هدية من أصحابها هي هاتف خلوي. ستتوترين، قالت للوالدة، لكن عليك تقبل الأمر. وكانت ماري، وهي في الخامسة عشرة من العمر، تمارس الضغط النفسي اليومي على عائلتها كي يسمحوا لها باقتناء هاتف خلوي. وبعدما حصلت ماري على الهاتف الخلوي، كما توقعت الجارة، باتت حياتها أكثر عذاباً، إذ أنه سلاح ذو حدين، وتماماً كما بات في وسع أصدقائها مخابرتها متى أرادوا، بات في وسع والدتها تتبع تحركاتها. ثمانمئة وأربعون ألف خط كل يوم تتناقش، تتذكر، تلعب، يتركون عبرها "ميسد كول"، ذلك الإتصال الضائع الذي صمم ليخبرك بما فاتك فحوّلته أنت أداة في مصلحتك. "أترك لي ميسد كول"، بلغة الرجاء، الأمر أو الطلب. عبارة لا تحوي ذرة حزن على أي "ضائع". فيها خبر، معلومة. ثمانمئة وأربعون ألف خط، كل يوم تنشط. وإن كنت في مكتبك وتحتاج الى التوجه نحو مكتب آخر، قد تترك راتبك في حقيبتك والباب مفتوح، لكنك لن تترك هاتفك الخلوي.. ما أدراك، قد تتصل بك الجميلة في هذه اللحظة. وما أدراك، فقد يقع طارئ. ويبقى "الأمر الطارئ" أمنع تبرير لحمل الخلوي، أما "الأمر العابر" فهو متعته. ثمانمئة وأربعون ألف خط، باتت من عناصر التغيير في حياة الإنسان الروتينية. تنتقي رقمك، تبدله أم أنت من الذين لا يبدلون أرقامهم؟ أنت من مريدي تلك الشركة المصنعة للهواتف أم أنك تشتهي الألعاب الموجودة في منتجات الأخرى؟ سئمته، بدلته. تغيير، فوقت للتأقلم. متعة. تتأقلم، يصبح صديقك. تسأم، يحين موعد الجديد. وقد تتألم إن كانت الموازنة عاجزة حالياً عن تحمل كلفة هاتف جديد. إنه عذاب الحب بلغة اقتصادية. ثمانمئة وأربعون ألف هاتف خلوي يحوي كل منها عشرات الأرقام غير المحفوظة في أي مكان أخر، يحوي بعضها صوراً تعلقها شعارك على شاشته، فتختصر نفسك بواسطتها.. تخيّل مثلاً أن يقرأ آخر على شاشة هاتفك عبارة "أي لاف يو" ترافقها صورة شفتين ممتلئتين. سيحصرك في خانة. خانة أنت اشتهيتها لنفسك. كخانة "الله أكبر"، "المنجل والمطرقة"، "الحكمة بطل لبنان" أو "عندك بحرية يا ريّس". تخيّل لو، مثلاً، لا سمح الله، أضعته. أضعت هاتفك الخلوي. كارثة، أليس كذلك؟