تشهد منطقة آسيا الوسطى الجناح الأيمن في المشروع الأميركي للشرق الأوسط الكبير لعبة ديبلوماسية حثيثة الخطى تكاد تسبق قدرة مراقبيها على المتابعة. فالعاصمة الباكستانية هذه الأيام أفضل مكان لاستطلاع أحداثها، مثلما اكتشف آرون براون كبير مقدمي البرامج في شبكة "سي ان ان" الذي يرابط الآن في "مراكش" المقهى المغربي الواقع في أفخم فندق في المدينة التي يكاد نصف سكانها أن يكونوا من الديبلوماسيين وموظفي الوكالات الدولية. وقرر براون البقاء في المدينة بعدما تسبب من دون نية مسبقة في تسليط الأضواء على جانب مهم من التطورات المتلاحقة في هذه المنطقة من العالم عندما استضاف الرئيس برويز مشرف في لقاء متلفز كشف فيه الأخير عن احتمال محاصرة أيمن الظواهري في منطقة جبلية شهدت أكبر عملية عسكرية يشنها الجيش الباكستاني في مناطق القبائل حيث يتحصن المئات من مقاتلي "القاعدة" العرب والمتعاطفين معهم من الأوزبك والشيشان والباكستانيين والأتراك من مقاطعة تركستان الشرقية في الصين. لكن التحركات الديبلوماسية تشير الى أمر أكبر من ذلك، وتبدو مرتبطة بتسلسل لتطورات مقبلة تبدأ من الحدود الباكستانية - الأفغانية وتمر بطهران وكابول وكشمير ممهدة الطريق لإعادة خريطة التحالفات الاستراتيجية يقع الاقتصاد في مركزها. وتطرح مصادر سياسية في إسلام آباد تكهنات تفيد باحتمال دخول المؤسستين العسكريتين في كل من واشنطن وإسلام آباد في تحالف جديد يتجاوز الحرب ضد الإرهاب. ويدور الكلام على تصورات أميركية لقيام حلف "ناتو" آسيوي تقوده الولاياتالمتحدة على غرار ال"ناتو" الأوروبي يشمل حلفاء واشنطن التقليديين في المنطقة: باكستان وتركيا وإيران بعد تغيير نظامها ودولاً خليجية الى جانب حلفاء واشنطن الجدد في أوزبكستان وتركمانستان وكازاخستان وأذربيجان مستهدفاً إقامة نظام إقليمي لشبكة أنابيب لنقل الطاقة تحرسه دول حليفة لواشنطن وتمنع بروز أي هيمنة صينية أو روسية، أو حتى هندية، في حال تجاوزت هذه الأخيرة إشكالاتها التنموية وبرزت كقوة إقليمية. فعقب الكشف عن الدور الباكستاني في تسريب معلومات نووية الى دول مثل ليبيا وإيران وكوريا الشمالية، توقع معظم الخبراء أن تقدم واشنطن على معاقبة باكستان، الدولة التي وصمتها افتتاحية في "نيويورك تايمز" عقب تلك الفضيحة ب"حليف واشنطن الذي لا يمكن الوثوق فيه". وبرز اجماع على أن زيارة وزير الخارجية كولن باول الى إسلام آباد الشهر الماضي كانت ستمهد لضغط أميركي غير مسبوق من أجل فرض الرقابة على البرنامج النووي الباكستاني وربما حتى إنهائه. لكن باول أذهل المراقبين في المنطقة عندما وقف في العاصمة الباكستانية مُعلناً باكستان حليفاً كبيراً خارج حلف "ناتو"، في قرار عسكري ذي تبعات إقليمية، خصوصا أن بين أهم حلفاء واشنطن خارج "ناتو" دولاً مثل اليابان واسرائيل وكوريا الجنوبية. فبجرة قلم محت واشنطن سائر خطايا إسلام آباد، مثل مزاعم حول التورط في أحداث 11 أيلول سبتمبر ويسّرت أمر تسليح باكستان من دون أي عوائق من طرف الكونغرس. كذلك، فإن إسلام آباد ستصبح علناً وقانونياً دولة مضيفة لقواعد عسكرية أميركية، مع احتمال طرح معاهدة دفاع مشترك على غرار تلك الموقعة مع اليابان وكوريا الجنوبية واسرائيل ودول "ناتو". كما ستحوز واشنطن الحق في نشر او تخزين أسلحة نووي داخل باكستان، خصوصاً الصواريخ البالستية العابرة للقارات والمحملة رؤوساً نووية. وكحليف كبير على مستوى "ناتو" سيحق لإسلام آباد الوصول الى مخازن السلاح الأميركية. وطبقاً لمصادر رسمية باكستانية تتوقع إسلام آباد أن تتمثل أولى نتائج الخطوة الأميركية في الحصول على مقاتلات "اف - 16" المعدلة لحمل رؤوس نووية، وطائرات المراقبة البحرية "أوريون بي 3 سي" وأنظمة رادارت متقدمة. كما أن الباكستانيين تمكنوا، بفضل الحرب ضد الإرهاب، من إقناع الأميركيين بتزويدهم مجاناً أو بأثمان تنافسية مروحيات هجومية حديثة بغرض ملاحقة الإرهابيين في المناطق الحدودية وأجهزة رؤية ليلية متقدمة للمدرعات والطائرات والأفراد، إضافة الى تحديث أنظمة الأمن والشرطة والاستخبارات بدعم أميركي. وبعيداً من كونه مجرد مكافأة على مطاردة أسامة بن لادن والظواهري في سياق احتمال أن يسهم القبض عليهما في اقتناص ولاية رئاسة ثانية لإدارة بوش، أتت عملية وزيرستان العسكرية مع الاعلان الأميركي كمؤشر الى تطورات مقبلة. ويمكن استشراف تلك التطورات عبر معرفة الثمن المطلوب من باكستان دفعه في مقابل التحول حليفاً كبيراً خارج "ناتو". أول الأمور المطلوبة من إسلام آباد سىتمثل في الالتزام بإرسال قوة معتبرة لحفظ السلام في العراق قبيل 30 حزيران يونيو موعد تسليم السلطة الى العراقيين في بغداد. ويبدو أن الاستعدادات الجارية على قدم وساق لهذا الغرض مع تسريب خبر الى صحيفة باكستانية تفيد بأن 500 من جنود البحرية الباكستانية سيتوجهون قريباً الى شمال الخليج على متن فرقاطتين حربيتين للانضمام الى قوة بحرية مكونة من دول الناتو مرابطة في الممر البحري العراقي. الأمران الآخران المهمان يتعلقان بإيران وأفغانستان. فمن المرجح، في ضوء تردد بعض دول "ناتو" في زيادة عديد قواتها في أفغانستان وانعدام الأمن في ذلك البلد بسبب مقاطعة البشتون حكومة الأقليات في كابول، أن تساعد واشنطن الباكستانيين على دخول أفغانستان مجدداً عبر إرسال قوات تحل مكان بعض قوات اوروبية. وفي ما يتعلق بإيران يريد الأميركيون التزاماً رسمياً يسمح لواشنطن باستخدام القواعد الباكستانية لتدخل عسكري محتمل في إيران. المسؤولون في الهند، التي فوجئت بالقرار الأميركي إزاء باكستان، أوعزوا الى مراكز أبحاث هندية شبه رسمية بأن تروج لنظرية مفادها أن واشنطن ربما تنوي تحويل باكستان قاعدة لاستخدامها مستقبلاً ضد كل من الهندوالصين. ومن الواضح أن القصد وراء مثل ذلك الكلام خلق جو من انعدام الثقة بين إسلام آباد وحليفها التقليدي في بكين. غير أن الصينيين حتماً ينظرون الى التعاون الأميركي - الباكستاني بحذر وشيء من الخيبة. وكان ذلك واضحاً من التصريح الصحافي الذي بادر به رئيس الوزراء الباكستاني مير ظفر الله خان جمالي لقاءه مع ضيفه رئيس أركان الجيش الصيني الشهر الفائت قائلاً إن التعاون مع أميركا لن يؤثر في العلاقات التاريخية مع الصين. لكن الصين القلقة من المظلة الأميركية التي ستلاصق حدودها لم تعبر للباكستانيين مباشرة عن تحفظاتها، بل أرسلت رسالة غير مباشرة. فبعد اسبوعين فحسب من زيارة باول الى إسلام آباد، أرسلت بكين أول وزير دفاع لها الى الهند خلال عشر سنوات. وحط كاو تشانغ تشوان في نيودلهي في 30 آذار مارس الماضي في زيارة تستمر أربعة أيام. وبدأ يومه الأول بعرض مفصل لبدء التعاون بين الجيشين الهنديوالصيني، وهو حتماً عرض سخي في الزيارة الأولى عقب سنوات من البرود في العلاقات. هذه الأحداث المتتالية، من غض النظر الأميركي عن بيع التكنولوجيا النووية الباكستانية مروراً بالحماسة المستجدة لدى إسلام آباد لتنظيف أراضيها من بقايا "طالبان" و"القاعدة" وانتهاء بإعلان باكستان حليفاً على مستوى "ناتو"، مرتبطة بخطة أو تفاهم إقليمي من نوع ما تجد تعبيرها في أفكار وتصريحات مطروحة في واشنطن وإسلام آباد. ففي بدء العام الجاري، طرح الجنرال برويز مشرف فكرة أن يصبح بلده ممراً للتجارة ولأنابيب الطاقة بين ثلاثة أقاليم هي: آسيا الوسطى وجنوب آسيا الهند وغرب آسيا الشرق الأوسط مستفيداً من موقع بلده المتوسط بينها. وسبق أن حاولت باكستان بقوة اقامة خط أنابيب لنقل النفط من تركمانستان الى باكستان عبر أفغانستان ومنها الى الدول المستهلكة في جنوب شرقي آسيا، لكنها فشلت بسبب الحرب في أفغانستان. وتحاول الآن تشجيع كل من ايران وقطر على مد أنابيب لنقل النفط والغاز عبر الأراضي والمياه الإقليمية الباكستانية الى الهند، وهي مشاريع متوقفة بسبب تحفظات هندية. وأقامت إسلام آباد سلسلة من موانئ ضخمة على بحر العرب مرتبطة بشبكة حديثة من الطرق السريعة على الطراز الأميركي تمتد الى الحدود الأفغانية. ويبدو أن واشنطن تتفق مع هذه الأهداف. اذ أعطى باول نبذة عنها في بيانه أمام اللجنة المختصة بالمصروفات العسكرية التابعة لمجلس الشيوخ الأميركي في 27 آذار عندما قال ان "منطقة القوقاز وآسيا الوسطى وغرب آسيا وجنوبها تقدم فرصاً كبيرة اذا تم ربطها بشبكة من التجارة والمواصلات. لكن هذا يصبح ممكنا فقط في حال تمكنا من فرض الأمن والسلام". وأضاف أن "باكستان تنظر في هذا الأمر وقامت بإعادة تشكيل هيكلها وموانئها ... وسنستمر في بناء شبكة الطرق في أفغانستان بمساعدة شركائنا السعوديين واليابانيين". غير أن هذه الخطط لن تتحقق من دون انجاز أمرين، أولهما القضاء على بقايا "طالبان" و"القاعدة" الذين يقضّون مضاجع الأميركيين، وتجفيف منابع دعم او تجنيد مناصري "طالبان"، وهي المهمة الأكثر صعوبة مقارنة ب"القاعدة"، نظراً لأن تنظيم طلبة الدين تحول الآن ممثلاً لآمال البشتون الذين فقدوا السيطرة على كابول على أيدي أقليات مدعومة أميركياً. الأمر الآخر اللازم انجازه قبل نجاح الخطط الإقليمية الأميركية هو تحقيق الاستقرار السياسي في أفغانستان عبر تصفية الميليشيات وأمراء الحرب الذين انفردوا الآن بمقاطعاتهم ويحكمونها بأساليب العصور الوسطى. وسيضطر الأميركيون الى ادخال البشتون في الحكم لتحقيق الاستقرار. وسيكون مثيراً معرفة كيف ستتعامل واشنطن مع أفغانستان في ضوء التحديات المستجدة في العراق.