تلمسنا، بعد التاسع من نيسان ابريل العام الماضي مزاجاً جديداً مفعماً بالأمل وانتظار مستقبل افضل لغالبية العراقيين من مختلف التيارات الفكرية. تلك حقيقة ابرزتها الصور التلفزيونية والتصريحات الصحافية وخطوط الهاتف التي كانت تعمل بين العراق وعواصم العالم وينقلها العراقيون العائدون الى وطنهم العائد إليهم بعد غربة اكثر من عقدين. لم تكن التعبيرات العراقية المختلفة التي طغى عليها التعبير الديني، الشيعي بالتحديد، لتجد نفسها ضالة في بداية الأمر. كانت تنتظر الطرق لتفتح امامها في عراق جديد تساهم في قراره السياسي وحياته الاجتماعية والاقتصادية، وتعيد ارتباطها بالعالم والمجتمع الدولي الذي افتقدته طوال اكثر من اربعة وعشرين عاماً. مزاج عراقي مفعم بالأمل وانتظار المستقبل القريب. لا احد يستطيع ان ينكر تلك الحال على رغم الانهيار والخراب وغبار الحرب الذي كان يتصاعد من عراق مخرب ومدمر لا تنبض فيه سوى روح الأمل التي سادت الغالبية العراقية من الذين انتظروا التغيير سواء كانوا من الشيعة او السنّة او العرب او غيرهم ممن لم يكونوا جزءاً من النظام القمعي. بعد عام تغير مزاج الأمل... ما الذي غيّره؟ وكيف تغير؟ الصورة الأولى، التي عكست ظلالها سريعاً على التغير، هي انهيار مسؤسسات السلطة. كان الأمل معقوداً على تعويضها بسرعة وفي صورة جديدة، يسد فراغها عراقيون ابعدهم النظام السابق واظهدهم وكانوا ضحاياه. كلفت طريقة جلب فريق حكم من الخارج وطريقة تسويقه وعدم انسجامه العراقيين الصدامة الأولى التي لم يمتصوها حتى الآن. ذلك ان هذا الفريق أثبت حقيقتين: تطلعه الطموح للتمسك بالسلطة واحتكارها وتوزيعها على الأقارب والأهل، وعدم اهتمام بالمواطنين والانعزال عنهم، الأمر الذي يعتبر حكماً بالإعدام السياسي على اي فريق في مرحلة بعد سقوط صدام حسين. كما كلفت طريقة ابراز القوى الأساسية في العراق الجديد، والتي ظهرت في اعادة نظام العشيرة والدين، العراقيين صدمة ثانية على حساب الوحدة السياسية التي حلت محل الوحدة الاجتماعية والدينية منذ ثلاثينات القرن الماضي. صحيح ان هاتين الوحدتين هما ما تبقى من اسلوب صدام في الحكم بعد قضائه على الوحدات السياسية المختلفة وتدميره الطبقة الوسطى والأحزاب، إلا ان ظهورها كمظهر وحيد للسياسة في العراق الجديد عنى ان الغالبية ستتخذ شكلاً دينياً وعشائرياً. وهو الأمر نفسه الذي عرقل الانتخابات وجعلها مشكلة بين الدين السياسي والولايات المتحدة. فالعشيرة والدين في العراق مظهر واحد، خصوصاً في الجنوب الشيعي. وكلف حل الجيش برمته، وبطريقة فجائية، غياب اي مظهر من مظاهر السلطة وهيبتها. ولم يبق شيء من رمزية الدولة التي تنازعتها حركتان تصارعتا في شكل مصيري: تبقى الدولة ام لا تبقى؟ ودفع العراقيون والأميركيون ايضاً ثمن هذا النزاع. كان الرهان هكذا: حركة تسعى لإقناع الأميركيين بالإبقاء على كل شيء: الجيش، الأمن، الاستخبارات، الحزب، لترثه بعد إزالة القيادات العليا فحسب. وأخرى تسعى لحرمان الحركة الأولى من هذا الإرث القوي بإقناع الأميركيين بحل الوحدات المذكورة. انتصر حلها وفشل اجتثاثها، حيث شكل هذا الفشل ايضاً كلفة عالية ساهمت في تغيير المزاج العراقي بعد عام. فالبعثيون، رجال النظام السابق، في مناصبهم، او عادوا، او تحولوا: البعثي الشيعي الى "سيد"، والبعثي السنّي الى "شيخ" في النظام الجديد. وطبعاً لم يبق امام المصالحة الوطنية سوى ان تكون امتيازاً لهذا وحرماناً لذاك. كل تجربة تحمل امكان اخطائها معها. لكن وضع العراق الدرامي لم يكن يتحمل التجريب، خصوصاً التجريب في الميدان وبسرعة. وماذا نتج عن هذا التجريب؟ هناك ازمة حكم في العراق. هذا مؤكد. والأزمة الأمنية ناتجة عن أزمة الحكم هذه. لم يكن مقاومو النظام الجديد تجمعوا بعد في الأشهر الثلاثة الأولى التي اعقبت سقوط نظام صدام. لذلك لم تسجل انهيارات امنية في المستوى الذي نشهده اليوم. كان المزاج العراقي العام متفائلاً والانتظار على اشده للمساهمة في بناء العراق الجديد سياسياً وثقافياً واقتصادياً واجتماعياً. كان الأمر يعني عودة ملايين العراقيين من الخارج. لم يكن واضحاً ان الخارج يشكل عبئاً على الداخل. فثلاثة ملايين منفي عراقي يعني ثلاثة ملايين عائلة في العراق تنتظر ابناءها. لم يكن الأمر مشكلة إلا حين ظهر اشخاص من الخارج وكأنهم وحدهم قادمون الى الحكم. نشأت ازمة الحكم منذ البداية. لكنها ظهرت في شكل جلي بعد تأسيس مجلس الحكم في صورته تلك، تحت فيض إعلامي عربي فضائي، لتشويه صورة المجلس التي كانت مؤهلة، مع الأسف، لهذا التشويه. ومع دخول اكثر من 130 ألف جندي اميركي وبريطاني الى العراق دخل إليه ايضاً اقل من مئتين من المعارضين من الخارج. فما ان اقتربت الحرب، حتى تقلصت المعارضة العراقية للنظام المخلوع الى اقل من مئتين بدوا وكأنهم وحدهم في انتظار فوري للحلول محل النظام الساقط. ما ظهر بعد سقوط صدام، هو انعدام قدرة النخب السياسية القديمة على تغيير اساليب التعامل مع الظواهر السياسية، فهي نخب تفترض التطورات ولا تراها، وتصدم امام اية ظاهرة، فهي بعيدة من توقع الظواهر، وتتعامل مع القوى الجديدة في شكل عدائي. فظاهرة تيار الصدر طبيعية جداً وهي نتاج منطق الأحداث ومنطق حكم صدام حسين حيث التعبير الأعلى كان اغتيال آية الله محمد صادق الصدر وقمع خطابه المتحدي في مسجد الكوفة، ولا بد من بروز ثمن لهذه العملية الدرامية. وهذا الثمن تمثل في بروز التيار في صورة الابن. انه تعبير لم يجد سوى رؤيته مقاومة من قبل التيار نفسه ومن قبل الآخرين الذين انتهز بعضهم بروزه لينضوي تحته باسمه ولكن وفق حساب آخر. ولذلك اختلط فيه كل شيء. هناك ازمة حكم لن تحلها مقترحات الأخضر الابراهيمي المنحازة هي الأخرى. والتي تبدو وكأنها اجندة بعض الأنظمة العربية للحكم اكثر مما هي اجندة العراقيين. وسيكون من الخطأ تكرار ازمة الحكم وفق مقترحات الابراهيمي الذي يلتقي الناس في بغداد على هواه. يلتقي هذا ويتجاهل ذاك وفق رؤيته. وبحسب معلومات خاصة فإنه انتقد آية الله السيستاني في لقاء خاص مع عراقيين محدودين توهم ان علمانيتهم تتيح له مثل هذا النقد، متجاهلاً دوره الذي يجب ان يتسم بالحيادية، مما أثار غضبهم من طريقة تدخله. ان مؤتمراً عراقياً من ألف شخص يمثل الجميع من دون استثناء يمكن ان يكون مؤتمراً عاماً للعراقيين لإجراء مصالحة وطنية والبدء في وضع خطوات سياسية تتمثل فيها مصالح جميع الأطراف لاختيار شكل الحكم ما بعد الثلاثين من حزيران يونيو وليكون ذلك الشكل الخطوة الكبيرة الأولى في بناء عراق مستقر يضمن امنه الجميع ويضمن امن الجميع. هناك، بعد عام على سقوط صدام، تغير في المزاج العراقي العام تجاه الأميركيين يمكن ان يقود الى عواقب اسوأ. علينا ان نتمعن في دور هيئة علماء المسلمين، الذي تكرس عبر وساطتها في قضية المخطوفين اليابانيين. هناك ازدحام على بابها من ممثلي الدول التي خطف مواطنوها. هل هناك استخدام لهذا الدور في الاتجاه الصحيح لمعادلة التوازن المذهبي في ازمة الحكم الحالية؟ إذا قدر لأحد، يعرف الأشخاص وخلفياتهم، ان يطّلع على قائمة وكلاء الوزارات التي قدمت لبول بريمر وتضم 78 شخصاً سيجد ان ازمة الحكم كارثة حقيقية. لم يترك احد من اعضاء المجلس قريباً او نسيباً او تابعاً إلا وألحقه وكيلاً لوزارة ما. بحيث ان غالبية الوزارات اقترح لها اكثر من ستة اسماء لاستيعاب المحسوبين. رفضها بريمر كما علمنا لأنه طلب "ترجمة حال" او "سي في" الأشخاص فاتضح ان نصفهم لم يحصل سوى على شهادة الابتدائية، تكنوقراط جديد، امي! هذا جزء اساسي من ازمة الحكم. فكيف تفهم الحكم، يعني كيف تحكم وما هي قدراتك للحكم؟ العراقيون يتابعون كل ذلك، ويعمقون ازمة الحكم طالما اصبحوا قادرين على ممارسة حرية القول والتنظيم والتظاهر والاحتجاج والرفض. وصعوبة العراق تكمن في احد امرين: إما ان تتجاهل حقوقه فتحكم بالحديد والنار، اي فاشية وديكتاتورية لا تنام هي الأخرى كما كان صدام لا ينام في قصوره السبعين، وإما ان تعطي للمعتزلة والأشعرية والشيعة والخوارج والحنابلة والشافعية والحنفية والمالكية والمتكلمين وغيرهم حضوراً في المشهد العراقي. لا تراكم في العراق، لأنه لا يستقر. والتراكم الوحيد هو تراثه الثقافي على الاختلاف. ومن هذا التراكم يجب ان نبدأ. لا تتجاهل حقوق العراقي ولا تستغفله في أي مسمى فستجد انه معك. هذه نصيحة للجميع اذا كانوا يريدون عراقاً مستقراً، سواء كان ديموقراطياً حقاً، ام ديموقراطيته ملفقة لحكم الأوليغارشية. العراقيون يشعرون الآن بالعزلة عن تقرير مصيرهم. يشعرون بأنهم ضحايا لنظام جديد باختيارهم هذه المرة، يشعرون بالبطالة التي لا تسد الرمق. يشعرون بأنهم مهمشون، بأنهم يخسرون من جديد. على الأميركيين، طالما هم منسقو الحكم الجديد، ان لا يسمحوا للعراقيين بالشعور بأنهم خدعوا وأن المستقبل ضاع منهم، وأن الديموقراطية حلم تبخر. وإذا كان العراق يشهد الآن اعمال عنف وقتال من رافضي الاحتلال الأميركي، فإن ما بعد الثلاثين من حزيران قد يشهد انتفاضة من محرومين من المشاركة في العراق الجديد. * كاتب عراقي مقيم في لندن.