قلة من النخب العربية، قد لا يتجاوز عددها اصابع اليد، اسقطت فعل الإدانة، كتابة او تصريحاً، على ظاهرة خطف الأجانب في العراق واحتجازهم انطلاقاً من "عقيدة نضالية" مراهقة، تبدو رديفة لحلم صبياني محوره ان طريق تحرير العراق يمر عبر خطف اليابانيين والكوريين والروس والأوروبيين وغيرهم من مدنيي جنوب القارة الأميركية، المفترض انهم عالمثالثيون، اسوة بنظرائهم العرب. وحين يُقال، قلة من النخبة العربية، فمعنى الكلام، ان ثمة عقلاً عربياً مفكراً، مأخوذ بنشوة الخطف والاحتجاز، وذلك تحت وطأة الظن بأن استجماع الرهائن والإكثار منهم من شأنه انتاج عوامل ضغط تدفع في اتجاه تغيير سياسات القوى الدولية المتحالفة مع الولاياتالمتحدة في العراق، وكل ذلك يُفضي الى تناول هذه المعضلة من زوايا ثلاث: 1- ان فعل الخطف في العراق ليس خارجاً عن ثقافة الخطف خارج العراق، بل إن الثانية الثقافة التي تلتزم الحياد او الصمت لا تفعل في الواقع غير تسويغ الخطف وتبريره، والوصول الى حد اعتباره ممارسة ثورية تلجأ إليها الشعوب الواقعة تحت سطوة الاحتلال، ومثل هذا التبرير الذي ينم عن منطق العصابات المتضارب مع منطق حركات التحرر، يلاحظ اسبقيته قبل حرب العراق بعقود وأعوام. فخلال سنوات الحرب الأهلية اللبنانية ساد منطق الخطف بين الطوائف والجماعات السياسية اللبنانية، ضمن ما غدا معروفاً في الذاكرة اللبنانية ب"الخطف على الهوية". إذ كانت الطوائف الهائجة تتسابق الى خطف من هم على غير تابعيتها، بغرض القتل أو تبادل مخطوفين، والأمر عينه ينطبق على ممارسة الجماعات الإسلامية المسلحة في الجزائر، والتي وسّعت من منطق الخطف ليشمل إناث اعدائها في السلطة والحكم، بل اعتبارهن سبايا يجب التمتع بهن، على ما قال مرة، بيان ل"الجماعة السلفية للدعوة والقتال"، ونظير هذا الأمر، مورس في الأردن، قبيل احداث ايلول سبتمبر 1970 وخلالها، اذ ابدع "الثوريون الفلسطينيون" في عمليات الخطف، وحتى اغتصاب بعض النساء اللواتي كن زوجات لرجال قريبين من السلطة الأردنية. وغاية القول هنا ان منطق العصابة السائد في العراق له جذوره الثقافية في العقل العربي الجمعي، ولذلك فإن تطبيقات الخطف اشبه بحمّالة ايديولوجية متنقلة، تجد تبريراتها في الواقعة وفي الجغرافيا اللتين يراد إنزال الفعل فيهما، ففي لبنان استندت الطوائف الهائجة في عمليات التخاطف الى مقولة حماية الذات الطائفية او المذهبية، وفي الجزائر جوّز الإسلاميون افعالهم بالتكفير، وفي الأردن سوّغ الثوريون ارتكاباتهم على ايقاع "حماية" المقاومة الفلسطينية، وفي العراق تبرز مقولة الضغط بهدف التحرير. قد يقال هنا، إن ما سبق قوله يشكل جامعاً عاماً للشعوب كافة، وقد يُضرب المثل بوقائع الخطف والاغتصاب في حروب البلقان في تسعينية القرن الماضي، او بمماثلات غيرها، والواقع ان شأن النخب العربية في استلهام الأمثلة والنماذج، انها تجري وراء السيئ منها لتبرير منطق العصابة، ومنطق المراهقة السياسية، فالنموذج الروسي، على سبيل المثال، حيث روّع بالعمليات الانتحارية لم يخرج من صفوفه عصابات تخطف الشيشانيين او المسلمين، وكذلك الحال مع النموذج الإسباني ووقوعه تحت أذية تفجيرات مدريد في 13 آذار مارس الماضي، وهنا يتغلب اليقين على الشك في أن تفجيرات مدريد لو وقعت في بلد عربي وعُرف ان منفذيها من الإسبان، لتأبّط كثير من العرب منطق الثأر والانتقام، وراحوا يلاحقون الإسبان والأوروبيين حيثما وُجدوا في اي بلد عربي! وعلى هذه الحال يبدو الأمر، وفقاً لمجمل ما تقدم، ان وقائع الخطف في العراق هي نتاج عقل يركن لمنطق العصابة الباحث عن قطف ثمرة اللحظة وما تنطوي عليه من استظهار للبطولة والترويع مشهد مجموعة من الخاطفين يوجهون السكاكين صوب عنق احد المخطوفين، من دون ان يكون لها اي مردود عملي سوى التأكيد على النصر الموهوم. 2- يرتكز حديث الخطف في العراق على قاعدة تعدم القراءة السياسية السليمة لمواقف القوى الدولية من الحرب، وكذلك لهويات المخطوفين ووظائفهم، الأمر الذي يدل الى ما هو ادنى من المراهقة السياسية وربما التوصيف الأخير، يوجز حال القوى السياسية العراقية التي تمارس الخطف او تدافع عنه، فروسياً مثلاً، التي خطف لها العديد من رعاياها في العراق شكلت مع فرنسا وألمانيا محوراً ممانعاً للحرب على العراق، والى درجة هددت فيها موسكو قبيل انطلاق عجلة الحرب في 19 آذار من العام الماضي باستخدام "الفيتو" في مجلس الأمن للحؤول دون وقوعها. أما الاستئناس بخطف الروس فله ثلاثة اسباب على الأرجح، الأول يتصل بموقف الخاطفين من "الرجل الأبيض" وهذا منتهى الحقد، والثاني لكون الروس من المسيحيين، وهذا حقد مضاعف لا اصل شرعياً اسلامياً له، فيما السبب الثالث له علاقة بالحرب في الشيشان، الأمر الذي يُنبئ برغبة "الأممية الإسلامية" في نقل الحرب من الشيشان الى العراق ايماناً ب"وحدة المعركة والسلاح"! الجانب الآخر، من المراهقة السياسية، يكمن في خطف الصحافيين والعاملين في هيئات مدنية، وهؤلاء من دول آسيوية وأوروبية. فاليابانيون المخطوفون او قسم منهم ليسوا على اي علاقة بحكومتهم، فضلاً عن ان عديد القوات اليابانية في العراق، لا يتجاوز ال600 ضابط وجندي، ووجودهم في العراق لا يدخل في نطاق المهمات القتالية. أما المخطوفون الأوروبيون فليسوا بالضرورة من اتباع حكوماتهم او من مناصريها، علماً ان التظاهرات المناهضة للحرب الأميركية في العراق شملت انحاء اوروبية عدة اسبانيا ستة ملايين متظاهر، وفرنسا مليونان، وإيطاليا مليونان، وبريطانيا مليون. وأغلب الظن ان حملة السلاح العراقيين، اما انهم على غير دراية بالتجاذبات الحاصلة في كل دولة اوروبية، وإما انهم لا يقرأون، وهذا من دواعي الشفقة، وإما انهم يقرأون ويتغافلون وهذا ما لا يجعلهم اهلاً للريادة وحمل رايات التحرير! 3- مراوحة العقل السياسي العربي في الفراغ وانعدام قدرته على تحصيل التراكم والخبرات السياسية، والشاهد على ذلك، ان عمليات الخطف في العراق، ومثلما تقدم القول، يفترض القائمون عليها انها تشكل عوامل ضغط على القوى الدولية صاحبة القرار في العراق للانسحاب منه، او خفض مستوى المواجهات العسكرية الحاصلة في اكثر من منطقة عراقية. ومثل هذا الافتراض يبدو انه مجرد من جذور اية قراءة سياسية لأعمال مماثلة غطت المساحة الزمنية للخمسين سنة الماضية، ولعل استحضار تجربة "ثوار المدن" في اوروبا الغربية في ستينات وسبعينات القرن العشرين المنصرم، تشي بالكثير من التجارب الفاشلة، فخطف رجال الأعمال والسياسيين والمدنيين من جانب "الألوية الحمراء" الإيطالية او "بادر - ماينهوف" الألمانية او الجيش الأحمر الياباني لم يسفر عن غير تلاشي منظمات الخطف والقتل، وبالتالي، زيادة حدة التضييق والمواجهات من قبل حكومات الأطراف المعنية. وإذا كان شعار الخطف في العراق يندرج في سياق التحرير، فشعار الخطف والقتل الذي رفعته "الألوية الحمراء" في ايطاليا وشقيقاتها في الدول الأخرى، لم يخرج عن سياق اطاحة الأنظمة الرأسمالية وإقامة بدائلها الشيوعية، وفي الحالتين، تلاحظ كثافة الشعار السياسي وخوائه العملي. ويدخل في الدائرة نفسها تحرير فلسطين من خلال خطف الطائرات من جانب اليسار الفلسطيني في السبعينات، فلا تحررت فلسطين، ولا بقي اليسار الفلسطيني على حاله. ولعل إحدى اهم اشكاليات العمل السياسي المتهور تكمن في إجادة صوغ الوهم ومن ثم الاستغراق فيه، لكن خطورة التهور السياسي العربي تتبدى في طول اقامتها في العقل الجمعي وثورات التهور من جيل الى جيل، من دون النظر الى الحصاد المرّ الذي تثمره التجارب الفاشلة والكارثية، تلك المتأتية من طريق استسهال الأفعال وصغائر الأعمال، والتي لا تحتاج الى ابتكار وإبداع وإعمال للعقل، مثلما هي الحال مع عمليات الخطف الجارية في العراق. واستكمالاً من النقطة ذاتها اي استسهال الأفعال بالإمكان تخيّل مجموعة من حملة السلاح العراقيين او حملة السكاكين، تتربص لأي عابر سبيل لخطفه، وبعد ذلك تصدر بياناً تطالب فيه قوات الاحتلال بالخروج من العراق. والملاحظ هنا ان فعلاً سهلاً يراد منه إحداث تغيير في السياسات الاستراتيجية الدولية، ومثل هذه المراهقة لا يقابلها شبيه تاريخي احدث تغييراً استراتيجياً على مستوى اقليمي او دولي، ولا يشير التاريخ الى ان مجموعة من الخاطفين املت على قوة محتلة انسحاباً من جغرافيا معينة، بل ان قراءة التجارب التاريخية لهذا النوع من الممارسات تفيد ان تعديلات كانت تطرأ على سلوكيات منظمات الخطف في طور انتقالها من العمل السياسي المراهق الى طور النضج السياسي، خصوصاً مع ثبات عدم قدرة مثل هذه الممارسات على تغيير السياسات، وهذا واضح تماماً في العراق. إذ ان الدول التي خطف رعاياها، وتحديداً تلك التي جاءت الى العراق ضمن مشاريع استراتيجية، اعلنت اصرارها على البقاء. وبالتأكيد ستزداد حدة هذا الاصرار كلما ارتفع ايقاع عمليات الخطف او ما هو على شاكلتها. الأمر الأخير له علاقة بموقف النخب العربية من عمليات الخطف، فتبرير عمليات الخطف وازى تبرير هجمات 11 ايلول سبتمبر في نيويورك وواشنطن، ويوازي تبرير الهجمات التدميرية في مدريد في آذار الماضي، وكلها تبريرات تسهم في شيوع العنف العاري الذي يعبّر عن غياب المشاريع السياسية المفترض ان تواجه تحديات مفروضة على العالم العربي. وأغلب الظن ان مبايعة رايات العنف العاري تنمّ عن منطق عاجز ناتج من عدم قدرة العقل السياسي العربي عن اجتراح الحلول ومواجهة التحديات المفروضة، الأمر الذي يرفد الواقع بمزيد من التعقيدات والمعضلات التي يتقدمها الإمعان في تشويه صورة العرب والمسلمين. * كاتب لبناني.