"ما مرّ عام والعراق ليس فيه جوع". هذه العبارة الشعرية التي أطلقها قبل نصف قرن تقريباً، صاحب "أنشودة المطر" الشاعر الريادي بدر شاكر السياب، حفظها عن ظهر قلب عرب كثيرون. وقد حملت العبارة هذه، بمقتضى قراءة اولية وتقريرية، على معنى الجوع المادي والمحسوس. على ان شعرية العبارة ونبرتها الرومانسية الحاملة في آن معاً وجه التحسّر والشكوى ووجه التظلم والاحتجاج، تجيزان بالتأكيد، بمقتضى قراءة تأويلية مفتوحة هذه المرة، حمل العبارة على المعنى الرمزي المرتكن الى تشخيص مواصفات كينونة راسخة، مما يمنح "الجوع" دلالة وجودية تكاد تكون مطلقة. إنه جوع الى شيء ما، غامض بقدر ما هو ملح، وهذا الشيء يحتمل ان يكون، في زمن السيّاب الذي ما زلنا نعاصره، مدار قيم ومثل كبرى مثل الحرية والعدالة والمساواة والطمأنينة وكرامة العيش... الخ. وفي هذا المعنى يمكن ان يكون الجوع هذا تعبيراً كنائياً عن شوق ولهفة الى الانتقال من حال وجود الى حال اخرى. كان السيّاب، بطبيعة الحال، يستشعر هذا الانتقال ويلتقط نبض مفاعيله، السلبية والإيجابية، المضطربة والمنشودة على حد سواء، وكان "يشعرن" هذا النبض المتخذ ايقاعات مختلفة تبعاً لاختلافات الدخول في العصر وفي الحداثة، بين مجتمع وآخر في المشرق العربي والإسلامي الخارج قبل عقود قليلة من الكيانية الامبراطورية العثمانية والوالغ في لعبة تشكل الدول الحديثة، قبل الاستقلال الوطني وبعده، والصياغات المتسرّعة عموماً للإيديولوجيات القومية والوطنية. إذا كان في مقدورنا اليوم ان نقول انه لا يمرّ يوم والعراق ليس فيه حرب، في المعنى الحقيقي والمجازي، وذلك منذ وصول صدام حسين عملياً الى السلطة بوجه عام، ومنذ الحرب الأميركية - البريطانية بوجه خاص، فإن هذا لا يعفينا من مشقة الخوض في استكناه دلالات ومفاعيل ومفارقات هذه الحرب الواعدة بانتقال العراق، ومن ثم المنطقة بأسرها من جحيم الاستبداد والتسلط الى فردوس الديموقراطية والحرية. وليس المقصود بقولنا هذا استجماع وسرد الوقائع الكثيرة والمتنوعة للمواجهات وحوادث القتل والخطف والقصف والتدمير باعتبارها علامات وسمات وضع حربي يضع وجهاً لوجه قوتين ومشروعين متعارضين بطريقة لا مخرج منها. والحال ان إدارة الرئيس بوش وحكومة اياد علاوي تحرصان على اختزال المواجهات الى صراع بين الشعب العراقي ورؤيته المستقبلية للسلام والديموقراطية، وبين الإرهاب والمتطرفين وبقايا نظام صدام حسين، كما انه ايضاً صراع جميع البلدان المتحضرة ضد العاملين لتدمير المدنية والحضارة بحسب عبارات رئيس الوزراء العراقي في كلمته التي ألقاها امام الجمعية العامة للأمم المتحدة. ومن المعلوم انه بقدر ما تتفشى وتنتشر الشعارات المؤدلجة والخطابية مثل الإرهاب والحضارة والأمن والديموقراطية والتحرر بقدر ما تتضاءل حمولتها ودلالاتها الفعلية وتفضي الى إفقارٍ لمضامين ومدلولات هذه الكلمات التي يسعى تسويقها البلاغي وتقديمها بمثابة خلاصات شافية وإجمالية الى اعطائها نكهة خلاصية ورسولية ينعقد عليها جلب الترياق الى العراق. ومن نافل القول ربما ان التمسك بهذه الصورة يعوّل عليه حجب مفاعيل الحرب نفسها وما احدثته وتحدثه في النسيج الاجتماعي العراقي وفي وضعية المكونات الثقافية والإثنية والمذهبية الدينية للبلد العراقي بأطيافه المتعددة. وهذا ما نعنيه بحديثنا عن الحرب بصفتها حدثاً متصلاً ويومياً من ناحية مشهديته الإعلامية الإجمالية، علماً أن الحدث حوادث كثيرة من الصعب ان نجد إطاراً مشتركاً وجامعاً لها. ومعنى هذا ان العراق بلغ درجة من التذرر والخواء، إذ بات جائزاً الحديث عن شبه استحالة لبناء دولة وطنية مركزية. يمكننا ان نضع في هذا السياق قول قادة عسكريين اميركيين ان مصالح العشائر وتوزّع ولاءاتها السياسية اضافة الى قلة المعلومات الاستخباراتية تعطّل الجهود المبذولة للقضاء على عمليات التخريب المتزايدة التي تتعرض لها البنى التحتية النفطية في العراق. من ناحية اخرى، وفي ما يخص الدور المتعاظم للعشائر العراقية المتنافسة، طلب وفد من العشائر، وصل الى دمشق منذ اسبوعين في اطار جولة عربية وأوروبية، توسط سورية لدى ايران كي تكف عن التدخل في الجنوب. وفي هذه الزيارة قال الأمين العام لأحد التجمعات العشائرية انه قام بمحاولات واتصالات لتحرير عدد من المخطوفين ولتحرير الصحافيين الفرنسيين. كما اتهم "الموساد الإسرائيلي" بأنه "موجود في شكل كبير في شمال العراق منذ عام 1991 ... ويتزايد عددهم وهم الذين يمارسون اعمالاً تخريبية في العراق". واعتبر الزعيم العشائري، في تعليقه على زيارة رئيس وزراء العراق لواشنطن وخطابه امام الكونغرس ان اياد علاوي "إحدى الأدوات لتنفيذ السياسة الأميركية واحتلال العراق وتأمين مصالح وخدمات لدول التحالف". من الواضح ان الزعيم العشائري المشار إليه يغمز من قناة تغلغل اسرائيلي في مناطق الأكراد، ويضع هذا الغمز في منظار قومية عروبية تتهددها التدخلات الإيرانية والإسرائيلية وتعاظم النزعة الخصوصية والانفصالية الكردية. يجدر القول، في هذا السياق، ان المستشرق الفرنسي، الماركسي على طريقته، مكسيم رودنسون سبق له، في كتابه المعروف عن "العرب" الصادر عام 1979، ان أشار الى ان اسرائيل والأكراد يحولان دون سيطرة كاملة للجنس العربي على منطقة الشرق الأوسط. ويذكر الصحافي الفرنسي آلان مينارغ في كتابه الصادر منذ اشهر قليلة عن اسرار الحرب اللبنانية حديث احد مسؤولي الموساد عام 1982 عن مساعدات حقيقية قدمها الإسرائيليون الى الأكراد خلال معاركهم مع السلطة العراقية في السبعينات، اي قبل غزو الكويت والانسحاب المهزوم منه. ولم يعد خافياً على احد ان العلاقات العربية - الكردية بلغت حداً خطيراً من التأزم المنذر بقطيعة عدائية بين الجنسين. وأخطر ما فيها هو استسهال اطلاق الأحكام الجاهزة والإجمالية الدائرة على التخوين والاتهام المتبادل بالتسلط والسعي الى الغلبة العارية. وإذا كان هناك مشكلة كردية فعلية وتستحق ان تعالج في اطار نظرة عقلانية تعطي الأولوية للرابطة السياسية الجامعة التي يتساوى فيها حقوقياً جميع مواطني الدولة، فإن سكوت الجهات الكردية النافذة عن النشاط الإسرائيلي في مناطقها لا يفعل سوى صبّ الزيت على نار علاقة ساخنة من ذي قبل، وهي علاقة تنزع اكثر فأكثر، خصوصاً في ظل التذرر المتزايد للبلد العراقي، نحو تشخيص النزاع في صورة نزاع بين عشائر وقبائل تقتصر عقولها السياسية على الأثرة والأنانية والثأر والشرف وصناعة المكائد. وهذا التذرر هو ما دفع ويدفع بباحثين وخبراء الى الحديث عن تسوية في العراق على الطريقة اللبنانية، اي على توافق بين الجماعات على حصصها من السلطة والثروة، وإن كان هذا التوافق يظل موقتاً ويظل تعبيراً عن حرب باردة بين الطوائف والأقوام. على ان درجة التذرر واستحكام الشبهات والارتيابات واستفاقة الوحدات الاجتماعية الأولية مثل العشائر والقبائل والعائلات وضمور دور الفئة الوسطى التي تشكلت في كنف دولة المحسوبيات السياسية في عهد صدام، وعلى هوامشها في الحقيقة، يجعل من الحل اللبناني أمارة على تفاؤل يكاد يكون حلمياً.