لا أظن أنني مبالغ في إثارة المخاوف إذا ما تنبأت بأن الأسابيع والشهور الآتية تنذر بمخاطر قصوى، كأنما كوكب الأرض كله مهدد بانفجار بركاني وشيك. ذلك أن التعطش للثأر ومستوى الإحباط في العالمين العربي والإسلامي بلغا حدا يجعل انفجار العنف متوقعا في بقاع واسعة مختلفة. ويبدي المسؤولون عن الأمن والاستخبارات اقتناعاً راسخاً بأنه تم التخطيط لمزيد من الأعمال الإرهابية في دول عدة تستهدف بشكل خاص، ولكن ليس حصرا، أميركا وإسرائيل وبريطانيا. وقد أشار رئيس قوى الشرطة في بريطانيا بكل صراحة أخيراً الى أن الهجوم الإرهابي في لندن"لا مفر منه". لعل التصرفات والتصريحات التي صدرت أخيراً عن الرئيس الأميركي جورج بوش ورئيس الحكومة الإسرائيلية أرييل شارون ورئيس الحكومة البريطانية توني بلير أساءت بشكل بالغ إلى شريحة واسعة من الرأي العام العربي والإسلامي، بحيث أصبح منتظراً أن تثير رد فعل عنيفاً. وإذ لجأوا إلى استخدام القوة واستبعدوا أي حل سلمي للنزاعات الإقليمية، سواء في العراق أو في فلسطين، فإن هؤلاء الزعماء جعلوا الإرهاب أمراً مشروعاً. وسواء كان ذلك عن وعي أو كان لاشعورياً فإنهم في الواقع قد استفزوا المشاعر وحرضوا على الإرهاب. وليس من المبالغة في شيء أن نقول بأن بوش وشارون يعتمدان على"الإرهاب"لدعم موقفهما. فلولا 11 سبتمبر لاعتبر بوش رئيساً ضعيفاً جاء إلى البيت الأبيض بوسائل مشبوهة. ولعل صورته كرجل حازم وصارم يعرف كيف يتعامل مع"الإرهاب"هي الورقة الرئيسية التي يعتمد عليها للفوز بفترة رئاسية ثانية. وكذلك الأمر في إسرائيل حيث جاء"الإرهاب"بشارون إلى الحكم وبقي فيه حتى الآن. ترى ماذا عسى هذين الزعيمين أن يفعلا لولا ذريعة الإرهاب؟ بعض الإشارات العابرة تأثر به الرياح لتنذر بالعاصفة الآتية، منها مثلا قيام شرطي أردني في كوسوفو بإطلاق النار على حافلة تنقل حرس سجون أميركيين وبقتل اثنين منهم وجرح ثمانية، ومنها أيضا اكتشاف قنبلة كيماوية في عمان كان يمكن أن تؤدي حسب تقدير السلطات الأمنية إلى قتل عشرين ألف شخص وإلى تدمير السفارة الأميركية ومركز الاستخبارات الأردنية. وفي إشارة أخرى تضاف إلى الجو المشحون بالخطر، أعلنت وزارة الخارجية الأميركية بأنها أمرت موظفيها غير الضروريين من الديبلوماسيين في المملكة العربية السعودية أن يغادروا البلاد. لقد أصبح الأميركيون غير آمنين في أي مكان. فحين يكون الاستفزاز بالغا فإن ذلك يدفع بعض الأفراد إلى أعمال يائسة. انهيار النظام الدولي وأمام غضب الجماهير اضطر بعض الزعماء الموالين لأميركا لأن يلجأوا إلى البحث عن غطاء. هكذا اتخذ الملك عبدالله خطوة جريئة هذا الأسبوع في إلغاء اجتماع كان يفترض أن يعقده مع الرئيس بوش. وقامت السعودية من جانبها بتوجيه انتقادات لاذعة للتصريحات التي أدلى بها بوش وشارون في اجتماعهما الأخير حيث أشاد الرئيس الأميركي بالقرارات"التاريخية والشجاعة"التي اتخذها"صديقه"شارون. كان ذلك اللقاء فضيحة ستظل راسخة في أذهان الملايين الذين شاهدوه على شاشات التلفزيون. وفي مقابلة مع صحيفة"لوموند"الفرنسية هذا الأسبوع صرح الرئيس مبارك بأنه يعنقد بأن كراهية أميركا بلغت أقصى الحدود. ويمكن القول بأن النظام الدولي، القائم على القوانين والمؤسسات وعلى الديبلوماسية وضبط النفس، وعلى التحالفات والاحترام المتبادل، هذا النظام يتحطم الآن بفعل الضربات التي وجهت إليه بالحرب اللاقانونية واللامشروعة في العراق وبسقوط مئات بل آلاف الشهداء من الشعب الفلسطيني وبعمليات قتل زعمائه التي تتسامح فيها أميركا إن لم تكن تشجعها. ويبدو أن الإدارة الأميركية لم تدرك إلى أي مدى أدى فقدان الثقة بها إلى تشجيع الفوضى والفلتان كما قال السناتور جون كيري المرشح الديموقراطي للرئاسة:"لم تبلغ الولاياتالمتحدة يوما الدرك الذي بلغته اليوم على الصعيد الدولي". أما توني بلير فقد أساء أبلغ الإساءة إلى سمعة بريطانيا من حيث النزاهة والإنصاف وعرضها بتهوره للانتقاد المرير والتهجم. فقد أكد وأبواقه تصميم بريطانيا على مجابهة المصاعب في العراق وعلى إلحاق الهزيمة ب"المتعصبين والإرهابيين". وقد فاته أن مثل هذا الموقف الاستعماري البالي يتجاهل قوة الوطنية العراقية. وقد زعم بلير بأن خطة شارون للانسحاب من غزة ستصب في"خريطة الطريق". وفي هذا القول الكثير من المراءاة المخجلة فالجميع يعرفون بأن ضم شارون للمستوطنات الكبرى في الضفة الغربية، إضافة إلى جداره المخزي سيقتلان"خريطة الطريق"نهائيا. وكذلك تبدو صدقية بلير في أوروبا في الدرك الأسفل. فهو بعد أن هدم سياسة أوروبا الخارجية والأمنية المشتركة بانضمامه إلى حرب واشنطن ضد العراق، أخذ يعلن الآن وبكل صفاقة أن مصير بريطانيا إنما يكمن في"قلب أوروبا". وخطابه في البرلمان هذا الأسبوع الذي دعا فيه الشعب البريطاني إلى الموافقة على الدستور الأوروبي عن طريق استفتاء من المرجح أن يتم في العام القادم، قوبل في بعض الدوائر في باريس بالاستهزاء والسخرية. أما في العراق فالحرب التي لا يمكن كسبها لا تزال تمثل مشروعاً أميركياً، بريطانياً محكوماً بالفشل. فهناك دول أخرى بدأت تتراجع بأسرع ما يمكنها. فاسبانيا التي ستسحب قوتها المؤلفة من 1400 جندي، تبعتها هندوراس 370 جندياً وجمهورية الدومينيك 150 جندياً. ومن المرجح أن تلحق بها البرتغال 150 جندياً، والسلفادور 380 جندياً. وتايلاند 440. حتى بولندا التي حرصت على أن تبدو كحليف قوي لأميركا تتردد الآن في تجديد مهمة ال2400 جندي في العراق التي تنتهي أواخر أيلول سبتمبر المقبل. وهكذا بدأ التحالف يتداعى. قليلة هي الدول التي ترغب في المشاركة في كارثة أخذت تمتحن الإرادة الإمبراطورية الأميركية التي أدت إلى فتح ثغرات عميقة في الإدارة والرأي العام الأميركيين. ولا أدل الى ذلك من كتاب"خطة الهجوم"لمؤلفه بوب وودارد المحقق الصحافي اللامع في جريدة"واشنطن بوست"، الذي سلط الضوء على العراك المحتدم الذي نشأ بين كولن باول وزير الخارجية ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع وديك تشيني نائب رئيس الجمهورية، وكذلك فريق الليكوديين في البنتاغون الذين يصفهم باول ب"الغستابو". ومأساة كولن باول هي أنه اختار الولاء لرئيس لا يوافق مطلقا على سياساته. استراتيجية شارون المراوغة لا شك أن إسرائيل تكمن في قلب الفوضى الدولية التي نشهدها حاليا. فلقد خطط مؤيدوها في واشنطن للحرب ضد العراق وأصروا على شن هذه الحرب ظنا منهم بأن ذلك سيساعدها على إلحاق الهزيمة بالفلسطينيين. وأصبحت الخلافات على كيفية حل الخلاف العربي الإسرائيلي هي الموضوع الأساسي للتنافر بين أوروبا والولاياتالمتحدة. وبدت أوروبا عاجزة عن إسماع صوتها، وذلك بسبب تغلغل"أصدقاء إسرائيل"بشكل واسع وعلى مستوى عال داخل الحكومة الأميركية. وهذه ظاهرة ملفتة للنظر في السياسات المعاصرة. و في هذه الأثناء، لا تزال المذبحة اليومية التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين تثير ضمير العالم المتحضر، ولكن أحداً لا يعرف كيف يوقفها. لا شك أن ذكرى مذبحة اليهود النازية بالإضافة إلى آلية الإعلام العالمي التي لا مثيل لها، أعطت إسرائيل قدراً كبيراً من المناعة. تبدو استراتيجية شارون الساخرة في غاية الوضوح، فمن أجل الاستيلاء على مزيد من أراضي الضفة الغربية، يستغل شارون استغلالا كاملا دعم الرئيس الأميركي الضعيف والحريص على أصوات اليهود الأميركيين و"المسيحيين الصهاينة"الأصوليين في هذه الفترة الانتخابية. وقد بذل شارون العازم على تفادي المفاوضات مع الفلسطينيين بأي ثمن لأنها لا بد أن تؤدي إلى إرجاع أراض إلى الدولة الفلسطينية التي ستنشأ كل جهده لتدمير السلطة الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات. وهو يتهم بعد ذلك هذه السلطة الضعيفة والمزعزعة بعدم القيام بالتزاماتها لضبط نشطائها. فتقوم إسرائيل بحجة"الدفاع عن النفس"باغتيال الزعماء الفلسطينيين وبهدم ما تبقى من المجتمع الفلسطيني بالجرافات. ثم يأخذ شارون وحلفاؤه من أقصى اليمين بترديد حجة أنه لا يوجد أمام إسرائيل طرف فلسطيني للتحدث عن السلام وهذه هي النتيجة التي ناضل شارون لتحقيقها. لا أحد بما في ذلك جورج بوش وتوني بلير يصدق هذه الأكاذيب المفضوحة، ولكن ما من أحد مستعد للتدخل من أجل إنقاذ إسرائيل من نفسها القاتلة أو من أجل حماية ما تبقى من فلسطين الجريحة والمقهقرة. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط.