بين دبي وام المدن الصينيةشنغهاي اكثر من رابط وملمح، فكلا المدينتين تشهدان طفرتي الاقتصاد والاستثمار، والغلبة فيهما الى منطق المدينة -المتروبوليس الحاضرة. في الاولى تأتي النهضة كتراكم لثروة النفط التي مكنت الجيل الجديد من حكامها الى تسبيق حكمة السوق وتوابعه من اجل تحويل دبي الى مدينة عصرية تتمتع بأكبر قدر من المناورة التجارية وعلى اكثر من واجهة، فيما تكرست نهضة شنغهاي في التاريخ المعاصر منذ الحرب العالمية الاولى حين شرعت واجهتها البحرية امام جحافل احفاد المستعمرين الأول من المستثمرين والمغامرين الاوروبيين الذين سيحيلونها الى درة اسيا التجارية، لكن شنغهاي - مثلما دبي - احتاجت الى زمن حداثي كي تتحول من ميناء للتداول الى مدينة صناعية هائلة القدرات، وسوق مفتوحة على جميع القطاعات، ويطال تأثيرها عواصم العالم. وكما دبي الساعية الى استقطاب ملايين السياح، لما تتميز به من ديناميكية متسارعة في قطاع السياحة وتنظيم شهور التسوق ومهرجانات الجذب السياحي خصوصاً العائلي منه، تحاول شنغهاي ومنذ نهايات القرن الماضي تحويل الاهتمام نحو تفعيل السوق السياحية التي نجحت في استقطاب 8 ملايين سائح داخلي، وثلاثة ملايين مثلهم من الاجانب، مستهدفة السائح النوعي الذي يتحمل اكلافاً معتبرة مقابل خدمات عالية الجودة. لذا فان كلتا المدينتين خصصتا اموالاً وجهوداً جبارة لبناء عشرات آلاف من الوحدات والاحياء السكنية والفنادق والمنتجعات وغيرها، ورصفتا عشرات الاف من الكيلومترات من الطرق السريعة والمعابر والارصفة، اضافة الى الرياض والمنتجعات والمنتزهات والاسواق المركزية وخطوط النقل وكل ما يتعلق بتسهيل يوم المقيم والسائح على حدٍ سواء. شنغهاي اليوم عبارة عن ورشة عمل، بدأ مشروع تحديثها منذ 15 سنة ماضية، حيث أفلحت حكومتها المركزية في ازاحة "الهم الشيوعي" وبيروقراطييه من معرقلي عملية الانقلاب الاقتصادي في المدينة التي يقطنها عشرين مليون من البشر اضافة الى ثلاثة ملايين وافد يومياً. ومع ارتفاع ناطحات السحاب واشهرها برج حياة "جينماو" الذي يتفاخر الشنغهاويون بأنهم تمكنوا من بناء اعلى برج في العالم 88 طابقاً، تحولت شنغهاي الى "افعوان اقتصادي" استقطب وما زال اشهر العلامات التجارية والشركات الدولية آخرها مصمم الازياء الايطالي الشهير جورجيو آرماني الذي اشرف على افتتاح اول متجر لشركته في المدينة وهو واحد من 30 متجراً في عموم البلاد. ولا يمضي يوم من دون ان تشهد قاعات الاجتماعات في الفنادق الفخمة مؤتمرات دولية تتعلق بالتحفيز الاستثماري والتكنولوجي والاداري وغيرها. غير ان ام المدن الصينية لا تترك زائرها حتى وان كان مهموماً في عمله من دون ان تغريه بجمال مواقعها الآخاذة، فبعد يوم مزدحم سيجد المرء نفسه مدفوعاً لاكتشاف العلامات السياحية الفارقة على وجه شنغهاي الجميلة، واولاها ممشى البوند الذي اوجده نهر هوانغابو هبة النهر الاصفر العظيم او اليانغتسي، وهو رئة فسيحة يتجمع عند ضفتها الزوار والمقيمون ليمتعوا انظارهم بأكثر المشاهد سحراً. ففي صوب البوند ترتفع اشهر بنايات ما يسمى ب"رواق المعمار العالمي" ويضم 22 بناية، حيث تتراصف الواجهات من الطراز الغوطي والاعمدة الباروكية والقبب الاغريقية القديمة والشرفات الاسبانية. ويعود زمن بناء اقدمها الى العام 1897بناية بنك الصين التجاري سابقاً واحدثها الى العام 1948 فيديرالية شنغهاي لنقابات العمال. وسيكون على الزائر انتظار الليل كي يشاهد الإنارة الباهرة التي صممت خصيصاً لإظهار جماليات تلك الواجهات، وافضل وسيلة للتمتع بهذا المشهد هو حجز مقعد في احدى العبارات النهرية التي تقدم احدى افضل وجبات المطبخ الصيني. وعلى الضفة المقابلة ترتفع اكبر غابة من الابراج في محيط لويجيازوي المسمى بالحزام الاخضر او "الرئة الخضراء للمتروبوليس" وهو الحي المالي، وفي مقدمها "برج اللؤلؤة الشرقية" التلفزيونية المميز بقبتيه ارتفاعه 468 متراً الاعلى في آسيا، والثالث الاعلى في العالم بعد برجي تورنتو وموسكو، ويمكن للزائر الصعود الى القبة العلوية لرؤية المدينة بانورامياً، وهي تضم محلات لبيع التذكارات دقيقة الصنع لأبرز معالم شنغهاي. لا تكتمل زيارة المدينة من دون اسواقها العديدة، فهي صور مختزلة لتأريخها الضارب في الزمن يعود بناء شنغهاي الى القرن السابع قبل الميلاد كقرية لصيادي السمك وكانت تسمى شين او هو تو، وشهدت نمواً مع اشتداد قوة سلالة سونغ التي وجدت في بحيرة تاي الشاسعة مركزاً لتجارة امبراطورية زراعية قوية لم تفلح هجمات المغول في اختراقها. وخلال حكم سلالة مينغ عرفت شنغهاي توسعاً في زراعة القطن ومن ثم صناعة الحرير. ومنذ العام 1842 سقطت المدينة تحت الاحتلال بالتتابع للبريطانيين والفرنسيين والاميركيين واخيراً اليابانيين، الامر الذي عجل في تحولها الى اكبر ميناء وصلت فيه نسبة التحميل الى 25 في المئة من صادرات وواردات البلاد، لكن هذا الازدهار تعرقل مع اضطرابات "30 ايار مايو عام 1924" التي قادها الشيوعيون ضد الرأسمال الوافد، وكذلك خراب الحرب الصينية - اليابانية. وكان على شنغهاي الانتظار حتى العام 1960 كي تنهض من رمادها. ففي وسط البوند يتقاطع شارع نانجينغ الشهير والخاص بالسابلة حيث تتوافر المحال بمختلف البضائع العالمية، والشارع عبارة عن فرح من الاضواء والاشارات الملونة ويعج بالآلاف من المتبضعين والمضاربين والتجار الصغار ... وايضاً تجار البضائع المزورة والتي تعد احدى علامات شوارع واسواق واحياء شنغهاي. وهذه التجارة الممنوعة رسمياً، لكنها ذات ثقل لا يقارع، يجد كثير من السياح ضالتهم في العلامات التجارية الشهيرة من ساعات واقلام واكسسوارات مزورة باتقان، وتعرض لهم بأسعار بخسة، يستطيع المرء الذي يملك قدرة على المضاربة ان يصل بالاسعار الى حدود متهاودة لا تتجاوز بضع دولارات! وآخر صرعة في هذه التجارة، التي تتوافر ايضاً في اسواق الحي القديم عند شارع هينان ومدينة يويوان التجارية وغيرها، بيع الاقراص المدمجة لاحدث الافلام الاميركية التي لم يصل وقت عرضها تجارياً بعد، لكن المتطفل من الزوار يمكنه اقتناء ثلاثيتي "سيد الخواتم" و"ماتريكس" بجودة تقنية في الصورة والصوت وبسعر لا يتجاوز الدولار للقرص الواحد. وهذه العلة التجارية تجد رواجاً من سياح جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، ويتم لاحقاً تسريبها الى الاسواق الاوروبية لتباع بأضعاف اسعار "لصوص شنغهاي" الذين ينسخون بحرفية عالية برامج الكومبيوتر والالعاب الالكترونية.