لم يكن المهرجان الشعري الأول الذي احتضنته مراكش مجرد ملتقى، بل كان ربيعاً حقيقياً. ربيعٌ فاجأ الشعراء الذين وجدوا أنفسهم يقرأون أمام جمهور مختلف غير ذاك الذي تعوّدوه. فالأمسيات كانت تنظم في حدائق المدينة ومدارسها وقصورها القديمة، وحتى في سوقها المركزي حيث ألقى الشعراء قصائدهم أمام نساء يتبضّعن. وبدا الكل سعيداً باحتضان الشعر حتى أن أحد الجزارين لم يتردد في مغادرة محله والتقدم من مديرة المهرجان مقترحاً عليها المشاركة بمحفوظاته من شعر بودلير. شخص آخر، كان عابراً فقط، لم يكلف نفسه عناء الاستئذان فاقتحم الساحة بعفوية وبدأ ينشد إحدى رباعيات الشيخ عبدالرحمن المجذوب. لكن الموقع الذي فاجأ الشعراء أكثر لم يكن سوى ضريح المعتمد بن عباد في قرية أغمات المجاورة لمراكش حيث تحلق شعراء من محتلف اللغات واللهجات حول ضريحه وبدأوا يقرأون قصائدهم في حضرة أمير إشبيلية بخشوع. لم يكن الشاعر الفرنسي أندره فلتير طامعاً في عطاء الأمير الراقد هناك، لكنه بدا مستشعراً قوة حضور المعتمد وحريصاً على ألا يتكلم في حضرته إلا همساً. في فضاءات مراكش ذات الألفة الشعرية الأصيلة تناوب أكثر من ثلاثين شاعراً على منصات مرتجلة: جون بيير فيرهيغن من بلجيكا، إيتيل عدنان وفينوس خوري غاتا من لبنان، باباكار سال من السنغال، جمال بدومة وأحمد لمسيح وياسين عدنان من المغرب، إضافة إلى الفرنسيين: هنري دولوي، نيكول دو بونشارا، جون كلارونس لامبير، جام ساكري، أندره فلتير، ثم صافو الشاعرة والمغنية الفرنسية المولودة في مراكش والتي حاصرها محبوها وأجبروها على الانسلاخ من إهاب الشاعرة لتغني لهم قليلاً، وهكذا وجدت نفسها تجترح وسط القراءات فسحة للطرب الغرناطي الذي ورثته عن أصولها اليهودية الأندلسية. ولكن بعيداً من القراءات الجماعية أفرد المركز الثقافي الفرنسي في مراكش الإطار المنظم لهذا المهرجان أمسيتين خاصتين لكل من أدونيس وعبداللطيف اللعبي. وهو ما كان منطقياً بل وضرورياً بسبب شعبيتهما. فمثلاً حينما التحق المشاركون في المهرجان في قصر الباهية التاريخي لحضور أمسية أدونيس اكتشفوا أن القاعة مليئة تماماً بجمهور غير ذاك الذي كان يتابعهم. جمهور جاء خصيصاً من أجل أدونيس وملأ القاعة ساعة قبل الأمسية ليجد الشعراء المشاركون أنفسهم يتابعون الأمسية وقوفاً وخارج القاعة. أدونيس قرأ مقتطفات من ديوانه الأخير "أول الجسد آخر البحر"، وحيّى مراكش هذا "المسرح الذي تتداخل فيه لحظات الغياب والحضور والوعي والسحر والمادة والحلم والواقع والأمس والآن. "أما أمسية عبداللطيف اللعبي في المركز الفرنسي فجاءت استئنافاً لمسرحية "الشمس تحتضر" لمسرح اليوم التي كان اللعبي وقف خلالها على الخشبة إلى جانب ثريا جبران ومصطفى باقبو نجم مجموعة "جيل جيلالة" وعازف "الهجهوج" في الفرقة. غابت ثريا جبران عن لقاء المركز، لكن اللعبي وباقبو نجحا في تنسيق عرضهما الفني المشترك. واللعبي لم يترك الفرصة تمر من دون أن يقرأ اعتذاراً شعرياً بليغاً ضمَّنهُ قصيدةً جديدة له أرادها رسالة اعتذار من الشعب المغربي الى الاسبانيين الذين وقعوا ضحية تفجيرات مدريد الأخيرة. مراكش "بابٌ تدخل منه إلى الطفولة أي إلى الشعر" كما قال أدونيس، ولا شك في أن المزيد من الشعر والطفولة ينتظران أصدقاء الشعر وراء هذا الباب ذي الزخرفة الساحرة.