هراءٌ ان كل هذه السنين مع طولها قد فرقت بينهما! بين جسدين تمرغا في تربة واحدة، وتمسحا في جدار واحد، تربيا معاً في حارة قد تضيق عن كل شيء إلا عن حميمية تغزلهما ذاتاً واحدة. تنسرب مع تعرجات الجداول الصغيرة التي تخلفها ليلة ممطرة راعدة أخافتهما وأخفتهما ملتصقين بإزار والد مبلل، أو ثوب لوالدة عابق برائحة البخور والعنبر... كان يحلو لهما بعد أن ينتهي المطر أو يهدأ انهماره أن يركضا في الزقاق الفاصل بين منزلي عائلتيهما، يلاحقان مسيل المطر بضجيج بهجة تحتلهما وتفيض عن روحهما ضحكات وصخباً فتياً، لا يتوقف الركض حتى توغل بهما جداول المطر وتعلن الشمس بانكفائها خاتمة الفرح اللذيذ. يعود كل منهما الى بيت أهله على أمل التلاقي صباح غد ليصنعا عدداً من قوالب الطين بعلب الكبريت الفارغة. تبادر هي بالتأكيد عليه ألا يتأخر عن موعد الشمس وأن يستلّ كل ما يصل الى يديه من علب كبريت في مطبخ والدته، كما ستصنع هي، تودعه بعدها ضاغطة بأصابعها على كفيه الصغيرتين. اليوم وبعد كل هذه السنين التقيا. الغضون بادية في جبينه. الزينة في وجهها تعلن أن أنثى تمّ نضوجها وأينعت أغصانها... هذه الملامح جللت اللقاء برداء غير خاف من الوقار. وبقيت العيون تبوح بجذل طفولي قديم يعانق مكعبات الطين وعلب الكبريت المسروقة. قبل أن تنشر الشمس ضياءها على حارتهما الصغيرة كان الصغيران يخرجان من ملابسهما ما تمكنا من سلبه من علب الكبريت، بعضها متسخ يشي بقمامة أُخذ منها، وبعضها نظيف يخبر أن أعواداً كثيرة قد رميت قبل أن تشتعل بها نار. في منعطف منزوٍ من شارع الحارة الصغير قعدا يعبئان علب الكبريت بالطين المبتل من أثر مطر البارحة، بعد فترة طويلة من استغراقهما في اللعب ومع آخر علبة كبريت يخرجها من جيبه تناهى الى أسماعهما صوت أمها تنادي عليها نداء غير ملحٍّ تجاهلته الفتاة. أشار الى رفيقته، رأته يخرج من علبة نظيفة اثنين من أعواد الكبريت. أطلقت ضحكتها التي يحبها كثيراً... وأزاحت عن عينيها خصلات من شعرها وذرات من الطين الملتصق بجبينها وقد فهمت اللعبة التي يقصدها رفيقها الجريء. كانا يقلدان الكبار. ناولها عود ثقاب وأخذ الآخر. اشتعلت النار، ثم أطفأ كل منهما شعلته بنفخة من فم صاحبه. غرس عوده في فمها وأطبق هو على عودها. برهة صغيرة من الزمن، تلاقت نظراتهما. وأنفاسهما مكتومة، بانفراجة الشفاه الصغيرة تدافعت دوائر الدخان بزهو وهدوء. تضاحكا واستلقيا على الأرض الندية مفسدَيْن بعض ما صنعا من مكعبات الطين. اليوم. كان الزمان قد استدار. الأجساد تباعدت. البراءة انطفأت وغابت... وفي العيون أعواد ثقاب تبوووح.