أي شعور ينتاب المرء حين يطلق أحدهم عليه النار، إثر خلاف مادي، فيصيبه في نقطة حساسة من جسده، مسبباً له الشلل النصفي الدائم وهو في ريعان الشباب؟ «إنه أشبه بعود الكبريت (الثقاب) الذي يُرمى بعد استعماله لانتفاء الفائدة منه أو الحاجة إليه مرة أخرى»، يجيب اللبناني توفيق ضاهر (51 سنة) الذي عاش تلك التجربة المرّة بدمع العين وحسرة الفؤاد. كان توفيق في ربيعه الثاني والعشرين حين حكم عليه شخص بالموت... لكن الله لم يحكم. ففقد قدرته على المشي ليصبح قعيداً تذروه رياح العجز المبكر. وبفضل إرادة من حديد، حوّل توفيق مصيبته نجاحاً، بعدما سدّت في وجهه أبوابه العمل وسبل العيش الكريم، مجسّداً مقولة: «كل ذي عاهة جبّار»! استثمر توفيق ضعفه وقلّة حيلته، وراح يبني حلماً كبيراً من عيدان الكبريت المهملة التي تشبه حاله، جاعلاً منها مصدر عيشه وكفاف يومه. فبدأ بصنع غلاف ولاعة من الكبريت، فإطارات للصور... وصولاً إلى مجسّم قلعة بعلبك. لفت توفيق أنظار محيطه بفضل موهبته ودقته في العمل وتفاؤله بالمستقبل... وإصراره على تجاوز العقبات وكسر الحواجز. وراح يطوّر موهبته شيئاً فشيئاً، مطوِّعاً عيدان الكبريت بأنامله، صانعاً منها مجسّمات فنية ضخمة تبهر الأعين وتدهش العقول. ومعرضاً بعد معرض، سطع اسم توفيق ضاهر «صانع الدهشة» في بلاد الأرز. وتبنّت موهبته السيدة مارغو كبي التي أخذت على عاتقها مساعدته مادياً لإبداع مزيد من المجسّمات، فكانت ولادة سفينة «تايتانيك» من 18 مليون و400 ألف عود كبريت، بطول 3 أمتار وعرض 60 سنتمتراً وارتفاع 180 سنتمتراً، والتي استغرق «بناؤها» سنة ونصف السنة، لتدخل موسوعة «غينيس» العالمية للأرقام القياسية في 25 آب (أغسطس) 2002، كأكبر سفينة مصنوعة من عيدان الثقاب. ولم يكتف توفيق بذلك، فصمم على تسجيل رقم قياسي جديد. وكان له ما أراد في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 2009، بعدما بنى مجسّماً لبرج «إيفل» الفرنسي الشهير من 6 ملايين عود كبريت ونصف طن من الغراء، بارتفاع 6،53 متر و6240 مصباحاً كهربائياً، كأكبر برج مصنوع من عيدان الكبريت في العالم. وها هو منشغل اليوم في التحضير لأول معرض من نوعه في العالم لمجسّمات عملاقة مصنوعة من عيدان الكبريت، سيفتتح غداً في قصر اليونيسكو في بيروت برعاية وزارة الثقافة اللبنانية. ولم يُخمد الرقم العالمي الثاني طموح توفيق إلى مزيد من الأرقام القياسية، فها هو اليوم يحلم ببناء مجسم للمسجد الأقصى من عيدان الثقاب، ليدخل به «غينيس» للمرة الثالثة، في انتظار التمويل اللازم للمشروع (25 ألف دولار). «لا شيء مستحيلاً تحت الشمس»، يقول توفيق والأمل يملأ عينيه.