تبدو الجزيرة السورية حزينة كئيبة، على غير عادتها في مثل هذه الأيام من كل عام، وهي تستعد لاستقبال اعياد الربيع، "نيروز" الكردي، و"اكيتو" الآشوري، و"الفصح" المسيحي و"الجلاء" السوري. فبعد الحوادث المؤلمة التي شهدتها القامشلي، وباقي مدن الجزيرة في 12 و13/3/2004، وما تركته من آثار سلبية على المزاج العام في المجتمع، ألغيت معظم مظاهر الاحتفالات والفرح بهذه الأعياد. وبحكم مركز عملي القريب من ملاعب السابع من نيسان ابريل في مدينة القامشلي، تمكنت من مشاهدة كثير من الوقائع. داخل الملعب فريق وجمهور دير الزور المحاصر يهتف للرئيس العراقي السابق، خارج الملعب جمهور من اكراد القامشلي الغاضبين يحرقون العلم الوطني السوري، ويسقطون مسؤولين ويهتفون لكوردستان والرئيس الأميركي جورج بوش، على مسمع محافظ الحسكة، وأمين فرع حزب البعث الحاكم، وباقي المسؤولين في المحافظة. إذاً مجموعتان سوريتان متخاصمتان على ارضية عرقية/ اثنية، احداهما عربية والأخرى كوردية. الخصمان على طرفي نقيض، لكنهما يلتقيان في التحلل من الشعور الوطني والتجاوز على سيادة الوطن. هذا المشهد يكشف عمق الشرخ الكبير في بنية المجتمع، وهشاشة الوحدة الوطنية. تأزم الوضع، واشتدت المواجهات بعد قدوم مُحافظ الحسكة الى الملعب، ربما باعتباره اعلى سلطة تنفيذية، والحاكم في المحافظة، وكانت تتملكه الثقة بأنه بمجرد وصوله الى ساحة المواجهات، ستهدأ الجماهير، وينضبط الوضع. لكنه لم يدرك ان الجماهير الغاضبة والهائجة لم تعد تعطي اي اعتبار او قيمة لأعلى القيادات والمسؤولين في البلاد، وأسقطت من حساباتها القوانين والأحكام العرفية. صدم المحافظ عندما استقبله الجمهور الكوردي الهائج بوابل من الحجارة. فبدأت قوات حفظ النظام بإطلاق الرصاص بغزارة في الهواء، لتفريق المهاجمين، ما تسبب في وقوع قتلى وجرحى. وبدأت الجماهير الغاضبة تزداد عدداً وهيجاناً. وباشر المحافظ، على الفور، اتصالاته، بجهاز هاتفه الخلوي، مع الجهات المسؤولة والمعنية في العاصمة دمشق، ليضعها في صورة الموقف وتطورات الأزمة. وقد سمعته، وهو يقول متحدثاً بالهاتف: "ان بعض الأحزاب السياسية الكوردية المناوئة استغلت المباراة لإحداث شغب وفوضى في المدينة لأغراض سياسية". وقد تمسك السيد المحافظ برؤيته هذه في حديث له مع مسؤولي المؤسسات والفاعليات الرسمية والشعبية في المحافظة، الخميس في 25/3، كما نقلتها "الحياة": "ان احداث العنف والشغب التي حصلت في عدد من المدن السورية كانت في اطار مخطط كبير تضمّن القيام بأعمال عنف واحتلال مؤسسات حكومية في مناسبة عيد النوروز الذي يصادف 21 آذار...". وأشار السيد المحافظ، في حديثه، الى وجود شريط "فيديو" يكشف قيام اشخاص بإطلاق نار من الأبنية المجاورة لملعب القامشلي على الحاضرين. اعتقد ان كلام السيد المحافظ ليس دقيقاً، ولا اظنه يقنع احداً. إذ لا توجد مبانٍ مطلة في شكل مباشر على الملعب. ثم لو افترضنا ذلك صحيحاً، فالذي يطلق النار هل بمقدوره ان يحدد من سيصيب، والملعب يكتظ بالجماهير؟ كان من المستحسن لو اعترف السيد المحافظ ببعض الأخطاء التي حصلت من جانب الجهات المعنية في تعاملها مع المشكلة، واعتذر لأهالي الضحايا. لا اعتقد ان القوى الكوردية كانت قد خططت لمثل هذه الأحداث او لغيرها. وهذا ما تبين لنا في "المنظمة الآثورية الديموقراطية" عندما التقينا وفداً من القيادات الكوردية - بناء على طلبهم - في اليوم الأول. وجدناهم في حال ارتباك حقيقية، وقد ابدوا خشيتهم من تجدد اعمال العنف والمصادمات اثناء تشييع القتلى. لذلك طلبونا للتشاور والعمل معاً للتهدئة وضبط الوضع. ولكن تسارع الحوادث بالشكل الدراماتيكي الذي حصل في اليوم الثاني، 13/3، وامتداد التظاهرات الكوردية، الى المناطق والمدن التي فيها اكراد، هو مؤشر على ان بعض القوى السياسية في الحركة الكوردية ارادت توظيف الحدث لغايات سياسية قومية وحزبية، في هذا الظرف السياسي. وأظن ان هذه حال عامة، وليست استثنائية خاصة بالأكراد. لا شك في ان كل القوى اخطأت منذ اللحظة الأولى في تعاملها مع مقدمات المشكلة، ثم مع الأزمة ذاتها، خصوصاً الجهات المسؤولة عن المباراة، ثم الجهات المعنية بالأمن وحفظ النظام في المحافظة، باعتمادها على اسلوب اطلاق الرصاص في الهواء لتفريق المتظاهرين الذي تسبب في وقوع ضحايا. وهذا أجج مشاعر الطرف الكوردي، وبعث شعوراً لديه بأن الدولة باتت طرفاً في المشكلة. وحاولت بعض الجهات المسؤولة اقحام العشائر العربية في المشكلة. وفي المقابل الحركة الكوردية اخطأت في طريقة تعاطيها مع الحدث، وفي طريقة قيادتها الحركة الاحتجاجية في الشارع الكوردي. إذ تركت الساحة مفتوحة للمتطرفين والغوغائيين من الأكراد الذين أخرجوا المسيرات الكوردية من اطار الاحتجاج على قتل بعض الأكراد الى احتجاج سياسي رافقته اعمال عنف وتخريب وتدمير، طاولت المؤسسات والممتلكات العامة والخاصة في اكثر مدن محافظة الحسكة. كذلك بالغت بعض القوى الكوردية كثيراً، خصوصاً الإعلام الكوردي الخارجي، في تصوير الحوادث، فاعتبرها بعضهم عمليات ابادة لأكراد سورية. كما تعامل مع التظاهرات على انها مقاومة كوردية لقوات احتلال او مستعمر طالب بخروجها مما يدعونه "كوردستان سورية". واقتحمت بعض الجاليات الكوردية السفارة السورية في بروكسيل، ورفعت العلم الكردي فوقها. فبدلاً من ان تقود الحركة الكوردية الجماهير الكوردية تحت شعارات وطنية تدعو للتآخي القومي والعيش المشترك بين ابناء الوطن الواحد، على ارضية الوحدة الوطنية والمطالبة بإصلاحات سياسية وديموقراطية ورفع الغبن عن اكراد سورية وباقي فئات وقوميات المجتمع السوري، بدت الحركة الكوردية منقادة، تلهث خلف شعارات قومية متطرفة، وانطوت على نزعة انفصالية واضحة، كان يرددها بعض الغوغائيين من الجماهير الكوردية المتحللة من كل شعور وطني. ووضعوا الحركة الكوردية ليس في مواجهة السلطة والنظام الحاكم فحسب، وإنما في مواجهة مختلف القوى الوطنية، لا بل في مواجهة الوطن ذاته. ان ما شهدته الجزيرة السورية اوجع الوطن والمواطن معاً. لكنه لم يكن شراً في المطلق، إذ انطوى على بعض الإيجابيات، اقلها كسر حال الجمود السياسي التي تروض عليها المجتمع السوري. وهو قد يدفع القيادة السورية الى التخلي عن الحلول الأمنية في حل المشكلات والأزمات، والوقوف بجدية على اسبابها، والتعاطي بموضوعية وواقعية مع المسائل الوطنية، ومنها مسألة حقوق القوميات، تمهيداً لحلها على ارضية الوحدة الوطنية والديموقراطية، والإسراع في الإصلاحات السياسية، والاهتمام بمنطقة الجزيرة من حيث التنمية الاقتصادية والعلمية والخدمات الاجتماعية. وتحصين المجتمعات التعددية يستدعي توطيد اواصر العلاقة بين القومية العربية والقوميات الأخرى، من اكراد وآشوريين وأرمن وغيرهم، والإقرار بهذه التعددية، وبحق الاختلاف والاعتراف المتبادل بالحقوق المتساوية للجميع في الوطن المشترك. فالأقليات الخائفة تستهويها نداءات الخارج، حين ان الأقليات المطمئنة والمحصنة وطنياً تكون اكثر التصاقاً بالغالبية، ولا تتجاوب مع التدخلات الخارجية. القامشلي - سليمان يوسف يوسف كاتب آشوري مهتم بمسألة الأقليات. shosin@scs_net.org