يبدو أن الدروس التي كان يجب أن تستقى من تجربة مسار التسوية وما عرفته طاولة المفاوضات وكواليسها نُسيت من جانب البعض، أو جُهلت، أو تم تجاهلها عن عمد. ولهذا تراهم اليوم في معالجتهم لقضايا الصراع داخل فلسطين، أو على المستوى العربي الاسرائيلي، يشددون النكير على القيادات الفلسطينية ويحملونها مسؤولية ما حدث وما يحدث، وما يمكن أن يحدث. وبالطبع عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين فالاستذة عليهم تصبح سيدة الموقف سواء بإعطاء الدروس في فن السياسة وادارتها، أو بأساليب الكفاح ومقاومة الاحتلال. يخطئ من يتصور للحظة واحدة ان المشكلة في فشل مسار اتفاق اوسلو ولنقل حتى الآن، وصولاً الى وضع "خريطة الطريق" على الرف، تعود الى الأخطاء السياسية التي ترتكبها القيادات الفلسطينية من الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات مروراً بمحمود عباس الى قيادات "حماس" و"الجهاد" و"فتح" والشعبية ولا تُستثنى قيادة فلسطينية معتبرة. ووصل الأمر بصحافي فلسطيني ان قال ان بإمكان الفلسطينيين لو جمدوا انتفاضتهم ومقاومتهم، ولم يشترطوا ان يوقف شارون هجماته عليهم، واطلقوا يد رئيس الوزراء احمد قريع لا أحد ممسكاً يده للتحرك السياسي ومعه الورقة الفلسطينية، لاضطرت أميركا الى منع شارون من تنفيذ خطته الجديدة واعادة الحياة لحركة المفاوضات، فلا تنشغل في الانتخابات الرئاسية التي حمي وطيسها، منذ الآن، عن الاهتمام بالتسوية بين الفلسطينيين وحكومة شارون. طبعاً هؤلاء قرروا ان يخطئوا دائماً في تقدير الموقف وفي فهم سياسات ادارة بوش واستراتيجيتها، أو فهم شارون وسياساته والدليل ما كتبوه عن قمة شرم الشيخ حين شارك فيها جورج دبليو بوش أو قمة العقبة الثلاثية التي حاولت الاستفراد برئيس الوزراء الفلسطيني محمود عباس. فقد عقدوا الآمال الكبيرة على جدية الإدارة الأميركية هذه المرة تلك المرة وقالوا العملية انطلقت، والمنطقة أخذت تخرج من أزمتها. لكن الذي حدث ان ما جاء به بوش الى قمتي شرم الشيخ والعقبة، وما اشترطه للمضي بخريطة الطريق المعدلة اسرائيلياً، أغلقا الأبواب منذ اللحظة الأولى أمام العملية السياسية. وكان المسؤول الأول والرئيسي عما حدث هو التطرف الذي حمله بوش وشارون ل"خريطة الطريق" وآليات تنفيذها وحتى لمحتواها الأول. وقد تقرر الفشل عملياً داخل قمة شرام الشيخ. هؤلاء نسوا ان طوال السبع السنوات في عهدي الرئيس الاميركي بيل كلينتون في أثناء مفاوضات التسوية حتى كامب ديفيد 2، كانت المشكلة اولاً وقبل كل شيء اميركية مصرية، واميركية عربية سورية سعودية مصرية. وكانت ثانياً مشكلة مصرية سورية سعودية من جهة واسرائيلية عمالية وليكودية من جهة أخرى. وبعد ذلك تأتي المشكلة فلسطينياً ولا حاجة الى التذكير بالتنسيق على أعلى مستوى بين القيادة المصرية والقيادة الفلسطينية الرسمية. عدا في عقد اتفاق اوسلو الذي أغضب مصر حين تم من وراء ظهرها. لكن عاد ياسر عرفات وسوّى الأمر معها طبعاً ليس من دون خلافات لاحقة خصوصاً بعد قرار عزله متعهداً ألا يخطو خطوة أخرى في طريق أي اتفاق إلا بموافقة مصر. ومن يتعمق أكثر يدرك ان السبب الأول وراء عزل عرفات كان عقاباً على ذلك التنسيق. فاتفاق أوسلو بالنسبة الى رابين وبيريز كان يستهدف اقامة سلطة موالية لهما تقبل بشروطهما للتسوية وتكون جسر اختراق الى الدول العربية. الى هنا يجب الانتهاء من الحملة التي تشن على المقاومة وبعد ذلك على الانتفاضة وما سمي بعسكرة الانتفاضة من جهة تحميلهما مسؤولية فشل التسوية. لأن الفشل جاء من داخل غرف المفاوضات لا من خارجها. بل أصبح الشعب الفلسطيني بغالبيته انتفاضة ومقاومة وصموداً بعد مسلسل تنازلات فلسطينية تعدت الخطوط الحمر ولم تقابل الا بطلب المزيد، فمن المسؤول عن الفشل؟ أما الحملات الأميركية على السعودية فهل لها من سبب غير عدم اعترافها بالدولة العبرية وعدم دخولها في عملية تطبيع معها، أو مناصرة الموقف الاميركي الصهيوني في مسألتي التسوية والشرق أوسطية، بما في ذلك مطالبتها بالوقوف ضد الموقف السوري واللبناني. فهذا ما يجب أن يُقرأ كخلفية وراء السياسات الأميركية كذلك. الخلاصة ان من الخلل الفادح عدم رؤية ان المسؤولية الأولى، بل المسؤولية بكاملها، تعود الى تطرف الموقف الاسرائيلي وحقيقة شروط التسوية التي يريدها، والى جانبه فوراً تماهي الموقف الأميركي معه في عهدي كلينتون. وقد تخطاه بوش الذي دخل مع شارون حروباً بشراكة اسرائيلية اميركية ضد فلسطين والمنطقة. ولهذا فإن مواقف مصر والسعودية الى جانب سورية ولبنان والفلسطينيين، لا سيما في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي لا يجوز أن تُحمّل بدورها أية مسؤولية الا من قبل من يؤيدون كامل المشروع المتطرف الاسرائيلي للتسوية كما تبدّى في المفاوضات وفي مشروع الشرق أوسطية، وتماهي الموقف الأميركي معه. وحتى ما يدور في ذهن البعض من هؤلاء اذ يلومون: لماذا لم تقبل شروط باراك على الجبهتين الفلسطينية والسورية لعقد التسوية، مع إجحافها، فيتم عن سذاجة إذ ظن ان المشكلة كانت ستحل لو قدمت التنازلات المطلوبة. لأن من التبسيطية ألا يكون معروفاً ان وراء تلك الشروط شروطاً أخرى ستخرج الى النور، بعد الموافقة، أو مع عمليات التطبيق. بل ربما دخلت المنطقة لو تم مثل ذلك بالتنازل في دوامة من الصراع أشد مما هو حاصل حتى الآن لتصبح ساحاته بيروت ودمشق والقاهرة، ولا تستثنِ عاصمة عربية، أولم يطالب شمعون بيريز بقيادة البلاد العربية؟ الذي يريد أن يفهم استرايتجية بوش منذ وصوله الى السلطة ولا سيما بعد بلورتها، إثر 11 أيلول 2001، مع الأخذ في الاعتبار أهمية نفوذ الصقور ما فوق الليكوديين في ادارته، عليه أن يقرأ فهمه لأسباب فشل سياسات كلينتون وفشل التسوية وما هي الصورة التي يريد بوش وفريقه أن تكون عليها فلسطين والشرق الأوسط، كما مكانة اسرائيل ودورها فيهما بعد التسوية. وبكلمة لقد توصلا الى نتيجة أساسها ان لا بد من تغيير حسب المطلوب في مصر والسعودية وسورية ولبنان وفلسطين، وبالطبع لا تستثنى دولة عربية، إذا أريد تحقيق الأهداف المذكورة، وهذا ما يفسر تلك الاستراتيجية ليس بعد 11 أيلول فحسب، وانما أيضاً خلال الشهور التي سبقتها منذ بداية عهد بوش. ويفسر العدوان على العراق وتهديد الجيران وجيرانهم بالمصير نفسه. اما ما حدث من تعثر وعرقلة لتلك الاستراتيجية، وفشل في فلسطين ولبنان وسورية والعراق، والمنطقة عموماً. وما يسعى اليه بوش الآن لتهدئة الأوضاع من أجل تمرير اعادة انتخابه فلم يغير بعد، في جوهر تلك الاستراتيجية، وتوجهاتها الاساسية. وما ينبغي لأحد اعانته على الخروج من مأزقه على حساب الانتفاضة والمقاومة وصمود الشعب الفلسطيني أو القضية الفلسطينية. انه يريد تهدئة ليلبس خوذة الحرب ضدنا من جديد.